رأيتُ شيئاً لم يجدر بي رؤيته!

لم أدرك أهميّة ما رأيته تلك الليلة إلا بعد فترة ويا ليتني لم أفعل!
كان قد وصفَ لي الطبيب ممارسة الرياضة البدنيّة لتخفيف وزني ومستوى الدهون في دمي. فعمَلي بالمصرف يجبرني على الجلوس على كرسيّ طول النهار وهذا لم يكن لِيساعد على لياقتي أو صحّتي بالإجمال. فقرّرتُ أن أمشي يوميّاً في الشارع الموازي لبيتي والمعروف بقلّة السيّرات فيه وأنسَب وقت لفعل هذا كان بعد غروب الشمس.

 

إشتريتُ الأحذية المناسبة وأخذتُ أسير بإنتظام. وفي ذات ليلة، مررتُ بقرب سيّارة مركونة إلى جانب الطريق ورأيتُ بداخلها ثنائي يقبّلان بعضهما بشغف. نظرَت إليّ المرأة بِغضب وكأنّني أتطفّل عليهما، فتلبّكتُ كثيراً وأعتذرتُ منهما وأكملتُ طريقي واعدة نفسي أن أتفادى النظر إلى المركبات مهما كان السبب.


وعدتُ إلى البيت لأحضّر العشاء لزوجي وأولادي. وفي الأيّام التالية لم أرّ سيّارة الثنائي في ذلك الشارع، فإستنتجتُ أنّهما قرّرا الذهاب إلى مكان آخر حيث لا يراهم أحد. وتابعتُ حياتي العاديّة، أذهب إلى العمل وأعود إلى منزلي لأهتمّ بعائلتي حتى تلك الليلة حين دُعينا في المصرف إلى حفلة خاصة تجمع موظفّي الفروع كافة. فلبستُ فستاناً جميلاً وإصطحبتُ زوجي وقصدتُ المطعم الفخم الذي حُجز بأكمله للمناسبة. ورأيتُ هناك زملائي في الفرع وتعرّفتُ على آخرين وجلسنا نأكل الأكل اللذيذ.

وبعد ساعة على بدء الإحتفال، ألقى صاحب المصرف كلمة ترحيب وشُكر لجميع العاملين بمؤسسته ثم جاء دور نائبته بالكلام. وحين صعدَت على المنصّة، فوجئتُ برؤية المرأة التي كانت في السيّارة في تلك الليلة. أدرتُ وجهي لكي لا أحرجها بوجودي ولكنّها رأَتني وعلمتُ من نظراتها أنّها تعرّفَت إليّ. ثم رجعَت إلى طاولتِها وجلسَت قرب رجل شعرتُ أنّه زوجها ولكنّه لم يكن نفسه الذي كان معها في المركبة. إستنتجتُ طبعاً أنّها كانت تقبّل عشيقها وعملتُ جهدي طيلة السهرة بألا أنظر بإتجاهها. وعادَ الجميع إلى بيته وعندما أغمضتُ عينيّ لأنام كنتُ قد نسيتُ الموضوع برمّته. ولكن في اليوم التالي وأثناء وجودي في العمل، حوّلَت لي عاملة الهاتف مكالمة قالت أنّها من السيّدة سعاد. سألتُها من تكون تلك المرأة فأجابَتني بتعجّب:


- ألا تعرفينها؟ إنّها نائبة الرئيس! المكالمة على الخط الثاني.

 

بدأ قلبي يخفق بسرعة لأنّني أدركتُ أنّ السيّدة سعاد لم تكن تتصل بي لتسأل عن صحّتي بل لتكلّمني عن الذي رأيتُه. إستطعتُ تمتمة كلمة "آلو" خجولة فأجابَتني:

 

- تعرفين من أكون...

- عرفتُ البارحة ولكنّني لم أتوقّع أن تكلّميني... هل مِن خطب؟

- لا تدّعي الغباء... رأيتُ كيف كنتِ تنظرين إليّ خلال العشاء أو بالأحرى كيف تجنَبتي النظر بإتّجاهي... أعرف أنّكِ تذكرتيني من تلك الليلة وأرجو منكِ ألا تنكري ذلك... سأكون واضحة معكِ فأنا لستُ معتادة على المراوغة. نعم لديّ عشيق والأسباب ليست من شأنكِ. حياتي الخاصة ملكي أنا وحدي ولن أقبل أن يتدخّل بها أحد.

- ولكنني...

- لم أنتهي من الكلام... لديّ نصيحة واحدة لكِ... إنسي ما رأيتيه وإلا سأعمل جهدي لكي تفقدي عملكِ في المصرف. هل كلامي واضح؟

- أجل... واضح جدّاً.

 

وأقفلَت الخط. نظرتُ حولي وكأن البشرية بأكملها كانت قد سمعَت حديثنا رغم عدم وجود أيّ شخص بقربي. لا أخفي أنّني خفتُ كثيراً لأنني كنتُ متأكدّة أنّ سعاد مستعدّة لفعل أيّ شيء لحماية نفسها من الفضيحة ولو سمحَت لي بالكلام لقلتُ لها أنّني لم أنوِ أبداً إخبار أي أحد عن علاقتها مع ذلك الرجل، فهذا ليس من شيَمي. أكمَلتُ النهار وأعصابي مشنّجة ولم أرتاح إلا عند وصولي إلى البيت، فهناك شعرتُ بالأمان وسط عائلتي. خطرَ على بالي أن أخبر زوجي بالذي حصل ولكنّني خفتُ أن يتدخّل وأن ينتشر الخبر وأن تنفّذ سعاد تهديدها. كنتُ بحاجة إلى عملي بعدما أخذتُ قرضاً لمساعدة زوجي بدفع أقساط بيتنا الجديد، فسكتتُ على أمل أن تزول المسألة لوحدها. ولكن سعاد لم تكن متأكدّة من سكوتي وإعتقدَت أنّها تستطيع شراءه. فبعدَ بضعة أيّام عاودَت الإتصال بي:


- آلو... كيف حالكِ اليوم... أتّصل بكِ لأعتذر عن كلامي الجارح... كنتُ متوتّرة... أنا متأكدّة أنّكِ تقدّرين موقفي... لديّ عائلة ولا أريد أن أفقدها... زوجي رجل قاسي ويمكنه أذيّتي إن علِمَ بالأمر...

- سيّدة سعاد... تأكّدي أنني نسيتُ الموضوع وأنّني بطبعي غير متطفّلة... لن يعرف أحداً شيء... أعدكِ بذلك...

- يسرّني سماع ذلك... علِمتُ أنّكِ أخذتِ قرضاً وأقدّر أنّه عبء عليكِ خاصة مع وجود ثلاثة أولاد ومعاش زوجكِ... إنّه يعمل كمحاسب في شركة صغيرة أليس كذلك؟

- كيف علمتِ بكل هذه التفاصيل؟

- يهمّني أمركِ... ما رأيكِ لو خفّفنا قيمة الفائدة لترتاحي قليلاً؟

- ولكنّ هذا غير مطابق لقوانين المصرف!

- أنسيتي منصبي؟ أريدكِ أن تكوني سعيدة.

- شكراً على عرضكِ المغري ولكنني سأرفضه... إن علِمَ أحد بالموضوع قد أفقد كل شيء... عندما أخذتُ القرض كنتُ على علم بما ينتظرني. صحيح أنّنا نعاني من المبلغ الشهري الذي ندفعه ولكن الوضع ما زال محمولاً.

- كما تشائين.

 

وأقفلَت الخط بإستياء. إعتقدَت أنّها ستقحمني بمسألة مشبوهة لترغمني على السكوت ولكن خطّتها فشلَت وشعرتُ في تلك اللحظة أن متاعبي لم تنتهي وكنتُ على حق. فكانت سعاد قد وجدَت أنّ أنسب حلّ كان إبعادي عنها، فوصلني كتاباً يقول لي أنّ الأدارة قرّرت نقلي إلى فرع آخر في شمال البلاد وكان هذا القرار مرتكزاً على إيدائي المميّز وكنتُ سأنال زيادة في المعاش وإمتيازات عديدة متعلّقة بمنصبي الجديد.

علِمتُ فوراً أنّها خطة حاكتها سعاد ولا دخل لإيدائي بالموضوع، فكنتُ موظفّة عاديّة أهتمّ بحسابات وبمعاملات بسيطة. عندها إستشرتُ زوجي، فلَم أدرِ ماذا أفعل ورغم بُعد عملي الجديد كنّا سنرتاح ماديّاً ورفضي سيكون بمثابة إعلان لحرب لم أكن مستعدّة لِخوضِها. ولكنّني لم أكن أريد ترك عائلتي طوال الأسبوع وأعيش لوحدي في الشمال وكان من المستحيل أن يترك زوجي الشركة التي يعمل بها وأن أغيّر مدارس أولادي. فرويتُ لزوجي القصّة بالكامل ووبّخني لأنّني لم أقل له شيئاً من قبل. ثم قال:


- أنتِ حقّاً في مأزق... ولا أدري إن كنتُ أستطيع مساعدتكِ... لولا هذا القرض لقلتُ لكِ أن تتركي المصرف ولكن... قد نخسر البيت... لماذا نظرتِ إلى تلك السيّارة المركونة؟؟؟

- النظر لا يُحجَب... الذنب ليس ذنبي... لِمَ لا تقول بالأحرى "لماذا ركنا سيّارتهما هناك؟" أو" لماذا سعاد تخون زوجها؟" من السهل إلقاء اللوم عليّ ولكنّ هذا قد يحصل لأيّ منّا...

 

وأمام حيرة زوجي، أدركتُ أن سعاد ستتحكّم بحياتي وقتاً طويلاً ولم أعتاد يوماً على أن أكون ضحيّة أحد. فقررتُ أن أقلب الأدوار فالذي كانت تفعله كان نتيجة خوفها منّي ما معناه أنّني أنا الأقوى. وفي اليوم التالي طلبتُ من عاملة الهاتف أن تصلني بنائبة الرئيس.

 

- آلو... سيّدة سعاد؟ أريد أن أشكركِ على الترقية ولكنّني سأرفضُها.

- تعرفين أنّكِ لا تستطعين الرفض وإلا...

- وإلا ماذا؟ لن أنتقل إلى فرعنا في الشمال ولن أُطرَد بسبب ذلك... تعرفين لماذا؟ لأنّ حسارتكِ ستكون أكبر. فأنا أستطيع أيجاد عملاً آخراً أمّا أنتِ فستُطلّقين حتماً وإن كان زوجكِ فعلاً شرّيراً فسيعمل جهده على إيذائكِ بشتّى الطرق.

- ماذا تقترحين إذاً؟

- أن ننسيَ الموضوع بكل بساطة. أعدُكِ بألا أتفوّه بكلمة واحدة وأنتِ أن تدعيني وشأني.

- حسناً.

ولم أسمع منها أو عنها منذ ذلك الحين.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button