هناك لحظات في حياتنا نخال أنّنا بلغنا السعادة المطلقة وأنّنا سنتوقّف أخيراً عن البحث عن الحبّ لأنّنا وجدناه ولكن هناك أيضاً لحظات الخيبة واليأس التي تصيبنا عند مواجهة حقيقة مرّة وبشعة. وهذا ما حصل لي منذ بضعة سنوات مع حبيبي عمر.
كنتُ آنذاك في حالة إكتئاب شديد بعدما قرّر خطيبي أن يلغي الزفاف، لأنّه شعر أنّه لم يكن مسعدّاً للإرتباط النهائي وتركَني ليسافر إلى جهة مجهولة. بكيتُ كثيراً على فقدانه وعلى العار الذي شعرتُ به أنا وعائلتي بعدما بدأت الناس تؤلّف قصص مشينة لما حدث. وإستنتجتُ أنّني لم أكن محظوظة عاطفيّاً وقررتُ أن أركّز على عملي في التعليم ونسيان أمر الحب والرجال. ومرّت الأشهر والسنة وحين بدأتُ أخرج من محنتي، جاء مَن إعتقدتُه منقذاً لي ولمشاعري التي خمدتُها عمداً.
ففي ذلك النهار، توفّيَ أحد زملائي وجاؤوا بمَن يأخذ مكانه ليكمل السنة الدراسيّة. وهكذا أتى عمر إلى مدرستنا ومِن لحظة وقوع نظري عليه، شعرتُ بقلبي يدقّ من جديد. ولكنّني كبتُّ إعجابي خوفاً من الغوص في قصّة حبّ فاشلة كالأولى وعملتُ على تجاهل زميلي الجديد وتجنبّه. ولكنّ عمر أُعجب بي أيضاً ولم يتردّد على ملاحقتي ليستقطب إنتباهي. وبدأ الجميع يتكلّم عن الموضوع حتى أن جاءت زميلة لي وقالت لي:
- ما الأمر بينكِ وبين الأستاذ الجديد؟
- ماذا تقصدين؟ ليس هناك من شيء بيننا!
- هل ستنكرين أنّه جدّ مهتمّ بكِ؟
- هو مهتمّ بي أمّا أنا فلا... أعتبره رفيقاً وليس أكثر... لماذا تسألين؟
- لأنّ الكلّ يتكلّم عن الأمر... وهناك مَن يراهِن أنّكما ستتزوّجان قريباً.
- لا أصدّق أذنيّ... لَم أخرج معه حتى! قولي لهؤلاء أن يكفّوا عن إختلاق الأكاذيب وأن يهتمّوا بشؤونهم الخاصة!
ولكن كل هذه البلبة أثارَت فضولي بما يخصّ عمر وأردتُ معرفة المزيد عن ذلك الشاب الوسيم الذي لم يخفِ إعجابه بي ولم يتردّد على التعبير عنه حتى لو كان ذلك أمام أعين الجميع. وبدأتُ أستمع إلى قصّصه التي كانت لطيفة وظريفة، حتى أن زالَت مخاوفي وتركتُ نفسي أُغرم به. وعادت إليّ البسمة وبدأتُ أحبّ الغرام من جديد وشكرتُ ربّي على الفرصة الجديدة التي أعطاني إيّاها، ربّما لينسيني عذابي الذي سبّبه لي خطيبي السابق. وبدأنا نتواعد وكان كل لقاء مفعماً بالعواطف حتى أنّنا قررنا أن نتزوّج.
عندها إستطعتُ زفّ الخبر السار إلى أهلي وأصدقائي ليشاركوني فرحتي. ولكن لم يغب عن بالي ما حدث لي في أوّل مرّة ولم أكن طبعاً مستعدّة أن يحطّم قلبي مجدّداًً، لذا بقيتُ متيقظة أراقب كل ما يمكنه أن يوحي بأيّ خطر لي. وأظنّ أنّ هذا الإستعداد هو الذي جنّبني كارثة كنتُ سأقع ضحيّتها وكانت ستقضي نهائيّاً على حياتي العاطفيّة والنفسيّة وتؤثّر بالتأكيد على حياتي العمليّة. وأوّل إشارة على أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام، كانت عندما وجدتُ عمر في حالة قلق عميق وأسرعتُ في السؤال عن السبب وبعد أن توسّلتُ له أن يتكلّم، قال لي اخيراً:
- لا أريد إقحامكِ بأشياء لا دخل لكِ فيها... أحاول إيجاد حلّ سريع لمشاكلي تلك قبل موعد زفافنا ولكن... سأخبركِ بما يجري ما دمتِ مصرّة على ذلك... لقد خسرتُ المال الذي كنتُ أدّخره بسبب توظيفات سيّئة في أسهم في البورصة ولا أدري كيف أدفع تكاليف عرسنا... ولم أجرؤ أن أقول لكِ الحقيقة خوفاً من أن تظنّي أنّني أتهرّب من الزواج كما فعل ذلك البائس معكِ... سأجد طريقة... وأرجو أن أفعل ذلك قبل الموعد وإلّا... وإلّا علينا تأجيل زفافنا بضعة أشهر أو سنة ريثما أعوّض الخسارة.
عندها شعرتُ وكأنّ المؤامرة ضدّ سعادتي تُحاك مجدّداً ورفضتُ أن يقال عنّي أنّ الرجال يتركونني دائماً قبل الزواج منّي. فقلتُ له:
- سيدفع أبي ما يلزم، فلديه بعض المال... وأنا إبنته الوحيدة وأستحقّ هذا المال... لن أقبل بتأجيل الموعد ولو لساعة واحدة!
- حسناً حبيبتي... ولكن قولي لوالدكِ أنّني مصرّ على أن أُرجع له كل قرش سيدفعه عنّي... أنا مُحرج جداً ولكن إن كانت هذه إرادتكِ...
وركضتُ إلى أبي وشرحتُ له ما يجري، فقبِل أن يساعدنا بكل سرور وحين أخبرتُ عمر أنّ كل شيء بات مؤمّن قال لي:
- حسناً... أعطني المال لكي أبدأ بالتحضيرات.
ولكن عندما قال لي ذلك شعرتُ وكأنّ جرس الإنذار يدقّ في رأسي فجاوبته فوراً:
- بل سأهتمّ شخصيّاً بكل شيء... إنّها أشياء تقوم بها العروس عادة خاصة أنّني لم أستطع فعل ذلك في المرّة الأولى... لا تشغل بالكِ بأمور كهذه...
- أنا أحبّ أن أنظّم زفافي بنفسي... إرتاحي أنتِ وأتركي الأعباء عليّ...
- لا يا حبيبي... ولن أقبل النقاش في هذا الموضوع.
وفي تلك اللحظة، شعرتُ أنّه إمتعضَ بسبب إصراري وتغيّرَت ملامحه وبات مهموماً أكثر من الأوّل. وبعد بضعة أيّام على حديثنا هذا، حصل أمر آخر أكّد لي أن نوايا عمر ليست كما تبدو. كنّا جالسين خلال الإستراحة في قاعة الأساتذة، حين أردتُ إرسال رسالة لطيفة له على هاتفه أقول فيها أنّني أتوق لأصبح زوجته وأشياء من هذا القبيل. ولكنّه في نفس اللحظة دخل الحمّام. فإنتظرتُه حتى يعود وحملتُ له هاتفه الذي بقيَ على الطاولة لكي يقرأ الرسالة حين رأيتُ على الشاشة أنّ بلال بعثَ له برسالة. عندها قلتُ له:
- مَن بلال هذا؟
- صديق لي... لا تعرفينه...
- غريب... أنا التي بعثتُ لكَ برسالة الآن وإذ بإسمه يرِد بدلاً مِن إسمي... إفتح الرسالة من فضلك.
- لا حقاً حبيبتي... سيدقّ الجرس الآن وتبدأ الحصّة.
- الآن من فضلكَ!
وفتحَ رسالة بلال وإذ بي أقرأ الكلمات التي بعثتُها له. كان قد سجّل رقمي تحت إسم بلال، أي إسم رجل. وعندما سألتُه عن السبب قال:
- فعلتُ ذلك من باب الدعابة... أليس ذلك مضحكاً؟
- لا... ليس ذلك مضحكاً أبداً...
وعندها فهمتُ أنّه لم يكن يريد أن يعلم شخصاً آخراً بأمري. وفي تلك اللحظة إنتابَتني شجاعة لم أعلم أنّني أمتلكها وصرختُ به لأن يوافيني خارج القاعة. وعندما أصبحنا لوحدنا قلتُ له من دون تردّد:
- أرى أنّه من الأفضل ألّا نتابع قصّتنا... هناك أمور تزعجني فيك خاصة مسألة إسمي على الهاتف... سأعيد لكَ حريّتكَ...
وأدرتُ له ظهري لأستعدّ للدخول مجدّداً حين قال لي:
- ومَن قال لكِ أنّني كنتُ سأتزوّجكِ أيّتها الغبيّة؟ لديّ زوجة وأولاداً...
- ماذا؟ ومتى كنتَ ستقول لي الحقيقة؟
- بعدما تعطيني مال الزفاف...
- لم أكن أنوي إعطاؤه لكَ وقلتُ لكَ ذلك
- كنتُ سأجد طريقة لإقناعكِ... ليس هناك أسذَج مِن إمرأة مغرومة...
- هذا غير صحيح وخير دليل على ذلك أنّني فسختُ خطوبتنا من دقائق قليلة...
- ظننتُ أنّ قصّتكِ مع خطيبكِ الأوّل ستجعلكِ تودّين الزواج رغم كل شيء وتقبّل أيّ شرط أضعه عليكِ...
- وكنتَ مخطئاً... لقد غشيتَني ولكن لفترة محدودة... أحببتكَُ ولكن بتحفّظ وبقيتُ صافية الذهن طوال الوقت... أنصحكَ بترك المدرسة اليوم إن كنتَ لا تريد أن أفضح أمركَ أمام الجميع بمن فيهم المدير... أنا أعمل هنا منذ سنين طويلة وكن على ثقة أنّهم سيدعمونني وسيفضّلونني عليكَ وستجد نفسكَ معزولاً... إذهب ولا تعود أبداً.
وهكذا فعل. وعاد إلى عائلته التي كانت تعيش قرب مدرسته القديمة ولم أعد أسمع منه أو عنه شيء. ورغم كل ما حدث لم أدع تلك التجربة المريرة تؤثّر عليّ أكثر من اللازم وبعد سنة تعرّفتُ إلى الذي أصبح اليوم زوجي وأب أولادي.
حاورتها بولا جهشان