دمَّرَت إبنتي سمعتي

أن يُسيء أحد إلى سمعة الغير أمرٌ شائع، ولكن أن يحصل ذلك مِن أقرب الناس إلينا وبالأخص مِن أولادنا أمر غير مقبول بتاتًا. وهذا ما مررتُ به مع هناء، إبنتي الحبيبة.

فبعد أن حصلتُ على طلاقي، إنتقلتُ للعيش مع إبنتي الوحيدة في شقّة صغيرة إستأجرتُها بعدما بعتُ خاتمي وعقدي. وبما أنّني لم أكن أعمل في ذلك الوقت، كان عليّ البحث عن مصدر قوت لنعيش بكرامة.

وكيف لي أن أجد عمل بعدما تركتُ المدرسة مبكّرًا لأتزوّج وأبني عائلة، خاصة أنّني لم أتصوّر أبدًا أنّ المطاف سينتهي بي بالطلاق بعد أن اكتشفتُ خيانات زوجي المتتالية؟

لِذا قبلتُ على مضض أن أنظّف منازل الناس. في البدء، وجدتُ الأمر صعبًا جدًّا، وبكيتُ كثيرًا خاصة في الليل كي لا تسمعني أو تراني إبنتي التي كانت قد أصبحَت مراهقة وبإمكانها التأثّر بشدّة بالذي يجري حولها.

 

وانتقلتُ مِن منزل إلى منزل إلى أن رسيتُ عند سيّدة طيبّة وكريمة تقدّر تعب الناس بالرّغم مِن أنّها كانت ثريّة جدًّا وزوجة رجل نافذ. كنتُ أذهب إلى الفيلا يوميًّا لأقوم بواجباتي، وتبقى إبنتي وحدها خلال فرصة نهاية الأسبوع. وعندما شعرتُ أنّ هناء بدأَت ولكثرة مللها تفكّر بالخروج مع صديقاتها إلى أماكن قد تكون مشبوهة، قرّرتُ أن أصحبها معي إلى حيث أعمل. كنتُ أعلم أنّ ابنتي لا تحبّ أن تراني راكعة أمسح الأرض، ولكنّ ذلك كان أفضل مِن تركها على سجيتّهَا في البيت.

ومرّة بعد الأخرى، بدأَت هناء تُظهر علامات الإستياء، فصِرتُ أسمح لها بالبقاء في حديقة الفيلا إلى أن أنهي عملي شرط أن تستفيد مِن وقتها بالقراءة أو الدّرس.

ولكن ما لم أكن أعرفه هو أنّ أحد الحّراس أُعجبَ بابنتي وبدأ يحوم وحولها، وهي لم تشأ إخباري خوفًا مِن ردّة فعلي. فهي كانت تعلم أنّني لن أسمح لها بالتعاطي مع الشبّان، أوّلاً لأنّني كنتُ أصرّ على الحفاظ على براءتها وثانيًا لأنّني كنتُ أعرف تمامًا كيف يُفكّر الرّجال، خاصّة بعد الذي حصَلَ لي مع زوجي.

 


وعندما كنّا نعود إلى المنزل وأسأل ابنتي عمّا فَعَلته خلال نهارها كانت تجيب بكلّ براءة:

 

ـ قضيتُ وقتي أقرأ في كتبي... ألا تَرَيني آخذ معي شنطتي المدرسيّة؟

 

ـ بلى حبيبتي... ولكنّني أخشى أن تملّي... أعلم أنّكِ تستحقّين حياة أفضل مِن تلك التي نعيشها ولكنّ الظروف شاءَت ذلك... لو كان أبوكِ...

 

ـ أرجوكِ يا أمّي لا تبدئي بالكلام عن أبي... فهو أبي... ومهما حصل بينكما فذلك ليس ذنبي.

 

ـ أنا آسفة... ستكبرين وستفهمين أنّني لم أكن قادرة على البقاء معه.

 

ـ حتى لو كلّفكِ الأمر أن تنظّفي بيوت الناس؟

 

ـ أجل

 

واستمّرَت هناء بإخفاء ما يحصل مع ذلك الحارس حتى رأيتُها ذات يوم بأمّ عيني وهي تقبّل وبشغف ذلك الرّجل في الحديقة. وصرختُ بها:

 

ـ ماذا تفعلين؟؟؟ وأنتَ؟ ألاّ تخجل مِن نفسكَ؟ إبنتي لا تزال طفلة

 

نظَرَ إليّ الحارس مبتسمًا وأجابَ:

 

ـ طفلة؟ هاهاها! كم أنّكِ تجهلين إبنتكِ

 

وتركَنا ورَحَل. ونظرتُ إلى إبنتي بأسف. لم أتخيّل أبدًا أن تكون هناء بتلك الجرأة. أمسكتُها بيدها وسحبتُها إلى الدّاخل، ولم أوجّه الكلام إليها إلى أن عدنا إلى الشقّة. عندها وبّختُها وقرّرتُ ألا أدعها ترافقني إلى الفيلا مجدّدًا. وأضفتُ:

 

ـ لم أصدّق أنّني وجدتُ هذا العمل... تعلمين كيف هو وضعنا... وثقتُ بكِ وخلتُكِ فعلاً تقضين وقتكِ بالدّرس... لا تعرفين كيف هم الرجال... أتعتقدين أنّه يُحبّكِ؟ إنّه يلهو معكِ وبكِ... أعرف كيف....

 

ـ كفى مواعظ! إنّك لا تعرفين شيئًا! لو كنتِ كذلك، لعرفتِ كيف تبقين أبي مهتمًّا بكِ... أمّا أنا فسأكون أذكى منكِ.

 

ـ يا مسكينة... لا تزالين صغيرة ولا تدرين شيئًا عن الحياة... مِن اليوم وصاعداً ستبقين هنا في فرصة نهاية الأسبوع وستدرسين فعلاً. أنا آسفة، ولكنّي سأضطر لإقفال الباب عليكِ لأنّكِ أثبتِّ لي أنّكِ غير جديرة بالثقة.

 

ـ ماذا؟ هل جننتِ؟ لا يُمكنكِ فعل ذلك!

 

ـ سنرى!

 

ونفّذتُ تهديدي والحزن في قلبي، فأنا لم أكن مستعدّة أن أخسر إبنتي، فمِن الواضح أنّها لم تستوعب شيئاً مِن الذي علّمتها إيّاه فيما يخص التصرّفات التي تليق بالبنات. ولم أكن مستعدّة لترك عملي والمكوث معها في البيت مِن دون أكل أو شرب. فالجدير بالذكر أنّ زوجي رفَضَ إعطائي ولو قرشاً واحداً، واكتفى بدفع مصاريف مدرسة هناء.

 


وعندما عدتُ مِن العمل وجدتُ إبنتي مرتاحة فارتاح قلبي. قبّلتُها بقوّة وأعددتُ لها عشاءً لذيذًا لأكافئها على مزاجها الجيّد. ولكنّ هناء كانت تخطّط لشيء آخر. فأثناء تلك الليلة، هربَت وأنا نائمة والتجأَت إلى معذّبي، أي إلى أبيها. وفور وصولها، إشتكَت له منّي، وبرّرَت هروبها بأنّني إمرأة سيئّة آتي بعشّاقي إلى البيت وأنّها لم تعد قادرة على تحمّل رؤية الرّجال يأتون الواحد تلو الآخر ولا الأصوات التي كانوا يُصدرونها برفقتي.

 

كيف توصّلَت إبنتي إلى أذيّتي بهذا الشكل؟ حتى اليوم لم أصل إلى جواب. فهي مِن طفلة بريئة وطيّبة تحوّلَت إلى مراهقة سيّئة وخبيثة لا يوقفها شيء، حتى تضحياتي لها. تركتني وذهبَت إلى آخر إنسان يُمكن التكلّم معه عن الأخلاق والقَيم وأعطَته ما كان ينتظره: أن يُبرّر ما فعلَه أثناء زواجنا.

وأخَذَ زوجي السّابق هاتفه واتصل بي، وقال لي كلامًا لم أسمعه مِن أحد مِن قبل وبدأتُ بالبكاء وكأنّني طفلة صغيرة. إستعمَلَ ألفاظًا مهينة أخجل حتى عن التفكير بها، وأقفَلَ الخط بعد أن وعَدَني بأنّني لن أرى هناء مجدّدًا وأنّه سيعمل جهده ليعلم الجميع حقيقتي.

ووفى بوعده، فأخبَرَ عائلتي أنّ ابنتهم ساقطة وأنّه كان على حق في أن يبحث عن غيري.

حزنتُ كثيرًا مِن أجلهم لأنّهم كانوا أناسًا طيّبين قضوا حياتهم بالفقر ومخافة الله. والأبشع مِن ذلك هو أنَ هناء قامَت بإخبار صديقها الحارس الذي بقيَت على علاقة هاتفيّة معه بأنّني أمّ سيّئة، وأنّها اضطرَّت للرّحيل بعيدًا بسبب زبائني الرّجال. وقام هو بِدوره بنقل ما علمَه إلى ربّة عملي التي فضّلَت التخلّي عن خدماتي حفاظًا على سمعة منزلها. وهكذا وجدتُ نفسي مِن دون أي شيء: مِن دون رجل ومِن دون إبنة ومِن دون عمل، أي مِن دون مدخول.

وغصتُ في حالة نفسيّة رديئة جدًّا لا توصف. شعرتُ أنّ العالم بأسره يتآمر ضدّي مِن دون أن أعلم السبب. هل كان يجدر بي أن أبقى مع رجل لا يحترمني ويقضي وقته مع النساء ليعود إلى البيت صارخًا وشاتمًا؟ هل كان عليّ ترك إبنتي مع أبيها لتضيع؟ أو ربّما ترك عملي لأبقى معها؟ أين أخطأتُ؟ أم أنّني وبكلّ بساطة وقعتُ على رجل فاسد وابنة ورثَّت منه جيناته البشعة؟

وبعد فترة عصيبة، إسترجعتُ ثقتي بذاتي لأنّني لم أجد سبيلاً آخر للإستمرار. لم أقبل أن أموت مِن الحزن أو الجوع، فما مِن أحد يستحقّ ذلك حتى أهلي الذين ابتعدوا عنّي مِن دون أن يتحقّقوا مِن كلام زوجي وإبنتي. ووجدتُ منزلاً جديدًا أنظّفه، وأخذتُ أضع المال جانبًا بعدما خفّ مصروفي مع رحيل إبنتي.

حاولتُ مراراً الإتصال بهناء ولكنّها لم تردّ يومًا عليّ حتى أنّها غيّرَت رقم هاتفها. وبالرّغم مِن إستيائي الشديد منها، لم أكفّ عن حبّها فهي فلذة كبدي وكنتُ أعلم أنّها لا تزال لا تعي فظاعة ما فعَلَته. خوفي الكبير كان من تأثير أبيها عليها فقد كنتُ على ثقة من أنّ إنسانًا معدوم الأخلاق مثله لن يعرف كيف يُربّي مراهقة، خاصّة أنّها كانت مهيّأة للسّير في طريق الرذيلة. فأوكلتُ أمّي بالإطمئنان عليها بعدما استطعتُ أخيرًا التواصل مع أهلي وشرح حقيقة ما حصل لهم. هل صدّقوني؟ لا أعتقد ذلك، ولكنّهم إدّعوا أنّهم فعلوا مِن كثرة طيبتهم وحبّهم لي.

وبعد حوالي السنة، إستطعتُ شراء بعض المستحضرات التجميليّة وصِرتُ أبيعها لجيراني وربّات عملي، بعدما قرّرتُ العمل في منازل عدّة بضع ساعات من النهار. وسرعان ما بِتُّ أجيد أصول الماكياج، وبدأت السيّدات تأتَين إليّ للتبرّج. وتغيّرَت حياتي كليًّا. أصبحتُ إمرأة جميلة بسبب ثقتي الجديدة بنفسي وبقدراتي، وفكرة إيجاد شريك لحياتي لم تعد مستبعدة.

اليوم، تصلني أخبار إبنتي مِن خلال أمّي ولكنّها ليست مشرّفة. علِمتُ أنّ هناء تركَت المدرسة وتقضي وقتها مع شابّات مثلها طوال النهار والليل. أعلم أنّني سأجد الطريق الذي يؤدي إلى قلبها وأنتظر ذلك اليوم بفارغ الصّبر.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button