ذئبٌ مُتخفٍّ

لم تشهَد بلدتنا حدَثًا مُماثلاً، ربما لأنّنا خلنا أنفسنا بمنأى عن الذي يجري في المدن الكبيرة. كنّا نظنّ أنّ الدنيا بألف خَير والناس جميعًا صالحون وطيّبون، وما هو أهمّ، بصحّة عقليّة ونفسيّة جيّدة... إلى أن اكتشفنا مذهولين ما كان يجري في الخفاء.

بلدتنا لا تبعُد كثيرًا عن مدينة كبيرة مُجاورة إعتادَ السكّان الذهاب إلى العمَل فيها لِتوافر الفرَص والرواتب العالية. وكان مِن السهل قصد تلك المدينة في الصباح والعودة اليها في المساء. لِذا احتاجَ العديد مِن السكّان إلى مَن يبقى مع الصغار الذين لا يذهبون إلى المدرسة بعد أو الأكبَر منهم خلال الفرَص المدرسيّة، بينما يذهب الوالدان إلى عملهما. لكنّ المتقدّمين إلى هذا العمل كانوا قلائل، فتصوّروا فرَح هؤلاء الأهل بإيجاد شاب مُهذّب وجادّ للبقاء مع أولادهم. فقد كان سليم بالفعل مثاليًّا ومحبوبًا مِن الجميع، وهو إبن أناس صالحين عمِلوا جهدهم لتقديم أفضَل تربية وتعليم لإبنهما الوحيد. وهكذا حصَلَ سليم على شهادة جامعيّة تخوّله إيجاد عمل جيّد، إلا أنّه فضَّلَ العودة إلى بلدته لِرعاية والدَيه وإراحتهما بالإهتمام بدكّانهما. ومع الوقت، جلَبَ سليم مَن يبقى مكانه في الدكّان بينما يتفرَّغ هو لِكتابة أطروحته الجامعيّة لنَيل دكتوراه في التربية. وإذ بقيَ لدَيه مُتّسَع مِن الوقت، عرَضَ على الأهالي الإهتمام بأولادهم في فترة غيابهم، الأمر الذي سيسمَحُ له أيضًا بدراسة تصرّفات الصغار في مراحل نموّهم والكتابة عن ذلك. هو لَم يطلب أجرًا مُقابل عمله ذلك، لكنّ الأهل كانوا يُكافؤونَه بشتّى الهدايا. أذكرُ أنّني قلتُ لنفسي آنذاك إنّه مِن المؤسف أنّني لَم أتزوَّج وأُنجِب بعد، لأستفيد مِن وجود سليم مع أولادي. فهو كان يتّبعُ طرق تربويّة حديثة لَم نرَها في البلدة.

لَم يسأل أحدٌ نفسه لِما لَم ينتهِ سليم مِن أطروحته بعد بالرغم مِن مرور سنوات على بدئها، فكان الجميع فرحًا ببقائه بالقرب مِن أولادهم ويتمنّون ضمنيًّا ألا يتغيّر الوضع. نتيجة مُجالسته للصغار أعطَت ثمارها جيّدًا إذ أنّهم سرعان ما صاروا هادئين وأكثر طاعة، وذلك حِلم كلّ أب وأمّ. هؤلاء نسوا أنّ الولد يكون بالعادة مُفعمًا بالحيويّة يُحاول بطرق عديدة إكتشاف العالَم الذي يُحيطُ به، وأنّ مِن الطبيعيّ أن يُفجّر هذه الطاقة وأن يُكوِّن شخصيّته بفَرض نفسه.

 


تزوّجتُ وأنجبتُ أخيرًا، وأذكرُ أنّني قصدتُ سليم حين كان إبني لا يزال في سنته الأولى لأحجزه لمُجالسة صغيري لاحقًا. هو ضحِكَ وأكَّدَ لي أنّه سيكون جاهزًا حين يأتي الوقت المُناسب. فرحتُ للغاية وزفَّيتُ الخبر السارّ لزوجي الذي لَم يُشاطِرني ذلك الحماس:

 

ـ لا أفهَم لِما تتناحرون على ذلك الذي إسمه سليم... إنّه إنسان غريب الأطوار ولا أستلطفُه أبدًا.

 

ـ هو ليس غريب الأطوار بل مُثقّف للغاية، وحياته تدور حول أبحاث عميقة يُجريها لتحسين سبل التعامل مِن الأولاد.

 

ـ ألَم يُحسِّن بعد تلك السبل؟!؟ لا بّد أنّه كسول يُضيّعُ وقته كي لا يُنهي تلك الأطروحة الشهيرة.

 

ـ هل تغار منه؟

 

ـ بل أرفضُ أن أكون مثله! يقشعرُّ بدَني كلّما أراه وتُريدين إدخاله بيتنا؟!؟

 

ـ سيأتي خلال تواجدنا في عمَلنا، لا تخَف.

 

ـ ويبقى مع ابني؟!؟ لا شكرًا! لا أُريدُ أن يكبر ليصبَحَ مثله.

 

ـ على كلّ حال، الأمر سابق لأوانه، سنتكلّم بالموضوع لاحقًا يا حبيبي.

 

ـ لن أُغيّر رأيي... الرجل ليس سليمًا... لقد اختاروا له الأسم غير المُناسب!

 

كبُرَ إبننا وبقيَ زوجي على رأيه، الأمر الذي سبَّبَ مُشاجرات عديدة بيننا، فقد إعتبرَتُه إنسانًا مُتعجرفًا وجاهلاً، ووصَلَ الأمر بي إلى الندَم على الزواج منه. اليوم أشكرُه على موقفه هذا لأنّه أنقَذَ إبننا مِن مُصيبة كبيرة. فما اكتشفناه عن سليم أكثر مِن فظيع، وحتى أيّامنا هذه أسألُ نفسي كيف لَم ينتبِه أحدٌ لهذا الأمر على مدى سنوات.

فالحقيقة أنّ سليم هو أبشَع إنسان على وجه الأرض ويستحقُّ أقصى عقوبة على ما فعلَه، وأظنّ أنّ القارئ بدأ يفهَم ما أقصد. أجل، كان سليم مُتحرِّشًا بالأطفال ويهوى بشكل خاصّ الصبيان منهم.

 


ولقد فَضَحَ أمره مُدرِّس هو فعلا مُربٍّ صالح خلافًا لذلك الوحش الضاري، والذي لاحَظَ على أحد تلاميذه تصرّفات كان قد قرأ عنها في مقالات ومراجع عديدة وتدلُّ على التعرّض إلى تحرّش جنسيّ. وبعد تحرّيات واستقصاءات عميقة، تأكّدَت شكوكه وعلِمَ مِن الولَد مَن هو الفاعل. بعد ذلك، تتالَت الإعترافات وتبَّيَن أنّ سليم قد نال مِن جميع الأولاد تقريبًا الذين جالسَهم، بدرجات مُختلفة. فذريعته التي كانت دراسة تصرّفات الأولاد مِن أجل التقدّم بسبل التربية، أقنعَت أهلهم بأنّ كلّ ردّة فعل عند صغارهم، مهما كانت، هي طبيعيّة وتعودُ إلى تغيّر وقتيّ ريثما يتأقلَم الولَد. خطّةٌ شيطانيّةٌ لا تخطر ببال أحد. أمّا بالنسبة لضحاياه، فاستعمَلَ معهم تارةً مكانته كمربٍّ، أيّ صاحب سلطة عليهم، وتارةً أخرى الترهيب والتهديد الذي وصَلَ إلى التهديد بالقتل. وبما أنّ ما مِن شيء يبقى سرّيًّا إلى الأبد، فانتهى المطاف بسليم وراء القضبان.

لن تتصوّروا مُفاجأتي حين سمعتُ الخبَر، ففي لحظة تراءى لي ما كان بإمكانه الحصول لوحيدي وبدأتُ بالبكاء وكأنّ شيئًا جرى له بالفعل. ثمّ أخذتُ الهاتف وخابرتُ زوجي مُقدّمة له إعتذاري لعدَم الأخذ برأيه لأنّه كان على حقّ بشأن سليم.

لكن أكثر ما فاجأنَي، هو انسحاب المشتكين ضدّ سليم، إذ تراجعوا الواحد تلوَ الأخر خوفًا مِن الفضيحة ولَم يبقَ سوى أهل الشاهد الأوّل اللذَين هما أيضًا فكّرا جدّيًّا بالتراجع. غضبتُ كثيرًا لأنّ ذلك كان يعني أنّ سليم سيُصبح حرًّا طليقًا فيتمكّن مِن مُتابعة أذيّته في أيّ مكان أرادَه، فمِن الواضح أنّه سيُغادر البلدة بعد أن فُضِحَ أمره.

فبعد أن تشاورتُ وزوجي، رحتُ أدقُّ باب أبوَي الضحيّة الأولى وجلستُ معهما لنتكلّم بالموضوع. فقلتُ لهم:

 

ـ إن كان إبني بخَير فذلك بفضل إبنكما وفضلكما... إن تراجعتما الآن فستذهب معاناة صغيركما سدىً، وستُفتَح الأبواب أمام شرّ ذلك الوحش ليؤذي أولادًا آخرين... إضافة إلى ذلك، سكوتكما سيُولّد كبتًا لدى ابنكما وسيسكنُ الخوف قلبه إلى الأبد لأنّ الجاني لن يُعاقَب. يجب أن يُحاكَم سليم ليظهر مرضه إلى العلَن، فالذنب ذنبه وحده وليس ذنب هؤلاء الأبرياء الصغار. إبنكما هو خشبة خلاص كلّ ضحايا سليم السابقين وربّما اللاحقين. أرجوكما... لا تكونا سبب أذى ملائكة صغار. لا تخافا على سمعة إبنكما، فالناس سرعان ما تنسى الفضائح، بل حرّراه كي يكبُر ويصير رجلاً مُتوازنًا. وبمساعدة طبيب نفسيّ سيتمكّن مِن تخطّي الذي حصَلَ له.

 

لا أدري إن كان كلامي هو ما بدَّلَ رأيي هذَين الأبوَين، إلا أنّهما مضيا بالقضيّة وانضَمَّ إليهما ثنائيّ آخر، أيّ ما يكفي لإدانة سليم لوقت طويل.

بعد ذلك، إنتقلتُ وعائلتي إلى المدينة بصورة دائمة، فسبب مكوثنا في البلدة كان إعطاء أولادنا فرصة للعَيش في بيئة نظيفة. لكن بعد الذي حصَلَ، وجدنا أن لا مكان آمنًا فالمرضى النفسيّون ليس لهم عنوان ثابت.

بعد تلك الأحداث المؤسفة، تغيَّرَ وجه البلدة إلى الأبد، فالكلّ باتَ يخافُ مِن الآخر ويشكُّ بِنواياه. وخسِرَ الأولاد براءتهم حين أدركوا باكرًا أنّ الشرّ موجود وقد عاشَ ليس فقط بالقرب منهم بل وسطهم وفي ديارهم.

ماذا حدَثَ لهؤلاء الذين وقعوا ضحيّة سليم؟ البعض ترَكَ البلدة للإبتعاد عن ألسن الناس، وآخرون تقوقَعوا في بيتهم وادّعوا أنّ كلّ شيء على ما يُرام. لكنّ المصيبة كانت قد حلَّت على مُستقبل ملائكة صغار وغيّرَت مجرى حياتهم إلى الأبد. هل ما حصَلَ هو نتيجة جهل أم بسبب إيماننا الأعمى بطيبة الانسان؟ لستُ أدري تمامًا إلا أنّني صِرتُ أرى في كلّ مَن أُخالطُه عدوًّا مُستتِرًا قادرًا على أذيّة مَن أُحبّ. تبًّا لكَ يا سليم! فلقد دمَّرتَ ثقتنا بعالم جميل ومُسالِم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button