منذ ولادتي وأنا أسمع أنّ على المرأة مساندة رجلها والتضحية مِن أجله مهما كانت الظروف. كلام نابع مِن مجتمع ذكوريّ يُرسّخ بعقول الفتيات مفهوم نكران الذات، ليحيا الرجل وينعم بكل وسائل الراحة المعنويّة والجسديّة.
لو أنّهم عزّزوا كرامتي ولو أنّهم أخبَروني عن حقوقي وعن حقيقة النفس البشريّة، لما أهدَرتُ خمس سنوات مِن حياتي خرَجتُ منها مجروحة القلب لمدّة طويلة.
تعرَّفتُ إلى فوزي في الجامعة، ووجدتُ فيه سمات الرّجل التي زرعوها في رأسي، وأحببنا بعضنا بسرعة وبقوّة. لكنّ لا أهلي ولا أهله وافقوا على ارتباطنا، بسبب سنّنا وعدم قدرتنا آنذاك على تأسيس عائلة.
لكنّني لم أكن مستعدّة لإفلات الرّجل المثاليّ مِن يديّ، بعدما كنتُ محظوظة كفاية لإيجاده بسرعة، فناضلتُ مِن أجل تحقيق حلمي الأوحد: الزواج مِن فوزي.
دعَمتُ حبيبي معنويًّا وماديًّا بعدما وجدتُ عملاً لم أكن لأختاره لولا الظروف الملحّة، حتى استطاعَ أن يُؤسّس شركة تجاريّة صغيرة تكون انطلاقة لشيء أكبر، وقبِلتُ أن أسكن مع أهله بعد زواجنا كي لا نضطرّ لصرف المال على مسكن خاص بنا.
وبعد فترة عصيبة، وافَقَ أهلنا على أن نخطب، وكنتُ بالفعل أعيش حلمي. كانت قد مرَّت سنَتان منذ لقائنا الأوّل، ووضعت خاتم الخطوبة بفخر واعتزاز بعدما ضحَّيتُ بشهادتي الجامعيّة وبساعات طويلة مِن العمل.
الشيء الذي كان يُعزّيني إلى جانب حبّ فوزي لي، كان نظرة الناس إلينا وإلى علاقتنا، أي أنّ كلّ الذين كانوا يعرفوننا أو حتى الذين كانوا يرَوننا سويًّا لأوّل مرّة، كانوا يحسدوننا على حبّنا، الأمر الذي عزّزَ ثقتي بأنّني أحسنتُ الاختيار وبأنّنا سنكون سعيدَين إلى الأبد.
ولكن يُقال إنّ السعادة لا تدوم طويلاً، وكان ذلك هو الحال في ما يخصّني، فبدأ فوزي يتغيّر معي ومِن دون سبب وجيه. باتَ خطيبي قليل الصّبر معي ويغيب مِن دون عذر مقنِع. حاولتُ معرفة ما يدور في رأسه، وخفتُ كثيرًا أن يكون قد توقَّفَ عن حبّي، ولكنّه بقيَ يُطمئنني ببضع كلمات جميلة.
إلا أنّني لم أقتنِع بأنّ مشاعره تجاهي لم تتغيّر، وأكلَني الهمّ لدرجة أنّني فقَدتُ الشهيّة على الأكل ومرِضتُ. لم أكن أتصوّر العيش مِن دون فوزي، خاصة بعد كلّ الذي مرَرتُ به وفعلتُه مِن أجله.
وما عزّزَ شكوكي كان تهرّب فوزي مِن الكلام عن الزفاف، وإرجاء الموعد باستمرار وكأنّه لم يعد متأكّدًا مِن وجوب ارتباطنا. وفقَدَ أهلي صبرهم، خاصّة بعدما رضوا بالذي كانوا يرفضونه، وباتوا يحثّوني على الزواج وبسرعة. وكانوا على حق إذ كانت علاقتي بفوزي قد بدأَت قبل خمس سنوات، ولم يعد هناك مِن عقبات تعترض طريقنا نحو السّعادة الزوجيّة.
واختفى خطيبي لمدّة شهر بكامله. حاولتُ طبعًا معرفة مكانه، بعدما خفتُ من أن يكون قد حصَلَ مكروه له، ولكنّه كان بخير وأجابَ أخيرًا على اتصالاتي المتكرّرة والملحّة ليقول لي إنّه "مشغول بعض الشيء". لم أصدّق أذنَيَّ، فكيف له أن يرحل هكذا ويُجيبني وكأنّه غاب يومًا أو أثنَين؟
مرّة أخرى قرَّرتُ التحمّل، لأنّني، وكما شرَحتُ في أوّل قصّتي، كان عليّ كامرأة أن أقدّر ظروف رجلي حتى لو لم تكن مقنعة.
وعادَ فوزي مِن غيابه الطويل، وحين زارَنا في البيت سألَته أختي التي لم تكن أبدًا مقتنعة بمشاعره تجاهي، إن كان يُحبّني فأجابها: "لا أعلم".
تصوّروا شعوري عندما سمعتُه يقول ذلك، وكأنّه كان قد تعرَّفَ إليّ منذ أيّام قليلة لا مِن خمس سنوات! كان مِن المؤكّد أنّه لم يكن على ما يُرام، وردَدتُ الأمر آنذاك إلى خوف بعض الرجال مِن الارتباط الدائم، وقرَّرتُ إعطاءه بعض الوقت ليستجمع نفسه ويعود كما كان في السّابق أي مغرمًا بي إلى أقصى درجة.
ولأفهم ما الذي يكان يُزعج فوزي، قصَدتُ أهله أثناء وجوده في الشركة. هناك رأيتُ أخته التي جاءَت تزور أمّها بصحبة ابنتها الصغيرة التي لم أرَها منذ مدّة، وأخَذتُ ألاعب الفتاة لأنّني كنتُ أحبّ الأولاد. لعبنا وضحكنا كثيرًا وإذ بها تقول لي:
ـ كم أنتِ جميلة!
ـ شكرًا حبيبتي... وأنتِ جميلة أيضًا!
ـ لا! أنتِ أجمل منّي! أنتِ بجمال خطيبة خالي فوزي.
ـ هـ هـ هـ... أنا خطيبة خالكِ فوزي يا صغيرتي.
ـ أنتِ؟ لا! خطيبة خالي إسمها رنيم وتسكن في هذا المبنى!
كدتُ أقع عن المقعد لِشدّة دهشتي، فكنتُ أعرف تلك الفتاة رنيم لأنّني رأيتُها مرارًا عند أهل فوزي وكنتُ أعلم أنّها جارتهم، ولكنّني كنتُ أجهل طبعًا ما كان يدور بينها وبين فوزي. نظرتُ إلى أمّ الصغيرة وسكتنا كلانا. ثمّ تدخَّلَت أم فوزي وغيَّرت الحديث. هكذا إذًا... كانوا كلهم على علم بعلاقة فوزي مع الجارة، ولم يتكبّدوا عناء إخباري أو حمل ابنهم على فسخ علاقته بي حفاظًا على كرامتي. ربّما أرادوا الاستفادة قدر المستطاع مِن راتبي الذي كان يذهب كلّه لفوزي وللشركة.
وفي تلك الليلة جاءَ فوزي إلى بيتنا أثناء تناولنا العشاء. لم أستطع الأكل لكثرة حزني، وكنتُ جالسة إلى المائدة أحدّق بصحني. سمعتُ جرس الباب، وذهبتُ لأفتح ورأيتُ خطيبي واقفًا أمامي. لم أكن أعلم إن كان عليّ السماح له بالدخول بعد الذي علمتُه وإذ بأبي يصرخ له: "أدخل يا فوزي وتعالى كُل معنا". عندها نظَرَ إليّ فوزي وقال لي: "هل نفسخ الخطوبة قبل العشاء أو بعده؟"
خرَجتُ معه كي لا يراني أهلي وأنا أبكي. بكيتُ كثيرًا ولم يعانقني خطيبي أو يواسيني. بقيَ واقفًا صامتًا ثم رحَلَ.
ومرَّت الأيّام ثمّ الأسابيع، إلى اتصل بي أحد أصدقاء فوزي وطَلَبَ منّي أن أقابله لأنّه يريد التحدّث إليّ بموضوع مهمّ.
وافقتُ على مقابلته معتقدةً أنّ فوزي بعَثَه ليُصلح الأمور بيننا، ولكنّني كنتُ مخطئة تمامًا. وهذا ما قالَه لي ذلك الشاب:
ـ أعرفكِ منذ مدّة وأقدّركِ كثيرًا... كنتُ آمل أن تسير الأمور بينكِ وبين صديقي كما خطَّطتما لها ولكن...
وأخَرَجَ مِن جيبه هاتفه وأراني صورة لي وأنا أبكي ليلة جاء فوزي إلى البيت، وخَرَجتُ معه لأفرغ أمامه كامل حزني. فالسّافل لم يكتفِ بالتفرّج عليّ وأنا أبكي بل أخَذَ لي صورة وبعثها لصديقه. لماذا فعَلَ ذلك؟ لستُ أدري.
وأضافَ الصّديق:
ـ نصيحة منّي... إنسِ فوزي فهو لا يستحقّكِ... لدَيه غيركِ
وخَرَج مِن المقهى. كنتُ أعلم أنّ خطيبي على علاقة بغيري، ولكن سماع ذلك مِن فم أقرب الناس إليه كان بمثابة تأكيد لا رجوع عنه، خاصّة بعدما رأيتُ تلك الصورة.
ولأنّ الله لا يترك عبيده يتعذّبون طويلاً، فقد أخَذَ لي بحقّي. فبعد أسابيع قليلة، جاءَني اتصال مِن فوزي الذي طلَبَ منّي باكيًا أن آتي إليه. والسّبب الوحيد الذي حمَلَني على رؤيته كان حاجتي إلى مواجهته، فلم يتسنَّ لي تصفية حساباتي معه.
وجدتُه منهارًا واعتقَدتُ في البدء أنّه اشتاقَ إليّ ونَدِمَ على ما فعَلَه بي، ولكنّه كان يبكي على رنيم التي تركَته لتعود إلى حبيبها السّابق. وبدأ يقول لي كم يُحبّها وكم هو يائس مِن دونها. نظَرَتُ إليه باندهاش، فلم أتصوَّر أن يحدث ذلك لي أو لأيّ امرأة أخرى، وصَفَعتُه بقوّة رهيبة. وخرَجتُ مِن دون أن أنظر إليه، عالمة تمام العلم أنّني شفيتُ مِن حبّي له.
ومنذ ذلك اليوم لم يستطع فوزي الارتباط بأحد، ويُحاول بين الحين والآخر إقناعي بالعودة إليه بعدما أدرَكَ أنّني الوحيدة التي أحبَّته فعلاً. أمّا أنا، فأضمّد جروحي بنفسي آملة بإيجاد الحب الحقيقيّ يومًا ما. هل سأكرّر ما فعَلتُه مِن أجل فوزي مع أحد أخر؟ بالطبع لا، لأنّني تعلَّمتُ أن أحبّ نفسي أوّلاً وأبحث عن سعادتي مع مَن يُقدّرني ويُضحّي أيضًا مِن أجلي. درس دفَعتُ ثمنه غاليًا.
حاورتها بولا جهشان