رانيا وأولادها

يوم أرادَت جارتنا النَيل مِن أبي، وقفَت أمّي في وجه رانيا بعد أن طفَحَ كَيلُها مِن مُمارسات تلك المرأة وعائلتها الفاسدة. للحقيقة، سكّان المبنى بأسره قرَّروا أخيرًا أنّ لا مكان لهؤلاء الناس بيننا، فتمَّت مُجابهتهم بالطرق المُتاحة لديهم. وكنتُ أنا التي فضحَت ما كان يدورُ خلف باب رانيا، وارتعَبتُ لِما اكتشَفتُه. كيف لعائلة بأكملها أن تكون بهذا الكمّ مِن الإنحراف؟ لستُ أدري. إليكم قصّة جارتنا رانيا وباقي قومها:

عندما وصَلَ جيراننا إلى المبنى فرِحنا للغاية، إذ أنّ الشقّة المُقابلة لشقّتنا بقيَت فارغة لسنوات، وإذ بسيّدة أرملة وأولادها الذين يُناهز عمرهم عمري وعمر أخي سيعيشون بيننا! وكانت والدتي ستحظى أخيرًا بمَن يشربُ القهوة معها صباحًا، فكلّ باقي سيّدات المبنى كنّ عاملات ما عداها. إستلطفَت والدتي رانيا وكان الشعور مُتبادلاً، فتعرّفتُ وأخي على ابنتَيها وابنها وصرنا نزورُ بعضنا. لكنّ شيئًا ما لَم أقدَر على تحديده لَم يُعجبني في الأمّ وابنتَيها. فبالرّغم مِن لبسهم المُحتشم وحديثهم اللائق، شعرتُ أنّ هناك تصنّعًا ما. أطلَعتُ والدتي على الأمر لكنّها لَم توافقني الرأي، وأكّدَت لي أنّ تلك العائلة مناسبة جدًّا للمُصادقة. أمّا بالنسبة للإبن، فلَم يكن عنصرًا بارزًا في العائلة، على الأقل ليس بقدر باقي الإناث، لكنّه لَم يكن بريئًا هو الآخر. لكن كيف لنا أن نشكّ بما يجري حقًّا؟

مرّة أخرى، أطلَقتُ صفّارة الإنذار، إذ أنّني رأيتُ ذات يوم رجلاً يخرجُ بسرعة مِن شقّة جيراننا. لَم يكن للأمر أن يلفُتَ إنتباهي لولا تفاديه النظَر إليّ ومشيتَه السريعة، ونزوله السلالم بدلاً مِن المصعد مع أنّنا نسكنُ في الطابق الرّابع. كلّ شيء في سلوكه دلَّ على شيء مُريب. حفظتُ الأمر لنفسي، فلَم أعتَد التسرّع في الإستنتاجات. لكنّني عدتُ ورأيتُه مرّة ثانية في الوقت نفسه، أي حين أعودُ مِن جامعتي. عندها أخبرتُ أمّي بما رأيتُه، وهي قالَت لي إنّ ما يدورُ في بيوت الناس ليس مِن شأننا. وقرَّرتُ نسيان الأمر، لكنّ إبنة جيراننا قالت لي ذات يوم أثناء زيارتي لها ولأختها:

 

ـ سأُخبرُكِ سرًّا، لكن لا ينبغي أن يعرف به أحد، إتّفقنا؟

 

ـ إتّفقنا.

 

ـ لدَيّ حبيب... هو قال لي إنّكِ رأيتهِ يخرجُ مِن بيتنا. أحبُّه كثيرًا وننوي الزواج قريبًا.

 

ـ هنيئًا لكِ. لكن، لماذا تُبقين الأمر طيّ الكتمان؟

 

ـ لا أحبُّ الإعلان عن الشيء قبل أوانه.

 


عند خروجي مِن الشقّة تنبّهتُ لأمر هام وهو أنّ في المرّتَين، لَم تكن تلك الصبيّة أو حتى أختها موجودتَين في البيت، بل في الجامعة. فماذا كان يفعلُ "العريس" عند أمّهم؟ زيارة ودّيّة؟ ولماذا ذلك التصرّف الغامض إذًا؟ لَم أجد تفسيرًا منطقيًّا لتساؤلاتي، فعدتُ وقلتُ لنفسي إنّه لا يجدرُ بي أن أكون فضوليّة... إلى حين عدتُ يومًا مِن الجامعة باكرًا، وسمعتُ وأنا مارّة بالقرب مِن باب جيراننا رانيا تقول لأحد ما:

 

- لا تُطِل الغيبة يا حبيبي.

 

فُتِحَ الباب فجأةً وإذ بالرّجل نفسه يظهرُ أمامي. كان مِن الواضح أنّه صارَ يأتي ويذهب قبل أن ألتقي به، فتفاجأ كثيرًا برؤيتي وتمتَمَ بضع كلمات وأسرعَ بنزول السلالم. مدَّت رانيا رأسها مِن فتحة الباب وقالَت لي ضاحكة:

 

- صهر المُستقبل يُحبّ أن يمرّ بي ليرى إن كنتُ بحاجة إلى شيء.

 

لاحظتُ بوضوح طرَف قميص نومها الشفّاف، فخجلتُ عنها ودخلتُ شقّتنا بسرعة. هكذا إذًا... كان "العريس" على علاقة حميمة مع الأم! تمنَّيتُ مِن كلّ قلبي ألا تعرف إبنتها بالأمر، لكن عدتُ وتمنَّيتُ ألا تتمّ هذه الزيجة المبنيّة على الكذب والخداع. كتمتُ ما رأيتُه لنفسي، عالمةً ما ستقوله لي والدتي إن أخبَرتُها بالأمر.

هبَط حماسي تجاه جيراني، إلا أنّني بقيتُ أزورُهم لكن فترة مكوثي باتَت أقصَر بكثير، بينما بقيَ أخي على علاقة جيّدة مع الإبن الذي كان يدخلُ بيتنا بإستمرار. أحبَبتُ ذلك الشاب أكثر مِن أختَيه، فهو كان مُهذّبًا وخفيف الظلّ ويكنّ لأخي صداقة حقيقيّة. لكن بعد حوالي السنة على قدوم هؤلاء الناس إلى المبنى وتقرّبنا منهم، قال لي أخي:

 

ـ أختي... كيف أقول لكِ ذلك... هناك أمور تجري... أقصد أنّني أفقدُ أغراضًا كلّما جاء إبن جيراننا إلى غرفتي ورحَل. لَم أرَ شيئًا، كلّها شكوك ولا أريدُ إتّهام أحد مِن دون دليل. إلا أنّني لَم أعُد أثقُ به. قولي لي، هل أنا على خطأ باتّخاد هذا الموقف منه؟

 

ـ للحقيقة، بدأتُ أظنّ أنّ جيراننا الأعزّاء ليسوا كما خلناهم. إصبر قليلاً ريثما تتّضحُ الأمور. وحتى ذلك الحين، حاول عدَم إدخال "صديقكَ" إلى غرفتكَ أو البيت بأسره بل قم أنتَ بزيارته.

 

كان قد طفَحَ كَيلي مِن هؤلاء الناس، وقرّرتُ أن أبحث بكلّ هذه الأمور جدّيًّا، خاصّة أنّ الشاب الساكن قُبالتنا هو سارق. وهكذا رحتُ أختبئ يوميًّا في زاوية مِن ردهة المبنى بدلاً مِن الذهاب إلى الجامعة. لكن ما مِن شيء حدث إلا بعد أن قضيتُ ثلاثة أيّام متتالية أُراقبُ وأنتظر.

يومها دخَلَ الرّجل الغامض المبنى على مهله كالعادة بعد أن ركَنَ سيّارته الجميلة في الحَيّ. بعدما تسنّى لي أن أُمعِن بشكله، بدا لي أنّه إنسان ثريّ أو على الأقلّ مُرتاح مادّيًّا، فهاتفه الذي كان بيَده كان مِن الطراز الحديث جدًّا وكذلك ساعته. لحقتُ به على السلالم وعندما توقّفتُ عند طابقنا رأيتُه يدقّ باب جيراننا على مهل أيضًا. فتحَت له العروس وهمسَت له:

 

- هيّا أدخل قبل أن يراكَ أحد.

 

هي لَم تذهب وأختها إلى الجامعة في ذلك اليوم، وكانت والدتها طبعًا موجودة في الشقّة. وحده أخوها خرَجَ صباحًا ليقصد المشغل الذي كان يعمل فيه.

 


مشيتُ على رؤوس أصابعي وألصقتُ أذني على باب رانيا. ستقولون عنّي إنّني كثيرة الحشرية إلا أنّ أمر اكتشاف حقيقة جيراننا كان مُهمًّا للغاية، فكنتُ أشعر وبقوّة، أنّهم غشوّنا بقيَمهم العالية وإيمانهم المُعلَن. سمعتُ مِن وراء الباب أصواتًا عديدة وضحكات تتعالى، وصوت الضَيف وهو يُفرّقُ على الحاضرات كلّ الإطراءات الحميمة الممكنة. عندها، قرعتُ الباب بقوّة. سكتوا جميعًا وفتحَت رانيا لي بعد ثوانٍ طويلة. إستغربَت رؤيتي واقفة أمامها ولاحظتُ طبعًا قميص نومها المُغري. قلتُ لها:

 

ـ مرحبًا... لَم أذهب إلى الجامعة اليوم ففكّرتُ بالمرور بإبنتَيكِ للجلوس معهما والدردشة قليلاً... لَم أرَهما تخرجان مِن المبنى فمِن المؤكّد أنّهما في البيت.

 

لَم تستطِع رانيا تكذيبي فأدخلَتني على مضض. دخلتُ الصالون فوجدتُ الصبّيتَين جالستَين بلباس نوم مُغرٍ وهما وتُحاولان التصرّف بشكل طبيعيّ. لَم أرَ الرجل الذي كان يختبئ حتمًا في مكان ما. كان الإستقبال جافًّا، وعلِمتُ أنّ وجودي لَم يكن مرغوبًا فيه لكنّني بقيتُ أتصرّفُ بشكل طبيعيّ. بدأتُ أتكلّم عن الطقس والدروس والتسوّق وسط مناخ مُتشنِّج، وبالكاد قدّموا لي القهوة. فبالنسبة لهم، كان لا بدّ لي أن أرحَل وبأسرع وقت، وبالنسبة لي كان ما رأيتُه كافيًا. لِذا لَم أطِل مِن عذاب تلك النساء، فودّعتُهنّ وخرجتُ عالمة تمام العلم أنّ ما ظننتُه يحصل في البدء لَم يكن سوى جزء مِن أمر فظيع. فلَم تكن رانيا على علاقة بالذي سيُصبح صهرها، بل كانت تتقاسمُه مع إبنتَيها! أجل، أمرٌ صعب التصديق بالفعل. إضافة إلى ذلك، لَم أعُد أعتقد أنّه عريس، بل رجل غنّي يتمّ استغلاله مِن قِبَل نساء قليلات الشرَف.

رحتُ على الفور أُخبرُ أمّي بالذي يحصل في الشقّة المُقابلة وبسرقة أخي مِن قبل الإبن. غضبَت والدتي منّي كثيرًا، وعاقبَتني قائلة إنّني سيّئة الظنّ وكثيرة الخيال... وفضوليّة طبعًا، ويجدرُ بي التركيز على دراستي بدلاً مِن مُراقبة الناس وتشويه سمعتهم. إلا أنّ "العريس" هرَبَ مِن دون عودة بعد أن خافَ أن يُفضَح أمره، فلا بدّ مِن أنّه مُتزوّج ولدَيه عائلة، لذلك فتّشَت رانيا عن مصدر رزق آخر: أبي.

والدي كان تاجرًا ويدرُّ شغله مالاً وفيرًا علينا، أي كان قادرًا على الصّرف على نزواته لو كان عنده نزوات. إعتقَدت رانيا وابنتاها أنّ كلّ الرجال يهوون إقامة علاقات جنسيّة جُماعيّة، فبدأَت تتودّد لوالدي وبشكل مُباشَر، وتعرضُ عليه أمورًا أخجلُ حتى مِن ذكرها. كتَمَ أبي الأمر عن أمّي لفترة، لكنّه قرَّرَ التكلّم كي لا ينقلِبَ ضدّه.

سمعتُ صوت أمّي وهي تشتمُ جارتها عن بُعد لدى سماعها رواية والدي مِن فمِه، فدخلتُ الصّالون وصرختُ بها: "الآن تُصدّقيني؟". نظَرَ أبي إليّ بإندهاش فأخبرتُه القصّة مِن أوّلها.

إعتذرَت أمّي منّي وعانقَتني، ثمّ أخذَت هاتفها وكلّمَت سكّان المبنى بأسره داعية إيّاهم إلى اجتماع عام طارئ في بيتنا. في مساء اليوم التالي، عجَّت شقّتنا بالناس وتمّ التوافق على أمر واحد: على رانيا وعائلتها الرحيل.

وفي الصباح الباكر، تجمَّعَ أهل المبنى مِن دون استثناء، وعلى رأسهم والدتي أمام شقة رانيا، وقرعوا الباب. وقفتُ خلفهم غير مدركة ما الذي سيحصل.

عندما فتحَت رانيا بابها، تفاجأَت بهذا الكمّ مِن الناس أمامها. أزاحَتها والدتي جانبًا، ودخَلَ الكلّ البيت وبدأوا بجَمع أمتعة جارتنا وأولادها ووضعها خارجًا. بدأَت رانيا بالصراخ والشتم، بينما بكَت إبنتاها وهدَّدَ إبنها الحاضرين. أسكتَتهم أمّي قائلة:

 

ـ لا مكان لكم بيننا... لا أنتِ ولا أولادكِ ولا "زائريكم"... نعرفُ بشأن تقاسمكِ وابنتَيكِ العشّاق وسرقات إبنكِ العديدة مِن إبني... لقد ادّعَيتم التقوى بصلواتكم، وعار عليكم التستّر بالدِّين لفعل ما تفعلونه! ووصلَت وقاحتكمِ لعرض خدماتكم على زوجي! وماذا كنتم تنوون فعله بعد ذلك؟ فتح بيت شرعيّ للدّعارة؟!؟ سترحلون على الفور ولن تعودوا. وإيّاكم أن تشتكوا علينا، فحينها سنخبُر الشرطة عن مُمارساتكم! هيّا!

 

لَم يتفوّه أيّ منهم بكلمة ولَم يُحاولوا حتى الدفاع عن تلك الإتهامات لأنّها كانت في مكانها. جمعَت رانيا أغراض البيت بصمت، وأخذَت عائلتها ورحلَت ولَم نسمَع عنهم بعد ذلك.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button