ذنب أبي أودى به إلى المصحّة...

عندما يسألني أحد عن أبي أبتسمُ وأقول دائماً: "أبي؟ كان زير نساء كبير!". ولكن رغم إبتسامتي هذه وإذا نظرتم جيّداً في عينيّ تستطيعون رؤية الألم والمرارة. فحبّه للنساء تخطّى حدود المقبول وسبّب لنا التعاسة لسنين طويلة.

منذ ما أتذكّر وهو محاط بالجنس اللطيف بدءاً بصديقات أمّي وجميع قريباتنا. فكان وسيماً جداً ويعرف كيف يستعمل جاذبيته ليذوّب قلوب النساء. كانت أمّي فخورة بنفسها لأنّه إختارها هي بالذات لتكون زوجته وأمّ أولاده ولكن كان من الواضح أن إختياره هذا سببه شخصيّة والدتي الضعيفة والخاضعة. معها كان سيتمكّن من تأسيس عائلة وفعل ما يشاء في آن واحد.

وتتالَت مغامراته ولم يتكبّد إخفاءها عنّا وكنّا نتفرّج عليه وهو يغازل ويمازح ويلمس ويهمس دون أن نحاول حتى التدخّل. فكان مقنعاً جداً عندما يقول للجميع أنّه لا يفعل شيئاً معيب فما الضرر بأن يمزح ويضحك مع ألطف مخلوقات الله؟ ولكن الكل كان يعلم أنّه يقيم علاقات فعليّة مع اللوات تقبلنَ بذلك. فهو لم يفرّق بين جميلة وقبيحة أو بين عازبة ومتزوّجة. ورغم سيطرته الكاملة على أمّي كانت ترى وتسمع كل شيء وتتألم سرّاً. وبين الحين والآخر كان يخصّص لها بعض الوقت ليُقنعها أنّه يحبّها أكثر من أي إمرأة أخرى فكانت حينها تتأمل بأنّه عَدِل عن حياة الإنحلال هذه. ولكن المرء لا يتغيّر إلا إذا أراد هذا فعليّاً وأبي كان سعيداً بطريقة عيشه ولم يكن مستعداً أبداً ﻹجراء أي تغيير فيها.

ولكن كل شيء تغيّر بعد "الحادث". أسمّي هذا الفاجعة هكذا ﻷنني أحبّ أن أعتقد أن أمّي لم تكن تريد فعل هذا بل الظروف دفعتها إلى قتل نفسها ولو فكّرَت مليّاً لما تناولت هذه الجرعة الكبيرة من المنوّم. فالضعف الذي دفع أبي ﻹختيارها كزوجة هو الذي قادها إلى الموت.

كنتُ ما زلتُ في الخامسة عشر عندما وجدناها باردة في سريرها وبالرغم أنّها لم تترك أي رسالة علِمنا شقيقتي وأنا ما كان السبب وراء رغبتها بإنهاء حياتها.

وعندما وصله الخبر هَلَع أبي إلى المنزل ووقف فوقها ينظر إلى جثتها وكأنّه ينتظر أن تستيقظ في أيّة لحظة. لم يقل أحد له شيء. لم يتكلّم أيّ منّا. فالسكوت كان أفضل تعبير عن إستياءنا لما فعله بها على مدى سنين طويلة. ثم رَكَعَ قرب السرير وخبّأ رأسه بيديه وبكى بمرارة. ومنذ ذلك الحين أصبح أبي رجل آخر لدرجة أننا لم نعد نعلم إن كانت هذه شخصيّته الحقيقيّة أم تلك. فلم يعد يحبّ الخروج أو الإختلاط بالناس ولم يعد يهمّه صنف النساء برمّته وبدأ يكنّ ﻷمي نوعاً من العبادة فأخذ صورَها وعلّقها على حائط واحد ووضع طاولة تحتها وأضاء عليها الشموع ومنعنا من إطفاءها. وباتَ يجلس على كرسيّه المفضّل مقابل هذا الحائط وينظر إلى الصور لساعات. في البدء كنتُ مسرورة أنّه أحسّ بالذنب لما فعله بأمّي ولكن مع مرور الوقت بدأتُ ألاحظ أنّ تصرّفه هذا لم يكن سليماً فحالته كانت تزداد يوماً بعد يوم حتى أن بلغَت حدّ الجنون. كنّا نسمعه يتكلم معها ويقوم معها بحوار كامل عن أمور عدّة ويطلب رأيها قبل أن يأخذ أي قرار ويقول لنا: "أمّكم قالت أنّ هذا أفضل وأنا من رأيها". وقرّرنا أن نستدعي عمّنا ليرى ما حلّ بأخيه ولينصحنا بإتخاذ قرار إستشارة طبيب نفسي. وعندما وصل عمّي إستقبله أبي قائلاً: "أنتَ هنا! ستفرح أمال جداً بكَ."

وهكذا إستدعينا الطبيب الذي شخّص حالة إكتئاب عميق ووصف له أدوية كثيرة. ولكن أبي لم يكن مستعداً أن يتحسّن ويفقد أمّي مّرة أخرى فكان سعيداً بالتكلّم معها والجلوس برفقتها هكذا فلم يأخذ علاجه ولم يقبل أن يعطيه إيّاه أحد. وبالطبع بدأ وضعه يتدهور وبات يهلوس وخفنا أن يؤذي نفسه لللحاق بها فأدخلناه مستشفى يُعنى بالأمراض العقليّة ليكون تحت رقابة مختصّين.

حاول أبي عدم الذهاب والشيء الوحيد الذي أقنعَه بالمكوث بهذا المستشفى هو وعدنا بنقل صور أمّي إلى هناك والسماح له بتعليقها. ومنذ ذلك الحين وهو هناك لا يبارح غرفته لكي لا يترك زوجته لوحدها "حتى لا تفعل بنفسها شيئاً". وعندما نذهب لزيارته يكون غائباً بالكاد يتكلّم معنا أو ينظر إلينا. أخبرنا الأطباء أنّه لا يتجاوب مع العلاج ولكن حالته مستقرّة وأنّه يعيش في عالم وهميّ مع شبح أمّي وكأنّه يكفّر عن ذنبه ﻷنّه تسبّب بموتها.

وبعد أشهر قليلة وجدوه جثّة هامدة في سريره وعلى وجهه بسمة هادئة. كان قلبه قد توقّف بكل بساطة عن الخفقان أثناء نومه ليذهب للقاء التي أحبّها أكثر من كلّ شيء.   

حاورتها بولا جهشان      

المزيد
back to top button