قصّتي هي رسالة أمل لمَن يظن أنّ الحياة تتوقّف عندما يتخطّى المرء سنًّا أسماه المجتمع "سنّ الياس". عندما توّفي زوجي كنتُ في السابعة والخمسين مِن عمري واعتقَدتُ فعلًا أنّ كل شيء انتهى بالنسبة لي. فكان سليم رفيق الدرب وسنَدي الوحيد. أنجبنا سوّيًا ولدًا سرعان ما تركَنا ليذهب للعمل في الخليج ويطلّ علينا بين الحين والآخر.
ووجدتُ نفسي في بيت لا يسكنه إلّا صدى قدمايَ وشعرتُ بِوحدة قاتلة. فكنتُ أعتقد أنّني سأعيش حتى آخر ايّامي مع سليم أو أسبقه الى دنيا الحق ولم أكن جاهزة لِما أصابَني. فغرِقتُ بيأس لم أنجو منه سوى بمساعدة صديقة العمر نينا. كانت هي الآخرة مسافرة وحين جاءَت بعد سنَتَين في اجازة أتَت كعادتها لزيارتي. وجلسنا سويًا نبكي سليم الذي كان انسانًا طيّبًا ومحبًّا.
وفجأة صَرَخَت بي نينا:
ـ كفى بكاءً! هيّا! تعالي معي!
ـ الى أين؟؟
ـ البسي فستانًا جميلًا ورافقيني... انّها مفاجأة!"
وفعلتُ كما أرادَت لأنّني كنتُ أعلم أنّ لا فائدة مِن معاندتها فكانت دائمًا تصل الى مبتغاها.
وأخَذَتني الى مدرسة رقص الصالونات وعّرفَتني الى الأستاذ شاب لطيف وأوصَته بي. حاولتُ التهرّب ولكنّني سمعتُ نوطات موسيقى لاتينيّة وبدأت أرندح معها. فقلتُ لنفسي "لِما لا؟" فلا ضرر مِن الخروج مِن منزل فارغ مِن وقت لآخر والاجتماع ببعض الناس.
وعندما قصدتُ النادي لبدء الدروس تفاجأتُ بعدد التلامذة الشباب وخفتُ أن أكون أكبرهم. ولكن الأستاذ قال لنا:
ـ الشباب الى اليسار والأكبر سنًّا الى اليمين! بسرعة مِن فضلكم فال"تشا تشا تشا" لا تنتظر!"
وقبل أن أتحرّك مِن مكاني شعرتُ بِيِد تسحبني وصوت رجل يقول:
ـ ستكونين شريكتي... بالرقص طبعًا".
واستدَرتُ ورأيتُ رجلًا وسيمًا يكبرني ببضع سنوات. فابتسمتُ له بتهذيب وسألتُه أن كان مِن التلامذة القدامى فأجاب:
ـ لا... للحقيقة هذا يومي الأوّل... وكنتُ خائفًا مِن أن أجد نفسي بين جيل صغير وأضطر للحاق بنمطهم السريع وأتعب... وأنتِ؟
ـ أنا أيضًا.
ـ حسنًا... سنتعلّم سويًّا اذًا".
ونظرنا الى بعضنا وأظنّ أنّ تلك اللحظة كانت الحاسمة. وأستطيع القول والجزم أنّ الحبّ مِن أوّل نظرة فعلًا موجود.
ورقصنا وكأنّنا نعرف بعضنا منذ زمن طويل. وخلال الاستراحة أخبرَني عماد أنّه كان فيما مضى رجل قانون ولكنّه قرّر التقاعد ليرتاح ويتفرّغ لنفسه بعد حياة مليئة بالعمل على تحصيل حقوق الناس. وأضاف أنّه لم يجد الوقت ليتزوّج ويؤسّس عائلة وباتت الوحدة ثقيلة عليه.
أدرتُ وجهي عندما قال تلك الكلمات الأخيرة ربما لأنّه ذكّرني بحالتي أو لأنّه نظر اليّ بتمعّن وكأنّه يقصدني.
وبعد انتهاء الدرس عدتُ الى البيت وقلبي خفيف وكأنّني مراهقة تعرّفَت لتوّها الى الحبّ وفي تلك الليلة لم أنم جيّدًا وأنا أتذكّر عينيّ عماد وصوته وهو يقول لي:" سأكون بإنتظاركِ".
ولكن في الصباح عندما استيقظتُ شعرتُ بخجل عميق وركضتُ الى صورة سليم زوجي لأتكلّم معه كما اعتدتُ أن أفعل كلّما احتجتُ لرأي أحد:
ـ سليم... هل أنتَ غاضب منّي؟ أنا آسفة... لا أدري ماذا حصل لي... لو تعلم كم أنّ الوحدة بغيضة... يا لغبائي... أنتَ أيضًا وحيد... أو أنّكَ محاط بالملائكة... لم أعد أعرف شيئًا... ماذا تقول؟ هل أعود الى دروس الرقص أم أبقى هنا الى جانبكَ؟ قل لي!"
ولأنّني طبعًا لم أحصل على جواب مِن المرحوم زوجي قرّرتُ البقاء في المنزل وعدم متابعة الدروس.
ولكنّ قلبي كان ثقيلًا أفكّر باستمرار بذلك الرجل الوسيم والقويّ الذي دخَلَ قلبي بثوانٍ.
وبعد اسبوع أليم لم أعد أتحمّل الصمت السائد حولي فتوجّهتُ الى المدرسة ودخلتُ القاعة. ولكنّني لم أجد عماد وبدأ قلبي يدق بسرعة وشعرتُ بضياع مؤلم. كان هو الآخر قد تركَني. وقبل أن تمتلئ عَيناي بالدموع وألفت نظر الموجودين على يأسي سمعتُه يقول:" أنا هنا".
وأخَذَني بذراعي وأخَذَ يلفّ بي الغرفة:" لن أسمح لكِ بالابتعاد عنّي بعد الآن... لن أدَعَكِ تفلتين منّي!"
وضحكنا ورقصنا واسترجعتُ بسمتي وأملي في الدنيا. ولم نعد نفترق وقرّرنا أن نمضي آخر أيّامنا سويًّا. ولكنّني قلتُ له:
ـ عليّ التكلّم مع ابني أوّلًا".
لِذا اتصلتُ به وأخبَرته عن علاقتي مع عماد وحبّي له. فصرخَ بي:
ـ أنتِ أمّي واقعة في الحبّ؟
ـ أجل ولِما لا؟ ربما تفضّل أن أقضي حياتي وحدي؟ ليس لدَيّ الحق لأن أحبّ وأكون سعيدة؟ لم أنسىَ والدكَ لكنّه مات وأستطيع الجزم بفخر أنّني قمتُ بواجباتي تجاهه وتجاهك على أكمل وجه... اليس ذلك صحيح؟
ـ بلى يا أمّي ولكن...
ـ ولكن ماذا؟ تريدني أن أدفن نفسي قرب والدكَ؟ خذ رفشًا واحفر لي قبرًا... هيّا! وعندما تنتهي مِن ذلك عُد الى أشغالكَ مرتاح الضمير.
ـ لا... أرجوكِ يا أمّي كفّي عن هذا الكلام.
ـ لو كنتُ أنا التي متُ هل كنتَ ستقول ذلك لأبيكَ لو أراد الزواج مِن جديد؟
ـ لا...
ـ لأنّه رجل ومسموح له أن يبدأ مِن جديد... أمّا النساء فعليهنّ الموت موتًا بطيئًا... اسمع... أنا لم أقتل أباك كي أعاقب على موته...
ـ أعلم ذلك...
ـ ولا أطلب أذنكَ فيما يخص زواجي بل أخبركَ بالأمر... أعطَيتُكَ كل ما لديّ منذ ولادتكَ الى رحيلك... ولم أعد أملك سوى ذلك الأمل الأخير... أتريده هو الآخر؟
ـ أنا آسف يا أمّي... لم أرَ الأشياء مِن هذا المنظار... كنتُ أعتقد كباقي الناس...
ـ الناس! ماذا أعطاني الناس خلال حياتي؟ هل جلبوا لي السعادة؟ سمعتُ منهم واستمعتُ اليهم وامتثلتُ لتوصياتهم... خفتُ منهم وتجنّبتُ حكمهم عليّ... أين هم الآن؟ هل جاؤوا مواسين؟ هل حاولوا الترفيه عنّي؟ دعني أرى... لا.. ليسوا بقربي الآن... وتريدين أن أستمر بالتقيّد بهم؟ أنا حيّة يا أبني! حيّة!
ـ مبروك زواجكِ يا أمّي... سأكون أوّل الحاضرين.
- شكرًا حبيبي... لم أكن أتصوّر فرحي مِن دونكَ".
وتركتُ بيتي بعدما ودّعتُ سليم. اقترَبتُ مِن صورته وقلتُ له:
ـ ستبقى في قلبي الى الأبد... فلن يأخذ مكانكَ أحد لأنّ القلب كبير ويتّسع الى عدّة أنواع وأشكال مِن الحب... أنتَ الماضي الجميل وعماد هو المستقبل الواعد... اعلم أنّكَ فرح لي فلطالما كنتَ تعمل على اسعادي... اعذرني إن توقّفتُ عن التكلّم معكَ ولكنّني سأظلّ أصلّي لكَ كي تكون نفسكَ في مكان جميل... وسيأتي يوم ونجتمع مجدّدًا... وداعًا يا حبيبي".
وتزوّجتُ مِن عماد وأصبحنا ماهرَين في الرقص نذهب الى الحفلات ونبهر المتفرّجين بإيدائنا. وكل مَن رآنا نرقص يقول عنّا أنّنا نتحرّك سويًّا وكأنّنا شخص واحد. أليس ذلك أساس الحبّ؟
حاورتها بولا جهشان