خفتُ مِن الناس

أنا صبيّة في الثامنة والعشرين مِن عمري، وعانَيتُ مِن مُشكلة شلَّت حياتي بأسرها إسمها "رهاب الخلاء" أو "أغورافوبيا". فالحقيقة أنّني كنتُ غير قادرة على الخروج مِن المنزل، وبالأخصّ التواجد في الأماكن العامّة والمُكتظّة.

كلّ شيء بدأَ حين كنتُ في الرابعة مِن عمري. فذات يوم، حين كنتُ في مُجمّع تجاريّ مع أمّي، حصَلَ أن فرّقَنا الناس الذين كانوا بعدد كبير بسبب فترة الأعياد. فوجدتُ نفسي لوحدي وسط هؤلاء الغرباء وبدأتُ بالبكاء والصراخ. لَم تُلاحظ والدتي غيابي إلا بعد دقائق لانشغالها باختيار ملابس العيد. في تلك الأثناء، إنغَلقَ مِن حولي الحشد وانتابَني خوف شديد ممزوجًا بشعور الإختناق. مِن حسن حظّي أن موظّف الأمن أخذَني مِن يدي وقادَني إلى مكاتب الإدارة حيث نادوا أمّي لتأتي. تلك الحادثة بالذات، التي نسيتُها لاحقًا، هي التي دمّرَت سنوات مِن حياتي.

لَم ألُم أمّي التي لَم تقصد طبعًا أن تُضيّعَني، بل نما في قلبي قلق عميق حملتُه مِن دون أن أدري إلى سنّ الرشد تمثَّلَ بخوف مِن التخلّي ومِن عدم القدرة على الإفلات بسلام مِن الحشود. فبات العالَم الخارجيّ بمثابة مكان خطر لا يجب أن أتواجد فيه وإلا حصَلَ لي مكروه.

كما ذكرتُ أعلاه، لَم أتأثّر بتلك الحادثة إلا لاحقًا، وأوّل ظهور لرهابي حصل بعدما تخطَّيتُ العشرين مِن عمري. كنتُ وصديقاتي في مجمّع تجاريّ، وكان كلّ شيء على ما يُرام إلى حين وصَلَت مجموعة مِن السوّاح والتفَّت حولنا. وفي غضون لحظة، أحسستُ بضيق نفَس وتسارعَت دقّات قلبي وأوشكتُ على فقدان وعيي. حمَلَتني صديقاتي جانبًا وجلبنَ لي الماء، وأعربتُ لهنّ عن حاجة مُلحّة للخروج إلى الهواء الطلق.

أسرعتُ بالعودة إلى البيت حيث شعرتُ بالأمان. لَم أحلّل ما حصَلَ لي مِن الناحية النفسيّة، بل رددتُ الأمر إلى هبوط ضغط الدمّ او عسر هضم أو شيء مِن هذا القبيل. لكن منذ ذلك اليوم، فقدتُ حماسي للتسوّق في المول وفضّلتُ البقاء في المنزل في غالب الوقت.

لكنّ الأمر نفسه تكرّرَ أثناء تواجدي في دار للسينما، حيث حملَني بعض المُتفرّجين خارجًا لكثرة انفعالي.

مرَّة ثالثة أقنعَتني بأنّ الخروج كان يُشكّل خطرًا عليّ، حين كنتُ في الشارع مع والدتي ننتظر سيّارة أجرة. لَم يكن هناك مِن حشود لكن وجودي في الخلاء حمَلَني على الشعور بالخطر الحاد. كان الأمر وكأنّني عُرضة لأيّ مكروه قد يأتي مِن أيّة جهة. رجَوت أمّي كي تُسرع بإيجاد سيّارة بعد أن انتابَني ألَم في المعدة، وتصبَّبَ العرَق منّي وبدأ قلبي يخفق كالمجنون. أسرعَت والدتي بأخذي إلى قسم طوارئ المشفى خوفًا مِن إصابتي بأزمة قلبيّة. هناك طمأنونا وعُدنا إلى البيت. فور أن تخطَّت رجلايَ عتبة الباب، عاد كلّ شيء إلى طبيعته. عندها تأكّدتُ مِن لزوم مكوثي، وبصورة دائمة، في البيت.

 


كان الأمر سيُشكّل مُشكلة بالنسبة لي، فكنتُ أعمل بشركة مُحاسبة وبدأتُ أجدُ صعوبة حتى بالذهاب إلى العمَل. بذلتُ جهدًا كبيرًا للتواجد بين زملائي، وأثارَ تصرّفي إندهاشهم. إخترعتُ لهم الحجَج، لكن بعد فترة فضَّلتُ ترك وظيفتي وإيجاد أخرى أستطيع القيام بها مِن البيت ومِن حاسوبي.

حاوَلَ ذويّ حثّي على الخروج لكن مِن دون جدوى، فكيف لي أن أترك مكانًا آمنًا مِن أجل مكان مليء بالمخاطر؟ هل فقدوا عقلهم أم أنّهم يُريدون التخلّص منّي؟ شعرتُ بوحدة رهيبة، ليس بسبب بقائي في البيت، بل لأنّ ما مِن أحد كان يفهم ألَمي وصاروا كلّهم غرباء بالنسبة لي.

حصلتُ أخيرًا على عمل بالمراسلة، الأمر الذي طمأنَني للغاية، لكنّني خسرتُ صديقاتي اللواتي اعتبرنَ رفضي الخروج معهنّ علامة ابتعاد إراديّ. لَم أزعَل كثيرًا إذ أنّ الأمر وفَّرَ عليّ ابتكار الأكاذيب والتعرّض للأذى الذي كان بانتظاري في كلّ مكان.

مرَّت خمس سنوات على هذا النحو خرجتُ خلالها مِن البيت ربمّا ثلاث مرّات فقط، وتخلّلَتها مُشاجرات عديدة وعنيفة مع عائلتي حتى سئموا منّي ومِن رهابي. كان قد جاءَ الطبيب لمُعاينتي مرَّات عديدة مِن دون أن يجد لديّ أي مرَض يُذكر، لِذا شخَّصَ لي حالة نفسيّة وأحالَني إلى زميل له لَم أزره طبعًا. كنتُ بخير طالما أنا في البيت، فلماذا أتعالَج؟

كيف كنتُ سأمضي حياتي لولا أيمَن؟ بطريقة كارثيّة طبعًا. فنحن نحتاج إلى حافز قويّ للخروج مِن مصائبنا يتمثّل بحادثة مُعيّنة أو شخص مُعيّن. وفي حالتي، حبّي لذلك الشاب وتشجيعه لي هما اللذان أخرجاني مِن عزلتي.

بقائي أمام حاسوبي ليلاً نهارًا حملَني على الإنتساب إلى مواقع عديدة، سمحَت لي بالتواصل بباقي البشريّة بصورة آمنة، أي مِن دون أن أضطّر إلى التواجد مع أحد جسديًّا. وهكذا تعرّفتُ إلى شاب لطيف اسمه أيمَن، وأطلعتُه فورًا على استحالة لقائه يومًا. هو قبِلَ بهذا الشرط، الأمر الذي أراحَني إلى أقصى درجة. لكنّني لَم أحسِب حساب وقوعي في الحبّ، وهو شعور لَم أعرفه مِن قبل، أي أنّني لَم أكن مُحصّنة ضدّه، فكلّ جهودي كانت منصبّة على رهابي مِن الخروج.

وجدتُ أنّ بيني وبين أيمَن قواسم مُشتركة عديدة، لِذا فتحتُ له قلبي وأخبرتُه عن حقيقة وضعي. خفتُ بعد ذلك أن يرتعب ذلك الشاب مِن التعامل مع إنسانة مثلي إلا أنّه بقيَ يُكلّمني يوميًّا كعادته. لكن عندما نصحَني أيمَن برؤية أخصّائيّ نفسيّ، غضبتُ كثيرًا منه لأنّني اعتبرتُه وكأنّه يتواطأ مع الآخرين ضدّي. وهكذا صرتُ أتفادي الظهور في المحادثات تحت حجج مُختلفة. إحترَمَ أيمَن رغبتي بالتواري عن الأنظار ولَم يُلحّ عليّ. إلا أنّ ردّة فعله هذه أزعلَتني للغاية وولّدَت لدَيّ قلقًا عميقًا.

 


إحترتُ بأمري فلَم أعد أعلَم ما الذي أُريدُه: هل كان أيمَن قد أصبحَ شخصًا مهمًّا بالنسبة لي أم أنّ الإستغناء عنه هو أفضل حلّ؟ جاءَني الجواب ليلاً مِن خلال حلم رأيتُه: كنتُ واقفة في مُجمَّع تجاريّ ضخم للغاية وكانت هناك حشود لا تُحصى. خفتُ كثيرًا وفتّشتُ بنظري عن المخرج، إلا أنّني سمعتُ صوت بكاء قادم مِن وسط الحشود. تعرفتُ إلى صوت فتاة صغيرة فركضتُ نحوها. مسكتُها بيَدها ثمّ حملتُها أطَمئنُها بأنّني سأجدُ أهلها بأسرع وقت. ثمّ استيقظتُ. حينها عادَت إليّ ذكرى الحادثة التي حصلَت لي حين كنتُ طفلة وفهمتُ أنّ حالتي ليس ميؤوسًا منها. كان الجميع على حق، عليّ أن أتعالج وبسرعة، فلَم أعد أُريدُ أن أكون تلك الفتاة الصغيرة التي يُخيفها الناس.

في الصباح، تحدّثتُ إلى أيمَن وأخبرتُه بأنّني قرّرتُ أن أتعافى، وطلبتُ منه إن كان مُستعدًّا لمساعدتي فقال لي:

 

ـ لقد دخلتِ قلبي... وأحلمُ سرًّا باليوم الذي سأراكِ شخصيًّا فيه، فلا بدّ لنا أن نلتقي يومًا. صحيح أنّني وعدتُكِ بعدم الإصرار على اللقاء بكِ، إلا أنّ ذلك ليس طبيعيًّا فالناس خُلِقَت لتكون مع بعضها وتتفاعل في ما بينها... سأدعمُكِ طبعًا وهذا شرف لي.

 

أخذتُ موعدًا مِن الطبيب النفسيّ وتألّمتُ كثيرًا مِن الخروج مِن البيت. رافقَتني أمّي بعد أن قضيتُ ساعات أتردّد في اجتياز عتبة الباب. بكيتُ وصرختُ ورفضتُ، ومِن ثمّ خرجتُ فقط مِن أجل أيمَن الذي كان عليه أن يفتخرَ بي.

أخبرتُ الأخصّائيّ عن حلمي وعن أمّي وحادثة المول حين كنتُ صغيرة، فهزّ برأسه وقال: "الأمور باتَت واضحة يا آنسة... طالما هناك نيّة منكِ للتعافي فهناك فرصة للشفاء."

لَم أحتَج إلى دواء بل إلى العلاج المعرفيّ السلوكيّ الذي يتمحوَر حول إدراكي لمخاوفي واستبدال تصرّفاتي السلبيّة بأخرى إيجابيّة باستعمال المنطق والتحليل.

يوم قابلتُ أيمَن كان قد مضى على علاجي حوالي السنة، وهو لَم يتركني لحظة واحدة عبر الإنترنت، بل بقيَ يحثّني على الشفاء ويُشجّعني على التقدّم. لبستُ أجمل فستان لي ووضعتُ أحمر الشفاه وانتظرتُ أيمَن عند مدخل المبنى، وهو جاء بسيّارته لنذهب إلى مقهى لتناول القهوة والحلوى. جلستُ بالسيّارة وقلبي يدقّ بسرعة ليس فقط مِن رهبة الخروج بل خوفًا مِن ألا أُعجِبَ الذي صارَ مُهمًّا للغاية بالنسبة لي. نظَرَ إليّ أيمَن بتمعّن وابتسَمَ قائلاً: "أنتِ أجمل بمئة مرّة مِن صوَركِ، فما مِن شيء يفوق الواقع". ثمّ أمسَكَ بيَدي وقبّلَها بحنان، ولَم يتركها طوال وجودنا في السيّارة والمقهى وكأنّه يقولُ لي إنّه سيحميني.

مرًّت سنة أخرى حتى انتهَيتُ مِن العلاج أخيرًا، واحتفلتُ بشفائي بأفضل طريقة: الزواج مِن أيمَن!

أقامَ لي حبيبي حفلاً جميلاً حضرَه حشد كبير لَم أخَف مِن التواجد وسطه، بل العكس تمامًا. كنتُ قد فهمتُ أنّ الأماكن والناس لا يُشكلّون خطرًا حتميًّا عليّ، بل أنّ الحياة تتخلّلُها أحداث قد تكون مؤلمة أحيانًا. لكنّ الدنيا مليئة أيضًا بالفرَح والحبّ، ومِن المؤسف أن نمرّ بالقرب مِمّا هو جميل مِن دون التمتّع به.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button