دفعتها الغيرة إلى أن تخرّب عملي!

علقت في زحمة سير خانقة شلّت المدينة وصولاً إلى أبعد ضواحيها، فخفت من ألاّ أصل إلى الموعد في الوقت المناسب. بعد سنوات عديدة أمضيتها في كندا، عدت إلى البلاد وكنت بحاجة إلى إيجاد عمل جيّد يكون على المستوى التعليمي الذي بلغته، وذلك قبل أن ينفد المبلغ الضئيل الذي ادّخرته. 

تخصّصت في ميدان التجميل والماكياج، ووجدت عرض العمل هذا على الانترنت. أرسلت صورتي وسيرتي الذاتية ولم يبقَ عليّ سوى إجراء المقابلة لأوقّع على عقد ينصّبني في مركز المديرة على صالون كبير ومركز ضخم للجمال. لكنّ زحمة الطرقات وطريقة القيادة في البلد جعلتني أتوتر كثيراً. 

حين وصلت إلى العنوان المذكور، حسّنت تسريحة شعري سريعاً وصحّحت الماكياج وصعدت السلالم بسرعة خيالية. لكن، بما أنّ مفهوم الدقة في الوقت في الشرق مختلف تماماً عنه في أميركا الشمالية، لم يتنبّه أحد لتأخري، لا بل كانت هناك مرشّحة أخرى للوظيفة تجلس في قاعة الانتظار. كانت أكبر مني سناً وتُدعى إلهام، أصبحت أرملة منذ فترة قصيرة وعليها أن تتحمّل مسؤولية ثلاثة أولاد، لذا كانت تعوّل كثيراً على فرصة العمل هذه. حين جاء دورها تمنّيت لها التوفيق، ولدى خروجها ارتسمت على وجهها علامات الرضى، ثمّ دخلتُ أنا إلى مكتب السيدة صونيا، صاحبة المركز.

جرت المقابلة على أفضل ما يرام وقد أذهلتها خبرتي التي اكتسبتها في كندا كما أخبرتني أنّها، من بين كلّ المرشحات اللواتي تقدّمنَ إلى المنصب، لن تختار سوى إلهام وأنا وأنّ خيارها سيقع على من تبدو أكثر قدرةً على تقوية المجموعة الجديدة لمنتجات العناية التي تودّ نشرها وعلى إدارة الموظفات بطريقة جيدة. وقد أكّدتُ لها أنّني لن أخيّب أملها. 

بعد مرور يومين، أعلموني أنّني حصلت على الوظيفة فطرت من الفرح! وفي اليوم المحدّد، وصلت إلى مكان العمل بكل اندفاع وحماسة. وحين فتحت باب المركز، فوجئت بإلهام جالسةً بالقرب من مستحضرات للعناية بالشعر عند المدخل فأخبرتني أنّها أُجبرت على قبول وظيفة البائعة هذه حين رُفضت في منصب المديرة، على الرغم من المبلغ الزهيد التي تحصل عليه من وظيفتها كبائعة. لدى رؤيتها خائبة هكذا، تقلّصت فرحتي وشعرت بالذنب. بيد أنّ فريق العمل كان ودوداً جداً ومتعاوناً فنجحت في بسط سلطتي وفي تحقيق بعض التغييرات من غير أن أسيء لأي شخص.

كانت الأجواء مؤاتية جداً وبدا لي المستقبل واعداً إذ شعرت الزبونات بالرضى وامتلأ جدول المواعيد وراح المستحضر الجديد يُباع كالخبز. في هذه الأثناء، بدأت المشاكل! في البداية، راحت القوارير ومستحضرات التجربة تختفي فسألت الموظفات عن الأمر لكن عبثاً لم أجد الجواب. وكي لا أثير قلق مالكة المركز مسبقاً قررت الانتظار وتوخي الحذر. ثم سرعان ما صارت السيدات، الواحدة تلو الأخرى، يتذمّرنَ من كون المنتج غير فعّال ومن كونه يسبّب الحساسية، وهذا كان مستحيلاً لأنّه خاضع لتجارب طبية وقد أعطى لأكثر من شهرين نتائج مذهلة وناجحة.

أقنعتني إلهام بالتروّي قليلاً وبأنّ الأمور ستصطلح قريباً فسمعت نصيحتها لكونها الوحيدة التي كانت تشجعني. لكن، سرعان ما رحلت كل الزبونات وبدأت العاملات في المركز يخفنَ على وظائفهنّ. هكذا إلى أن منحتني السيدة صونيا مهلة أسبوع لأعيد المياه إلى مجاريها، وإلاّ فستفسخ العقد بيننا. شعرت بالذل والظلم فترقرق الدمع في عيني لكنّني تماسكت وخرجت من المكتب من غير أن يبدو عليّ الأسى.

وهنا، رأيتها! كانت إلهام تمزّق كتيّباتي بالكثير من الحقد. لم أنقضّ عليها بل على العكس تظاهرت بأنّني لم أرَ شيئاً. قفزَت مرتعدةً والخوف يظهر على وجهها لكن حين رأتني أبتسم لها أبدت ارتياحها. عندئذٍ، بدأت بمراقبتها. فمن دون شك، كانت تنجز مهمتها خلال استراحة الغداء حين تكون حجرات العناية خالية. لم يكن أمامي متّسع من الوقت لذا وجب عليّ التصرّف بسرعة. لذا، طلبت مقابلة السيدة صونيا. 

 

- مدام صونيا، اسمحي لي بمحاولة أخيرة، وإن لم أنجح في إصلاح الوضع حتى نهاية الأسبوع، فسأرحل على الفور وأتكفّل بدفع كلّ الخسائر الحاصلة منذ وصولي إلى المركز. 

 

وفي نهاية الأسبوع، يوم الجمعة عند المساء، جمعت السيدة صونيا كل الموظفات في قاعة الاجتماعات. وحين بدأت بالكلام راح قلبي يخفق بسرعة كبيرة: 

 

- أعرف أنّكنّ تعملنَ بجهد كبير يا صديقاتي العزيزات، وأعرف أنّ سمعة المركز تهمّكنّ كثيراً. الآن، سأعرض عليكنّ شيئاً قد يثير اهتمامكنّ.

 

وهي تقول تلك الكلمات، ضغطت على زر حاسوبها فظهرت صورة على الشاشة الكبيرة. كانت صورة إلهام في إحدى حجرات العناية وهي تُفرغ محتويات قوارير مستحضرات التجميل وتبدّلها بأخرى. فأصيب الجميع بالذهول!

 

- خطرت ببال مديرتنا فكرة وضع كاميرات في جميع الحجرات. وأنا أقدّم لها شديد الاعتذار لأنّني شككت للحظة في قدراتها ولأنّني أصغيت لأشخاص يتآكلهم الحقد والغيرة.

 

قالت هذا وهي تبحث بنظراتها عن إلهام التي اقتربت من الباب لترحل بسرعة من غير أن تطالب بما بقي لها من مال.
أحطنني جميعهن وهنّأنني وقبلنني، أمّا السيدة صونيا فنظرت إليّ نظرة ثقة وشراكة. ابتسمت لها واستدرت نحو فريقي قائلةً:

 

- هيا إلى العمل يا فتيات. سنحرز نجاحاً باهراً!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button