دفع أبي بوالدتي إلى الهلاك

لقد تعلّمتُ درساً مريراً وهو أن على الإنسان أن يحبّ مَن هو مِن بيئته وثقافته وإلاّ وقّعَ في مشاكل قد تؤدّي أحياناً إلى مآسي. وهذه قصّة والدتي وسأرويها عنها لأنّها لم تعد موجودة لتفعل ذلك بنفسها.

ولِدَت أمّي في العاصمة وسط عائلة أناس إرتادوا الجامعات وشغلوا مناصب مهمّة في مجالات متعدّدة وكان مقدّر لها أن تحذو الطريق ذاته لولا لقاءها بِأبي الذي كان على عكسها إبن تقاليد قديمة ومتعجرفة. ولأنّه ذهبَ وهو مراهق إلى أوروبا للعيش عند أقارب له خالَت أمّي أنّه إكتسبَ بعض عادات الغرب وتغلّبَ على بيئته. لِذا أعطَته موعداً بعدما إلتقَت به عند أصدقاء لها كانوا أيضاً مُعتقدين أنّه إنسان مثقّف وعميق. ووقعا بغرام بعضما وأسرعا في التخطيط لمستقبلهما سويّاً ولكنّ أهل والدتي إعترضوا على تلك الزيجة لأنّ العريس لم يكن مناسباً كفاية.

وككل فتاة في الثامنة عشر أصرَّت والدتي على اللحاق بعواطفها فقبِلَت أن تهرب مع رجل حياتها تاركة كل ما عَرَفته وراءها. وسكنا في شقّة جميلة ولكن صغيرة في الطابق الأخير مِن مبنى قديم وبدأت حياتهما الزوّجية. ولم تندم أمّي على أختيارها لأبي بل كانت سعيدة جدّاً معه على الأقل قبل أن تعرف مدى حبّه وإصراره على الأولاد وبِكثرة.

وبعد أن أنجبَت إبنها الأوّل ببضعة أشهر طلَبَ منها أبي أن تأتي له بالثاني وترجمَت أمّي ذلك بأنّها علامة حبّ وإمتنان على الطفل الذي أعطَته إيّاه فلّبت طلبَه وجاء أخي الثاني إلى الدنيا. وكانت المسكينة قد عانَت كثيراً مِن حمَلَين متتالَين ووجود ولدَين صغار معها فقرّرَت أنّ ذلك كافٍ على الأقل لبضعة سنوات خاصة أنّها كانت لا تزال شابّة وقادرة على الإنجاب لمدّة طويلة. ولكن سرعان ما أعربَ أبي عن نيّته في ولد ثالث خاصة أنّه كان يريد فتاة هذه المرّة. فإجابَته:

 

ـ وماذا لو جاء ولد ثالث؟

 

ـ سنحاول مرّة رابعة.

 

عندها صَرَخت به:


ـ ما هذا الكلام؟ منذ ما تزوّجنا لم تأخذني إلى أيّ مكان بل قضينا وقتنا أو بالأحرى وقتي أحمل وأنجب... أريد أن أرى الحياة والناس وأن ألبس ثيابي الجميلة وأتبرّج و...

 

ـ أنتِ زوجتي وستفعلين ما أقوله لكِ... لا لزوم للِبس والتبرّج فإنا أحبّكِ كما أنتِ... أريد عائلة كبيرة وأريد إبنة!

 

ورغم إمتعاضها رضخَت المسكينة إلى مشيئته راجية الله أن تنجب فتاة لِتخرج مِن تلك الدوامة. وولِدَ أخي الثالث وبكَت أمّي كثيراً عندما قال لها أبي وهو ينظر إلى الولَد: "لا بأس.. ستأتي البنت في المرّة القادمة." وهكذا عادَت والدتي تربّي ليلاً ونهاراً ودون إنقطاع بينما أبي يخرج مع أصدقائه ويذهب لزيارة أهله مِن دونها لكي لا تلتهي عن أولادها بينما كل ما كانت تريده هو التنزّه ولو قليلاً ورؤية وجوه أليفة.

وبعد سنة وجَدَت نفسها حاملاً مِن جديد وأُصيبَت بكآبة أجبرَتها على ملازمة الفراش. ولكنّ أبي ولِجهله لم يعترف بحالتها وأجبرَها على متابعة أعمالها المنزليّة والإهتمام بإخوتي الثلاثة وهي حامل ولم يطلب حتى مِن أمّه أو شقيقته المجيء لمساعدتها. وعندما أنجبَت إبنها الرابع قرّرَت أن تمنع زوجها مِن الإقتراب منها. وهنا بدأت ما أسميّها النهاية لأنّ أبي إعتبَرَ ذلك تحدّي خطير مِن قِبَل زوجته وأصرّ أن يمارس الجنس معها ولو بالقوّة.

 


وأخبَرَني أخي الكبير أنّه كان يسمع صوتها وهي تصرخ وتبكي وتتوسّل لأبي لكي يتركها وشأنها وكان هذا الأخير يضربها ويشتمها حتى تستسلم له. وبعد فترة حَمِلَت أمّي المسكينة مِن أخي الخامس وقال لها الطبيب أنّ عليها التوقّف عن الحمل لأنّ ذلك أنهكَ جسَدَها ونفسيّتها ولكنّ أبي لم يكن يعترف بآراء الذين يسميّهم بالدَّجّالين. وهَمَسَ بأذنها: "لا أزال أنتظر الفتاة التي وعَدتيني بها." عندها قرّرَت أمّي اللجوء إلى أهلها الذين كانوا قد قطعوا كل صلة بها منذ زواجها فخابرَت بأمّها لتطلب منها الإذن بالذهاب إليها مع أولادها الخمسة. وعندما سمعَت جدّتي ذلك صَرَخَت:

 

ـ ماذا؟ خمسة أولاد؟ مِن أين أتيتِ بهم؟ هل هذا هو الزواج الذي كنتِ تحلمين به؟

 

ـ لا...

 

ـ عندنا كنتِ محاطة بكل وسائل الراحة وكنتِ ستدخلين الجامعة لتصبحي محامية كوالدكِ... كنّا نقيم لكِ الحفلات وتذهبين معنا إلى مناسبات راقية... خمسة أولاد؟؟؟

 

ـ أجل يا أمّي... أرجوكِ سامحيني... لا أستطيع المتابعة هكذا... أنا تعبة مِن صراخ الأولاد ومرضهم وإحتياجاتهم... تعبة مِن الحمل وعوارضه ومِن الإنجاب وآلامه... لقد أخطأتُ الإختيار... سامحوني!

 

ووعدتَها جدّتي أن تكلّم جدّي ولكنّه رفَضَ إستقبال أمّي لأنّه خجِلَ مِن حالتها. وهكذا وجَدَت أمّي نفسها وحيدة مِن جديد مع رجل لا يحبّ أحداً فبالرغم مِن زعمه بأنّه يعشَق الأولاد لم يكن يجلس معهم أو يلاعبهم أو حتى يهتم بأبسط حاجاتهم. كل ما كان يريده هو عائلة كبيرة لإثبات رجولته ولأنّه هكذا تربّى بعدما فعلَ أبوه الشيء نفسه بأمّه. وكل توسّلات والدتي لم تحمله على الإمتناع عن الإنجاب وبقيَ يمارس الجنس معها كل ليلة لكي لا يضيَع فرصة لِجلب الطفل السادس الذي كان أنا. وكان حمل أمّي بي صعباً جداً فبدأت تنزف وتغيب عن الوعي وقضَت وقتها بين المنزل والمستشفى تاركة باقي الأولاد عند الجارة التي شفقَت عليها وساعدتها بعض الشيء.

ورغم شباب أمّي بدَت أكبر بكثير مِن سنّها ففقَدَت نضارتها وحبّها للحياة ولم يعد يغريها شيء. وعندما حانَ موعد الولادة ذهبَت إلى المستشفى وكأنّها ذاهبة إلى كرسيّ الإعدام ولكن عندما رأتني وحمِلَتني على صدرها صَرَخَت: "إنّها فتاة!" وبكَت المسكينة مِن الفرَح لأنّها إعتقَدَت أنّها ستستطيع أخيراً أن ترتاح مِن عذابها ولكنّها أصيبَت بصدمة كبيرة حين قال لها أبي: "حسناً... الآن يجب أن نأتي لها بإخت". وأظنّ أنّ تلك اللحظة كانت الحاسمة وأنّ والدتي قرّرَت أنّ عليها وضع حدّاً لما يجري لها. وقبل أن يجبرها أبي على الحمل مِن جديد وأن تقترفَ جريمة بحق جنين بريء حَبَست أمّي نفسها في الحمّام وصَعِدَت على حافة المغطس ورَمَت نفسها مِن الشبّاك. كنتُ لا أزال في أوّل شهر مِن حياتي ولم يتسنّى لي أن أحفظ في ذهني الصغير حتى صورة لها. وعندما عادَ أبي مِن العمل ووجَدَ الناس والشرطة والإسعاف مجتمّعين أمام المبنى لم يتصوّر أنّ زوجته فضّلَت الموت على البقاء معه والعيش حياة إنعزال ولم يفهم لِمَ فعلَت ذلك لأنّ بنظره النساء موجودات للإنجاب فقط. وبعد مراسيم الدفن التي حضَرَها أهل أمّي بعدما وصلَهم الخبر الحزين قصَدَت جدّتي أبي لِتقنعَه بأن تأخذَني معها ربّما تكفيراً لتخلّيهما عن إبنتهما:

 

ـ لا يجدر بالبنت أن تبقى وسط خمس صبيان... ولن تعرف كيف تربّيها... وهكذا سنخفّف عنكَ العناء... إفعل ذلك على الأقل مِن أجل إبنتي المسكينة.

 

وإستطاعَت جدّتي أن تأخذَني وكنتُ كل ما تبقّى مِن فتاتها التي ماتت مِن التعب واليأس. وكبرتُ وسط جوّ سليم ولم ينقصني شيء سوى طبعاً وجود أمّي معي ولكنّني حظيتُ بالحنان الكافي لأصبح إمرأة متوازنة. لم أقطع علاقتي بإخوَتي أبداً وساعدتُهم كثيراً نفسيّاً وماديّاً لأنّهم كانوا مثلي ضحايا أب أناني وجاهل. أمّا علاقتي بوالدي فبقيَت فاترة لأنّني لم أستطع مسامحته على ما فعَله بأمّي وبنا فكان بأمكانه أن يعيش سعيداً لو أحبّ زوجته كفاية لإسعادها وتلبية رغباتها وأن يؤسّس معها عائلة جميلة مبنيّة على الإحترام والمشاركة.

أنا اليوم إمرأة متزوّجة ولديّ ولدَين وإخترتُ زوجي بعدما درستُ نفسيّته وأفكاره مطوّلاً ووجدتُ أنّه يناسبني ويحبّني كفاية لنقضي عمرنا سعداء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button