رفَضَني أولادي

خسِرتُ حضانة أولادي الثلاثة بعد أن أصرّوا أمام المحكمة على العَيش مع أبيهم، وشعَرتُ بألَم عميق في قلبي وكأنّ أحَدًا غرَسَ فيه سكّينًا عملاقًا. فكَم هو مُحزِن أن ينقلِبَ الأولاد على التي أعطَتهم الحياة والحنان وكلّ ما لدَيها، لأنّ أباهم رجُل ثريّ وذا نفوذ كبير! بكيتُ لأيّام وأسابيع حتّى لَم تعُد لدَيّ دموع وأردتُ أن أموت، فما حاجَتي لأعيش بعد الذي حصَل؟ حاوَل أهلي وأصدقائي مواساتي لكن مِن دون نفعة لأنّني فقدتُ رغبتي بأيّ شي.

كلّ شيء بدأ بعد أن ولِدَ إبني الأصغر الذي جاء إلى الدنيا بعد ابنتَين، ففرِحَ أدهم أبوه لأنّ صارَ له أخيرًا مَن سيرِث اسمه. شعرتُ بالفخر والراحة، لأنّني لَم أعُد أُريدُ الانجاب، فاعتبَرتُ ولَدي خاتِمة مُعاناتي بعد أن تعذّبتُ بحَملي ثلاث مرّات مُتتالية. كانت عائلتي قد اكتملَت أخيرًا، وصمَّمتُ على العودة إلى العمَل حين يدخُل صغيري إلى الحضانة.

لكنّ أدهم لَم يكن مِن رأيي، فهو أرادَني أن أبقى ربّة منزل بدوام كامِل، خاصّة أنّه كان يجني الكثير بفضل تجاراته المُتعدِّدة. قبِلتُ على مضض، مع أنّني شعرتُ بالحاجة إلى التخالط ومواجهة التحدّيات المهنيّة. مرَّت السنوات وبدأتُ أُلاحظ على زوجي بُعدًا لَم أستطِع تفسيره بالتحديد، فحاوَلتُ التقرّب منه بشتّى الطرق، مِن دون نتيجة. وفي آخِر المطاف، إكتشفتُ أنّ لدَيه عشيقة، الأمر الذي كان يجدرُ بي التفكير به، لكنّني لَم أشكّ أبدًا بأنّ شيئًا كهذا بإمكانه أن يحدُث لي. وحين واجهتُه بالذي علِمتُه، أنكَرَ أوّلًا، ثمّ قال:

ـ حسنًا، أنتِ على حقّ، أنا أُعاشِر غيركِ.

 

ـ وماذا تنوي فعله بعد أن أقرَّيتَ بالحقيقة؟

 

ـ ماذا تُريدين أن أفعَلَ؟ أن أركَعَ أمامكِ وأطلبُ السماح؟

 

ـ شيء مِن هذا القبيل!

 

ـ هاهاها!

 

ـ أتضحَك؟!؟

 

ـ لَم يكن يجدرُ بكِ أن تواجهيني، بل أن تحفظي لنفسكِ ما علِمتِه، فبما أنكِ صِرتِ على علم بعلاقتي، لَم يعُد مِن اللازم أن أختبئ.

 

ـ يا لوقاحتكَ! ماذا لو قرّرتُ أن أترككَ؟!؟

 

ـ هيّا، إرحلي... لكن أتركِ الأولاد هنا، فلن أُعطيكِ إيّاهم.

 

سكتُّ طبعًا، فكيف لي أن أتخلّى عن أطفالي، فتحمَّلتُ الإهانة. لكن في داخلي صمَّمتُ على الرحيل يومًا.

مرَّت السنوات كنتُ خلالها قد كبَّرتُ أولادي وربّيتُهم على ما اعتقَدته أسُسًا متينة، لكنّ زوجي فعَلَ جهده ليستميلَهم بإعطائهم كلّ ما طلبوه، حتّى لو لَم يكن ذلك لمصلحتهم. وهكذا بدأتُ أصبح الإنسانة المُزعِجة في العائلة، التي تعترِض على كلّ شيء وتقِف في وجه سعادة أولادها. مِن جهة أخرى، وصلَت وقاحته لتعريفهم على إحدى عشيقاته، حين أخذَهم إلى مطعم أنيق وعرّفهم إليها بأنّها "صديقة مُقرّبة". وحين عادوا إلى البيت وأخبروني عن تلك المرأة، قائلين كَم أنّها جميلة ومُسلّية وأنّهم قضوا معها أجمَل الأوقات، نظرتُ إلى أدهم ورأيتُه يبتسمُ وكأنّه يتمتّع برؤية خذلاني وحزني. لماذا يفعل ذلك بي؟ هل يشعُر باللذّة في تحطيمي وإذلالي؟

ويوم باتَ ابني الصغير مُراهقًا، كان قد طفَحَ كَيلي بعد أن صرتُ العنصر الأضعف في العائلة، فردًا لا كلمة له أو نفوذ، بل فقط مُدبِّرة منزل تحمل اسم رجُل لا يحترمُها، أمًّا الأولاد لا يرَون فيها سوى ذِكر ماضٍ فيه حنان واهتمام. عندها قرّرتُ الرحيل.

وبفضل بعض المال الذي وضعتُه جانبًا في حساب مصرفيّ سرّيّ أنشأتُه لهذا الغرض مِن المصروف الشهريّ الذي كنتُ آخذُه مِن أدهم، إستطعتُ أن أرى مخرجًا شريفًا لحياتي البائسة. فخطّطتُ لاستئجار محلّ صغير أبيعُ فيه الملابس والحلى وبعض أدوات التبرّج، وأعيشُ في بيت أهلي مع أمّي التي كانت تعرفُ بالتفاصيل ما مرَرتُ وأمرُّ به. هي واخوَتي بقوا يحثّوني على عدَم الرحيل بسبب أولادي، لكنّهم رأوا كيف أُعامَل وفهِموا أنّ لا جدوى مِن المُحاولة، فكان دوري وسط عائلتي قد انتهى تمامًا. أمِلتُ أن أفوزَ بحضانة أولادي بعد أن أُبيّن للمحكمة كيف أنّ والِدهم يُواصلُ العلاقات والعشيقات، وكيف أنّه يُدلِّعُ أولادنا بشكل غير صحّيّ أو تربويّ. فكانوا لا يزالون جميعًا قصّارًا وبحاجة إلى توجيه وعناية مِن قِبَل أمّ حنونة وعاقِلة. كنتُ أعلَم أنّ دلَع أبيهم لهم كان يستميلُهم، لكن أمِلتُ أن يكون حبّي لهم هو الفائز داخل قلوبهم. إلّا أنّهم انقلبَوا ضدّي، ثلاثتهم، ورفضوا أن يعيشوا معي على الاطلاق.

وكأنّ ذلك لَم يكن كافيًا، قالَت لي ابنتي البِكر: "إن بقيتِ مُصِرّة على أخذِنا مِن أبينا، سنقولُ إنّكِ امرأة غير خلوقة. أنتِ تريدين الرحيل وليس نحن، فارحَلي واتركينا وشأننا. صحيح أنّ لأبينا خصالاً سيّئة، لكنّكِ تحمّلتِها لسنوات وبإمكانكِ التحمّل بعد. هذا قراركِ وحدكِ".

ذُهِلتُ لسماع هذا الكلام، وأدركتُ أنّ كلّ ما فعلتُه لأولادي ذهَبَ سُدىً أمام إغراء المال. وهكذا تطلَّقتُ وانتقَلتُ للعَيش مع أمّي. وبعد فترة اكتئاب وحزن عميق وأسَف لا حدود له، إفتتَحتُ محلّي وبدأتُ بالعمَل. والحقيقة أن تعامُلي مع زبوناتي أعطاني بعض الفرَح والتسلية، وكنتُ أنسى خلال بضع ساعات ما آلَت إليه حياتي. بقيتُ على تواصل هاتفيّ مع أولادي الذين كانوا يُجيبون على اتّصالاتي ورسائلي حين يروقُ لهم ذلك، أي مِن حين لآخَر، وأحيانًا بَعد أيّام عديدة. كنتُ قد صِرتُ خارج دائرة حياتهم وبدأوا ينسوني...

... إلى حين قرَّرَ أدهم أن يتزوّج مِن جديد.

عرَّفَ زوجي السابق أولادنا على عروسه المُستقبليّة التي كان يخونُني معها منذ فترة. وهي أغرقَتهم بالهدايا وأخذَتهم معها لأماكن مُثيرة، ففرِحوا بها وسمِعتُ أنّهم قالوا عنها إنّها "أفضل بكثير مِن أمّنا وأجمَل وأصغَر سنًّا منها". أقامَ أدهم فرَحًا تكلّمَ عنه الناس لأشهر، بينما حزِنتُ كثيرًا لأنّ تمّ استبدالي مِن قِبَل جميع أفراد عائلتي الذين تصرّفوا وكأنّني لَم أكن موجودة يومًا في حياتهم.

لكن بعد عودتها وأدهم مِن شهر عسَلهما، تبدّلَت العروس مع أولادي تمامًا. ماذا كانوا يظنّون؟!؟ أن تُحبّهم وتُعامِلهم وكأنّها أمّ لهم؟ يا للأغبياء! فهي بدأَت بالتصرّف وكأنّها الآمِرة الوحيدة في البيت، وأزاحَتهم مِن دربها ليصيروا بمثابة نزلاء في بيتهم. إضافة إلى ذلك، هي أسرعَت بالحَمل مِن أدهم، وجاءَت له بولَد استقطَبَ كلّ اهتمامه مُهمِلًا أولاده السابقين.

وفي غضون أقلّ مِن سنتَين، بدأ أولادي يرَون حقيقة أبيهم، وكيف أنّه رجُل سخيف وأنانيّ، وأنّه لَم يُحبّهم فعلًا، بل استعملَهم لسنوات كأداة ضدّي ليضغط عليّ فأبدو وكأنّني العنصر غير المرغوب به، لأقبَل بطريقة عَيشه وتحمّل خياناته المُستمِرّة. هم رأوا الفرق بيني وبين تلك المرأة التي غرَّتهم ليظنّوا أنّها إنسانة مُميّزة ليتزوّجها أدهم، ظانًّا أنّ لا مشكلة لدَى أولادنا معها. وهي لعِبَت لعبة ذكيّة ونجحَت بالزواج مِن رجُل أعمال ناجِح وثريّ وركّزَت مكانتها كأمّ لِولَده.

في تلك الفترة كثُرَ تبادل أولادي الرسائل معي، ففرِحَ قلبي وتحلَّيتُ بالصبر، عالِمة أنّ يومًا قد يأتي وأسترجعُهم. أمّا بالنسبة لمحلّي، فكانت الأمور تجري بشكل جيّد، فقد زادَ عدَد الزبونات وبدأتُ أبيعُ بضاعتي عبر الانترنِت. لَم أفكِّر أبدًا بإقامة علاقة عاطفيّة مع أحَد أو الزواج مُجدّدًا، لأنّ هدَفي كان لَمّ الشَمل مع أولادي وحسب.

وفي أحَد الأيّام، تفاجأتُ بابنتي البكر تدخُل محلّي وتجلسُ على كرسيّ بينما كنتُ مشغولة مع زبونة. كادَ قلبي أن يتوقّف مِن كثرة مُفاجأتي وفرَحي، لكنّني أكمَلتُ ما كنتُ أفعله إلى حين غادَرَت الزبونة. عندها عانقتُ ابنتي لدقائق والدموع تنهال على خدَّيّ. ثمّ هي قالَت لي:

ـ هل مِن المُمكِن أن تسامحينا يومًا؟ نعلَم تمام العِلم بأيّ طريقة تصرّفنا معكِ، ولو فعَلَ بي أولادي نصف ذلك لَما سامحتُهم يومًا.

 

ـ هذا لأنّكِ لستِ أمًّا بَعد.

 

ـ آذَيناكِ وأبعَدناكِ وتجاهَلناكِ بسبب المال والامتيازات.

 

ـ أعلَمُ ذلك.

 

ـ لَم نقِف معكِ حين كان أبونا يُهينُكِ ويخونُكِ، وترَكناكِ ترحلين لوحدكِ.

 

ـ أعلَم ذلك أيضًا.

 

ـ وفرِحنا عندما قرَّرَ أبونا الزواج مِن أخرى... كيف لكِ أن تُسامحينا؟!؟

 

ـ لأنّكم جزء منّي... عشتُم بداخلي وتبادَلنا الدماء نفسها. أنا أنتم وأنتم أنا... فكيف لي ألّا أُسامِح نفسي؟ كنتم صغارًا حين بدأ أبوكم باستمالتكم وشراء حبّكم له... كنتم صغارًا لا تفهمون الحياة، فكيف لي أن ألومكم؟

 

ـ لكن كنّا قد صِرنا كبارًا عندما تزوّجَ أبونا ولَم نُمانِع.

 

ـ هذه نتيجة غسيل دماغ تطلّبَ سنوات مِن العمَل الدؤوب.

 

ـ ماذا لو كانت زوجة أبينا سيّدة رائعة وبقينا رافضين لكِ؟

 

ـ كان ليأتي يوم وتعودون إليّ... فبيننا رابِط لا يُمكن قطعه أبدًا، صدّقيني.

 

ـ هل نستطيع العَيش معكِ عند جدّتنا؟ نعِدُكِ بأنّنا سنكون أفضل أولاد لكِ... يا ماما!

 

وارتمَت ابنتي باكية في أحضاني، وعلِمتُ أنّ الأمور عادَت إلى مجراها الطبيعيّ، حتّى لو في وقت مُتأخِر. عادَ أولادي الثلاثة إليّ وتصرّفنا وكأنّ شيئًا لَم يكن، وعدنا كما كنّا منذ البدء عائلة مُتماسِكة تتبادَل الحبّ والاحترام. وعلِمتُ أنّ زوجة أدهم تنوي تَركه بعد أن خانَها، تمامًا كما خانَني معها، فهي لَم تُدرِك أنّ الخائن يبقى خائنًا طول حياته.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button