يوم نظَرَ أبي إليّ وكأنّه لا يعرفُني، أدركتُ أنّ شيئًا لَم يكن على ما يُرام. إتّصلتُ على الفور بأخي الكبير الذي ركضَ إلى البيت ليستفسر عن الأمر. لَم ينسَ طبعًا جَلب زوجته التي كانت ذات أهميّة كبيرة بالقرارات التي يأخذها. جلَسَ تامر مع والدنا لدقائق سائلاً إيّاه مئة سؤال ومِن ثمّ خرَجَ مِن غرفته قائلاً: "أظنّ أنّه بدأ ينسى... قد يكون مُصابًا بداء ألزهايمر". لَم أرِد تصديق أقواله، فكنتُ الذي يسكنُ مع أبينا وأعرفُ أنّ الرجل بِكامل قواه العقليّة. هل يعقَل أن يكون أخي على حقّ؟ إقترَحتُ أن نعرض أبانا على طبيب مُختصّ، الشيء الذي فعلتُه في اليوم التالي بذريعة فحص عام كي لا يُصاب والدي بالهلَع. لَم تأتِ نتيجة الفحص إيجابيّة أو سلبيّة، لكنّ المُختصّ وصَفَ له بعض الأقراص بغرَض تأخير عوارض داء ألزهايمر إن كان موجودًا. ومنذ ذلك اليوم، صِرتُ أُراقبُ تصرّفات وأقوال أبي عن كثب. كنتُ حزينًا للغاية، فهو لطالما كان رجلًا عاقلاً ومُثقّفًا ومهندسًا بارعًا ومشهورًا بعدما بنى أهمّ معالم المدينة. صلَّيتُ أن يكون الأمر مُجرّد إرهاق لكنّ أخي كان، وللأسف على حقّ بِتشخيصه.
بعد أشهر، باتَت حالة أبي أكثر وضوحًا، لكنّني كتَمتُ الأمر لِنفسي وكأنّ ذلك سيجعل المرض يختفي مِن تلقاء نفسه. بقيَ تامر يسأل عمّا أسماه "خرَف ذلك العجوز" وأنا بقيتُ أكذبُ عليه. شيء ما في داخلي شعَرَ أنّ عليّ حماية والدنا، وأنّ هناك سببًا وراء اهتمام أخي هذا، لكنّني لَم أعرف ماهيتّه. مرَّت حوالي السنة وصارَ أبي يُعاني مِن ضياع مُتقطّع. ساعدتُه قدر المُستطاع على تذكّر أمور بديهيّة، وكان المسكين يبكي حين يُدرك أنّه بدأ بالنسيان. وعندما سألَني عن حقيقة حالته، كذبتُ عليه هو الآخر فلَم أرِده أن يُصاب بالاكتئاب.
لكنّ تلك الأمور لَم تغِب طبعًا عن عين تامر الساهرة الذي قرَّرَ أخيرًا الإنتقال وزوجته إلى البيت للعَيش معنا. وجدتُ الأمر مُريبًا فهو لَم يُبدِ أي اهتمام بي أو بوالدي أو بالبيت منذ زواجه، بل غادَرَ وكأنّ ذلك كان أهمّ شيء فعلَه بحياته. كان قد حثّني على الرحيل أيضًا، لكنّني لَم أشأ تَرك أبينا بعد موت أمّنا، لِذا بقيتُ وصرتُ الإبن المُفضّل بالنسبة لوالدنا. لا تظنّوا أنّ تامر بدأ يغار منّي بسبب ذلك، فهو لا يهتمّ بهذه الأمور بل كلّ ما يُريدُه كان أن نتركه وشأنه ولا نطلب منه شيئًا ليتسنّى له عَيش حياته كما يشاء، بصحبة تلك الأفعى التي لَم تفعل شيئًا لِتقرّبه منّا، بل العكس.
كنتُ سعيدًا بوجود تامر في البيت مِن جديد، فكان الأمر وكأنّنا عُدنا بالزمَن إلى الوراء، أي عندما كنّا صغارًا وكنّا جدّ مُتّفقَين. لكن سعادتي هذه لَم تدُم بسبب غيرة زوجته مِن اتّفاقي وزوجها، فهي أحسَّت بأنّ أخي يفلتُ مِن قبضتها ويبتعدُ عن المُخطّط الذي أعدّاه سويًّا. أي مُخطّط أتكلّم عنه؟ سلَب أبي المال الوفير الذي وضعَه جانبًا خلال حياته وأيضًا ممتلكاته... وسلبي أنا الآخر مِن الإرث الذي كنتُ سأناله بعدما يُغادر والدي هذه الدنيا. للحقيقة، لَم أفكّر يومًا بأيّ ارث، أوّلاً لأنّ فكرة موت أبي لَم تخطر ببالي قط وثانيًا لأنّني كنتُ أجني مِن عمَلي ما يكفيني. فهكذا كنتُ ولا أزال، شخصًا يكتفي بالقليل ويحمدُ ربّه على الأشياء الصغيرة التي يتكّرم بإعطائها له. أمّا تامر، فكان عكسي تمامًا بالرغم مِن المدخول الذي تدرّه عليه شركته. فهو كان يُريدُ دائمًا المزيد وسمِعتُه مرارًا يطلبُ مِن والدنا مساعدة الماليّة.
تحسنَت حالة أبي منذ وصول أخي وزوجته إلى البيت، فهو الآخر شعَرَ بأنّنا عُدنا عائلة مُتماسكة. وبِفضل الأقراص التي وصَفَها له الطبيب تباطأت مسألة الخرَف هذه. لكن بعد حوالي الشهر، لاحظتُ تراجُعًا ملموسًا بِقدرة والدي على التذكّر. إنشغَلَ بالي كثيرًا وأردتُ أخذه مُجدّدًا إلى الطبيب، لكنّ تامر لَم يرَ حاجة إلى ذلك بل اعتَبَر الأمر مرحلة عابرة وليس أكثر.
ما لَم أكن أعلمُه، وكيف لي أن أتصوّر أن يحصل ذلك، هو أنّ زوجة أخي كانت قد استبدَلَت أقراص أبي بأخرى لا منفعة منها بتاتًا، وذلك بقصد حمل والدنا على فقدان قدرته على التمييز، والتوقيع على الأوراق التي حضّرَها أخي بمساعدة مُحاميه، رجل معدوم الأخلاق تمامًا كتامر.
كان والدي يبقى طوال اليوم تحت رحمة زوجة أخي بينما كنتُ وأخي في عملنا. وللحقيقة، سرِرتُ أن أحظى ببعض الوقت لنفسي بعدما قضيتُ فترة طويلة أجلبُ عملي إلى البيت كي لا أتركُ والدي لوحده وأرفضُ دعوات أصدقائي للخروج. وخلال وجود مَن يهتمّ بأبي، إستطعتُ أخيرًا تذوّق الحياة كما يجب. لكنّ مهمّة زوجة أخي كانت بالفعل التأكّد مِن أنّ أبي يأخذُ الأقراص المُستبدلة، ومُراقبة حالته لِمعرفة التوقيت المُناسب لِحمله على التوقيع على التنازل.
في إحدى الأمسيات، قال لي تامر بعد أن انتهَينا مِن تناول العشاء:
ـ لا أظنّ أنّ أبانا مُصاب بداء ألزهايمر.
ـ هل بدَّلتَ رأيكَ يا أخي؟ أنتَ أوّل مَن شخّصَ له هذا المرض.
ـ بالفعل لقد بدَّلتُ رأيي... أنا متأكّد الأن مِن أنّه يشعرُ بِنوع مِن الإكتئاب فهو باتَ وحيدًا بعد موت أمّنا... هذا كلّ ما في الأمر ولهذا السبب بالذات تركتُ بيتي وجئتُ إلى هنا مع زوجتي.
قصَدَ تامر مِن هذا الكلام التحضير لِما قد يحصل بعد توقيع أبي على التوكيل، فإن ثَبُتَ أنّ الرجل فقَدَ عقله فقد يبطلُ التوكيل تلقائيًّا. ولهذا السبب أيضًا منعَني مِن أخذ أبينا إلى الطبيب مُجدّدًا، خاصّة أنّ الفحوصات الأوّليّة لَم تكن قاطعة ولا تدلّ على شيء مُعيَّن. أنا مُتأكّد مِن أنّ أخي ندِمَ أنّه اقترحَ في البدء أنّ أبانا مُصاب بداء ألزهايمر، وأنّه في ذلك الوقت لَم يكن قد فكَّرَ بتلك الخطّة الجهنّميّة بل وردَت إلى عقله بعد تشاوره مع زوجته الشرّيرة.
بقيَت تسؤ حالة والدي ببطء أثارَ انزعاج تامر، فهو لَم يكن ينوِي إطالة إقامته في البيت بل الإسراع في أخذ التوكيل وبدء التخطيط لِصرف ذلك المال. لكنّه تسرَّعَ في التنفيذ.
فذات ليلة، في قرابة الثانية عشرة مساءً، سمعتُ صوت أبي يتعالى. قمتُ مِن فراشي كالمجنون وركضتُ إلى غرفة أبي ظانًّا أنّ مكروهًا حصَلَ له. وإذ بي أرى تامر واقفًا قرب فراش أبي حاملاً بيَده أوراقًا وقلمًا، بينما كان أبي يصرخ: "لا أريدُ التوقيع! لا أريدُ التوقيع!". عندما رآني أخي إرتبكَ فجأة فسألتُه:
ـ ما الأمر؟ ما هذه الأوراق؟ على ماذا تُريدُ أن يُوقّع أبي؟
ـ لا شيء... معاملات بسيطة. أنتَ تعلم كيف هو... فالمسكين فقَدَ عقله.
عندها أزاحَ أبي الغطاء عنه ووقَفَ قبالة إبنه البكر وصفعَه بقوّة هائلة قائلاً:
ـ لَم أُصَب بالخرَف بعد! أخرج مِن بيتي على الفور وخذ معكَ أفعاكَ!
خرَجَ تامر بسرعة، فاقتربتُ مِن أبي وساعدتُه على العودة إلى فراشه. سألتُه عمّا جرى فقال لي:
ـ يا إبني العزيز... لطالما كنتَ المُفضَّل إلى قلبي، ليس لأنّكَ بقيتَ معي وحسب، بل لأنّ قلبكَ جميل، على خلاف ذلك الفاسق.
ـ ماذا أرادَ تامر منكَ؟
ـ أرادَني أن أوقّع على توكيل عام لِصالحه كي يضَع يده على جنى عمري الآن قبل مماتي، وأن يُجرّدكَ مِن كلّ ما يحقّ لكَ. هو خالَ أنّني بتُّ خرفًا... صحيح أنّني صرتُ أنسى أشياءً كثيرة، لكن بصورة مُتقطّعة بيد أنّني لا أزالُ أعي ما أفعله. إسمَع... خُذ هذه الأقراص إلى الصيدليّ واطلب منه تفحّصها، فأنا مُتأكّد مِن أنّها ليست نفسها التي وصفَها لي الطبيب. لقد نسيَ أخوكَ أنّني رجل مُتعلّم ومُثقّف وأفهم بأمور عديدة. أعرف تمامًا ما هي حالتي بالرّغم مِن أنّكَ أردتَ تجنيبي هذه الحقيقة.
أخذتُ الأقراص إلى الصيدليّ حيث تأكّدَت شكوك أبي. إتّصلتُ بِتامر وواجهتُه بأمر التوكيل والأقراص، ومنعتُه مِن وضع قدمَيه في البيت مُجدّدًا. وهو هدَّدَني لكنّني لَم أتأثّر بكلامه مِن كثرة اشمئزازي منه.
بعد أيّام زارَنا محامي أبي بصحبة طبيب شرعيّ واختليا مع والدي في غرفته. سألتُ أبي عن الأمر بعد رحيلهما، فقال لي إنّه يهتمّ ببعض الأمور العالقة.
تدهوَرَت حالة والدي الذهنيّة على مرّ الأشهر، بالرغم مِن الأقراص الحقيقيّة وزياراتنا للطبيب المُستمرّة. كان الأمر محتومًا وتحضّرتُ للأسوأ.
أُصيبَ والدي بالضياع الكامل بعد سنة وكنتُ أبكي كلّ ليلة في غرفتي. كَم هو صعب أن نرى مَن نحبّ يغوص في ضباب النسيان. بذلتُ جهدي ليشعر والدي بالأمان والحبّ إلى حين فارقَ الحياة أخيرًا.
بعد مراسم الدفن والتي حضَرَها تامر وزوجته ليس حبًّا بأبينا أو بي بل ليُحافظ على ماء الوجه أمام الناس، إتّصَلَ بي المحامي ليقول لي إنّ أبي خصّني بِماله وأملاكه. وبما أنّه لا يُمكنه أن يحرم إبنه الآخر كلّيًّا، تركَ له أرضًا غير نافعة في منطقة نائية.
كادَ تامر أن يُجَنّ عندما علِمَ بالأمر، ووعدَني بِرفع دعوى ضدّي إلا أنّ المحامي منعَه مِن ذلك قائلاً إنّه يمتلكُ شهادة خطّيّة مِن أبي والصيدليّ بما يخصّ مُحاولته الحصول على توكيل واستبدال الأقراص، ما قد يودي به إلى السجن. سكَتَ تامر واختفى مِن حياتي فلَم أسمَع منه حتى اليوم. وأنا بأفضل حال مِن دونه.
الشيء الوحيد الذي يُزعلُني، هو أنّ ليس لي أخ آخر أو أخت، والوحيد الباقي مِن لحمي ودمي هو إنسان بلا ضمير أرادَ الإيقاع بأبيه وحرمان أخيه الصغير مِن كلّ شيء. أحمدُ ربّي لأنّني وجدتُ زوجة صالحة ومُحبّة عوّضَت لي عن تلك الخسارة.
حاورته بولا جهشان