صحيح أنّني أدين لأختي بالعاطفة والانتباه التي بذلتهما خلال سنين للتعويض عن فقدان أبوَينا ولكنّ ذلك لا يعني أنّه يحقّ لها التصرّف بحياتي كما يحلو لها وحسب ما يناسبها. فمنذ ما مات أبي ومِن ثم أمّي بمرض عضال حين كنتُ لا أزال في الثالثة مِن عمري أخذَت مُنى على عاتقها أن تحلّ محّلها وترعاني لأنّها كانت قد أصبحَت راشدة ولَم تكن بحاجة إلى وصاية أحد لتفعل ذلك. وبفضل راتبها في المعمل الذي كانت تعمل به استطعنا تخّطي الأوقات الصعبة التي واجَهتنا وتابعتُ هكذا دراستي حتى حصولي على شهادة البكالوريا. وخلال كل تلك الفترة عملتُ جهدي لإرضاء أختي والاستماع إلى توجيهاتها والانصياع لِتعليماتها ولم أسبّب لها ولو مرّة واحدة أي قلق أو عذاب كما يفعل المراهقون في غالب الأحيان. والسبب كان إدراكي للتضحيات التي بذَلتها مُنى مِن أجلي بعدما وضَعت حاجاتها جانباً مِن أجلي.
وبعد تخرّجي أسرعتُ في البحث عن عمل يريح أختي ويمكنّها مِن الإهتمام بنفسها وإيجاد عريساً لتأسيس عائلة قبل فوات الأوان. وهكذا أصبحَت أوضاعنا جيّدة بعدما شغلتُ منصب لا بأس به في شركة مبيعات. وسرعان ما وجَدَ مديري أنّني موظّف كفوء فأعطاني مسؤوليّات عديدة أدَّت إلى ترقيَتي. وأصبحتُ أغرِق مُنى بالمال والهدايا وكنّا آنذاك سعيدَين.
وتعرّفتُ إلى جنان موظّفة تعمل في فرع شركتنا الثاني بعد أن بُعِثَت إلينا للتنسيق. وكانت تلك الفتاة جميلة ورقيقة وتفكّر مثلي. ويوم بعد يوم باتَ الأمر واضحاً بيننا لِدرجة أنّ الجميع في الشركة راهنَ على زواجنا القريب. وبالرغم أنّ علاقتنا بقيَت رسميّة كنتُ أشعر أنّ جنان تحبّني حتى لو لم تقل ذلك وهي أيضاً كانت أكيدة مِن أحاسيسي تجاهها. فعندما طلبتُ منها موعداً لأتعرّف إلى أهلها لم تتفاجأ أبداً بل قالت ضاحكة لي: "ما الذي أخّرَكَ حتى الآن؟". واستقبلَني أبوها جيّداً واستلطفتني أمّها وحظيتُ بِرضى أختها الصغرى. أي أن كل شيء جرى كما يجب على الأقل مِن جانب حبيبتي.
أما بما يخص مُنى فكانت الأمور مختلفة فعندما علِمَت بنيّتي في الزواج إستاءَت كثيراً:
ـ وهل كنتَ ستخبرني يوماً أم ستنتظر حتى الزفاف؟
ـ حصلَ كل شيء بسرعة فائقة.
ـ أنا متأكدّة أنّني آخر مَن عَلِمَ بالأمر.
ـ أبداً يا أختي... تعلمين كم أحبّكِ وكم أحترمكِ!
ـ و أين ستسكن؟
ـ سنأخذ شقّة صغيرة... لا أريد فرض أحداً عليكِ.
ـ وبأيّ مال ستأخذ تلك الشقّة؟
ـ الشركة تسهّل علينا الحصول على قروض.
ـ أي ستكون مديناً لهم لِسنين طويلة.
ـ الكثير يفعلون ذلك... لست الأوّل ولا الأخير...
ـ يعني هذا أيضاً أنّكَ لن تستطيع مساعدتي... ديون ومصروف جديد...
ـ لا تخافي يا أختي... لن تشعري بأيّ فرق في نوعيّة حياتكِ... أعدُكِ بذلك.
ـ لا تنسى أنّني عملتُ سنين لتأمين دراستكَ.
ـ لستُ بناسٍ... أنا مدين لكِ بكل تضحية فعلتيها مِن أجلي.
لم أستاء مِن كلامها لأنّني كنتُ أحبّها كثيراً وأفهم قلقها على مستقبلها ولم أكن أبداً لإهمالها ماديّاً أو عاطفيّاً فبفضل راتبي وراتب جنان كنتُ قادراً على الإعتناء بأختي. ولكنّها لم تكن مستعدّة لتركي أذهب بعيداً عنها فبعد أسبوع عَرَضَت عليّ أن أقيم مع جنان معها بعد الزواج. وإستشرتُ خطيبتي ولكنّها رفضَت بتهذيب:
ـ أنا آسفة ولكنّني لا أتصوّر نفسي أعيش في منزل ليس منزلي مع إمرأة لا أعرفها... أرجوكَ أن تتفهّم قراري هذا... أحبّكَ كثيراً ولكنّني أعلم أنّني لن أكون سعيدة مع أختَكَ حتى لو كانت أفضل إنسان على وجه الأرض.
ولأنّ سعادة جنان كانت تهمّني كثيراً ولأنّني كنتُ أعلم أنّها على حق لم أصرّ عليها خاصة أنّني كنتُ أعرف مُنى جيّداً وأعرف أنّها لن تسمح لِجنان أن تتصرّف وكأنّها سيّدة البيت. لِذا رفضتُ عرضها بألطف طريقة ممكنة. ولكنّ هذا الرفض أغضبَها لأنّها لم تتمكنّ مِن إبقاء مصدر المال بقربها وخافَت أن يذهب كل ما عمِلَت عليه سدىً.
عندها قرّرَت أنّ أفضل طريقة هي إبعاد جنان عنّي ولم يكن هناك سوى طريقة واحدة لذلك: تأليف الأكاذيب عنّي لكي تكرهني الفتاة وتعدل عن الزواج بي. وأوحَت لي أنّها تفّهمَت الوضع وأنّها تبارك زيجتي مِن حبيبتي. ولأنّني لم أتوقّع ما كانت مُنى تحيكه لي فلم أستعدّ لمواجهة المصيبة التي حلَّت بعد ذلك: قصَدَت مُنى منزل جنان وهناك أفَرَغَت سمّها عنّي لأهلها الذين صدّقوها طبعاً فمَن يتخيّل أنّ أختاً تكذب هكذا عن أخيها الوحيد. وعندما إتصلتُ بجنان لإلقاء التحيّة عليها ككل يوم تفاجأتُ بها تقول لي:
ـ لا أريد سماع صوتَكَ بعد الآن أو رؤية وجهكَ البشع.
ـ ما الأمر يا حبيبتي؟ ما هذه المزحة الثقيلة؟
ـ هذه ليست مزحة بل أعني كل كلمة أقولها... لقد إنكشفَت حقيقتكَ الشنيعة... أحمد ربّي أنّني علِمتُ كل ذلك عنكَ قبل فوات الآوان... الوداع.
وأقفلَت الخط وركضتُ أقرع بابها ففتحَ لي أبوها. وبعد أن نظَرَ إليّ باحتقار هدّدَني بالقتل إن عاودتُ المجيء إلى بيته أو حاولتُ التكلّم مع إبنته. ووقعتُ في حيرة كبيرة لأنّني لم أكن أعلم أبداً سبب تصرّفاتهم معي لم يكن لديّ وسيلة لأعرف ما يجري فقصدتُ الإنسانة الوحيدة التي خلتُها تفهمني وتحبّني: أختي التي ربَّتني وكأنّني إبنها. وبعد أن رويتُ لها ما جرى إكتفيتُ بالقول:
ـ لم أحبّ أيّ منهم... نحن بأفضل حال مِن دونهم... ما يهمّ الآن هو أنّنا مع بعضنا والباقي تفاصيل.
ولكنّني كنتُ أحبّ جنان أكثر مِن أيّ شيء في العالم وفكرة كرهها المجّاني لي كانت لا تطاق. فلو أعطَتني تفسيراً لإرتحتُ قليلاً ولو قالت لي أنّها عدَلَت عن الزواج بي لسبب وجيه لتقبّلتُ الأمر وتابعتُ حياتي. ولكنّني أصبحتُ كالمجنون لا أذوق طعم النوم ولا أركّز على شيء آخر وصِرتُ أقصد شارع منزل جنان على أمل أن ألتقي بها ولو صدفة. ولكنّها كانت قد ذهبَت إلى القرية عند أقرباء لها وسرعان ما وجدوا لها عريساً آخراً. ولكثرة خيبتها بي قبِلَت بذلك الرجل وتزوّجَته بغضون أسابيع وسافرت بعيداً. وعندما وصلَني الخبر خلتُ أنّني سأموت مِن اليأس. كيف حصل ذلك لي ولماذا؟ كيف إنقلَبَت حياتي فجأة هكذا؟ جاءَني الجواب مِن مُنى نفسها عندما أخبرتُها أنّ حبيبتي تزوّجَت وتركَت البلد:
ـ وأخيراً! لقد تخلّصنا منها!
ـ لماذا تقولين ذلك؟ كنتُ سعيد معها... كانت إنسانة محبّة ووفيّة وتحبّني إلى أقصى درجة.
ـ لو أحبّتكَ فعلاً لما صدّقَت كل تلك القصص... لكانت على الأقل أصرّت على معرفة الحقيقة منكَ.
ـ أيّ قصص؟
ـ كنتُ أعلم أنّ تلك الفتاة غبيّة وسخيفة... ولمعرفة مدى تعلّقها بكَ قلتُ لأهلها أنّكَ تتعاطى المخدّرات وتعنفّني طلباً للمال لشراء الكوكايين.
ـ قُلتِ لهم ذلك؟ كيف؟ ولماذا؟ أنا أخوكِ!
ـ رأيتَ بنفسكَ النتيجة... أسرعَت بترككَ وتزوّجَت مِن آخرٍ.
ـ مَن أوكَلكِ بالاستقصاء عن قوّة حبّها لي؟ لقد شوّهتِ صورتي أمام الجميع! لا أصدّق أن هدفكِ كان شريفاً... بل فعلتِ ذلك لكي لا أتزوّج وأقطع عنكِ المال!
ـ أجل... أنتَ مدين لي! لقد حرمتُ نفسي مِن أشياء كثيرة مِن أجلكَ.
ـ ومَن طلبَ منكِ أن تفعلي ذلك؟ وإلى متى سأظّل مدين لكِ؟ طوال حياتي؟
ـ أجل... أنتَ لي وستظلّ لي إلى الأبد.
ـ أنتِ مجنونة حقّاً! بعتِ سعادتي وسمعَتي مقابل راحتكِ الماديّة... أيّ أخت تفعل ذلك بأخيها؟ ومَن يمنّن الآخر على تضحيّاته له؟ أيّ حبّ هذا؟ هذه أنانيّة وإستملاك!
ـ لم يكن يجدر بي أن أخبركَ بالذي فعلتُه.
ـ كنتُ سأعلم في أيّ حال... ما مِن شيء يبقى سرّاً مطوّلاً... اسمعي يا "أختي الحنونة"... سأترك المنزل وأعيش بعيداً عنكِ... ولكنّني سأظّل أبعث لكِ بالمال لأنّني إنسان طيبّ وكريم ولأنّ ذلك هو ما تريدينه منّي... ولكنّكِ لن ترَينني مجدّداً وأقسم بالله أنّكِ لن تعرفي شيئاً عنّي بعد الآن... لن تستطيعي بخّ سمّكِ عليّ بعد الآن... وداعاً.
وفعلتُ ما وعدتُها به ورحلتُ بعيداً عنها. ولكنّ حياتي كانت قد تأثّرَت كثيراً مِن الذي جرى فإلى جانب حزني على فقدان جنان تألّمتُ مِن مكر وخيانة أختي لي بعد أن اعتقدت طوالا سنين أنّها تحبّني فعلاً. ومِن جراء كل تلك الأحداث الموجعة فقدتُ حبّي للحياة والناس وها أنا اليوم أعيش لوحدي في شقّة صغيرة بعيداً عن أيّ إنسان يمكنه أن يخون ثقتي به خاصة النساء.
حاورته بولا جهشان