"جارَك القريب ولا أخوكَ البعيد". هذه المقولة سمعتُها مِن جدّتي ومِن بعدها مِن أمّي وإعتقدتُ فعلاً أنّ الجار يمكنه أن يكون محبّاً ومخلصاً أكثر مِن أي أحد، خاصة إن كان هناك مودّة وأموراً مشتركة. ولكنّ الناس ليسوا دائماً كما يبدون وتعلّمتُ الكثير وذلك مِن الذي جرى معي وكان درساً لم أنسَه أبداً.
كل شيء بدأ عندما إنتقلتُ مع عائلتي إلى شقّة جديدة بعدما أنجبَت زوجتي ولدنا الثالث وداق المكان بنا. فبعد بحث دام أكثر مِن سنة، وجدتُ ما كان سيكون مسكننا، خاصة أنّني علمتُ أنّ جيراني الجدد جميعهم مِن نخبة المجتمع الأمر الذي ناسبُني كوني مدير شركة ناجحة في العاصمة. وهكذا إستقرّينا في مبنى جميل وإطمأنيّتُ على مستقبل أولادي الذين كانوا سيعاشرون أولاد أطبّاء ومحامين ومهندسين. وكانت زوجتي هُدى مسرورة جداً لإختياري هذا المكان لأنّ صديقة قديمة لها تُدعى صابرين كانت تسكن مع عائلتها. وإعتقدتُ أنّ حياتي ستكون مستقرّة ولكنّني كنتُ مخطئاً لأنّني حسبتُ أنّ غيري يفكرّ ويتصرّف مثلي. وبالطبع لاحظتُ أنّ سكاّن المبنى كونهم يعرفون بعضهم منذ زمن بعيد هم قريبين الواحد مِن الآخر وأملتُ أن ندخل دائرتهم دون عناء وأن يقبلون بنا كجزء مِن تلك العائلة الكبيرة. لِذا طلبتُ مِن هُدى أن تقيم حفلاً في بيتنا يحضره الجميع ونتعرّف عليهم أكثر وتولَد بيننا مودّة.
وفي تلك الليلة، بدأوا يتوافدون الواحد تلوَ الآخر ورغم السكون الذي سادَ في البدء، إستطعتُ كسر الجليد وصِرنا نتحدّث جميعاً عن أمور عديدة حتى أن تبدَّل الجو لِيصبح مرِحاً. وعندما غادروا كنتُ مسروراً بالنتيجة. وغابَ جيراننا عنّا فترة شهر لم نلتقِ خلالها بأحد وحتى زوجتي لم ترَ صديقتها التي لم تجاوب على مكالماتها. وخِلنا طبعاً أنّهم لم يحبّونا وشعرتُ أنّني إقترفتُ خطأً ما معهم ولكنّني لم أعلم بالتحديد ما الذي قلتُه أو فعلتُه لنستحقّ هذا الجفاء. ولكن بعد أيّام ظهروا فجأة وبدأوا يتكلّمون معنا بمودّة ويدعوننا إلى بيوتهم. وإرتاحَ قلبي لأنّني لم أكن مستعدّاً للعيش في مكان حيث لا أكون مرغوباً. وعندما سألَت زوجتي صديقتها صابرين عن سبب ذلك الغياب الغامض أجابتَها هذه الأخيرة:
ـ كيف أقول هذا... كنّا نتشاوَر... أعني ندرس الوضع.
ـ لم أفهم قصدكِ
ـ إجتمعنا عدّة مرّات لِنرى إن كنّا نريدكم معنا... وعندما أخبرتُهم عنكِ وعن صداقتنا القديمة قبِلوا بكم بسهولة أكثر... لا تغضبي فنحن نفعل ذلك كلّما جاءَ أحداً جديداً إلى هنا.
ـ وإن لم يعجبكم هذا الجار الجديد؟
ضَحِكَت المرأة وقالت:
ـ يغادر... نحن نعرف كيف نجعله يقرّر الرحيل
وعندما أخبرَتني هُدى عن الذي دارَ بينهنّ، شعرتُ بإنزعاج كبير وشيئاً مِن الخوف لم أستطع تفسيره. ولكن سرعان ما نسيتُ الأمر وعادَ كل شيء إلى طبيعته وأصبحَت علاقتنا مع جيراننا جيّدة جداً نزور بعضننا البعض ويلعب أولادنا مع أصدقائهم الجدد. ومرّت سنة تقريباً على إنتقالنا إلى الشقة حتى أن جاء أحد جيراننا ودعانا أنا وزوجتي إلى سهرة صغيرة يقيمها في بيته. وعندما سألتُه عن المناسبة أجابَ:
ـ إنّه حفل تقليدي... اللباس رسميّ.
وإعتقدنا أنّه سيحتفل بعيد ميلاد أحد أفراد عائلته أو بعيد زواجه، فلبسنا ثياباً رسميّة وأخذنا الزهور والحلوى ودقيّنا بابه. ورأينا جميع السكاّن هناك جالسين حول طاولة كبيرة وكأنّهم في إجتماع عمل لولا ثيابهم الأنيقة. أدخلَنا الجار ودعانا إلى الجلوس مع الباقين. كان المشهد غريباً جداً لذا فعلنا ما طُلِبَ منّا. وبعد أن دخَلَ الجار إلى غرفته خرجَ منها وبِيَده مجلّداً كبيراً وضعَه على الطاولة قائلاً:
ـ الآن إكتملَ العدد ونستطيع بدء الجلسة
عندها سألتُ:
ـ أيّة جلسة؟
ولكنّ صابرين طلَبت منّي أن أسكُت وأن أدَع رئيس المجموعة يُكمل حديثه. إمتثلتُ لأوامرها وتابعَ الرجل:
ـ لقد درسنا أوضاع العائلة الجديدة التي إنضمَّت إلينا وقررنا إستقبالهم حسب الشروط السائدة.
ـ أيّة شروط؟ صرختُ له.
ـ الشروط يا سيّدي هي نفسها التي إلتزمنا بها جميعاً حين وصلنا تباعاً إلى هذا المبنى وهي: على المالك الجديد تسديد جميع نفقات المبنى المتوجّبة على جيرانه وذلك لِمدّة سنة.
ـ ماذا؟؟؟ ولماذا؟
ـ وعلى المالك الجديد التبرّع لِصندوق المبنى بِمبلغ قدره عشرة آلاف دولاراً أميريكيّاً.
ـ لابدّ أنّكَ تمزح! هذه دعابة... أليس كذلك؟ ما بكم؟ تكلّموا!
ـ وعلى المالك الجديد إستقبال جيرانه مرّة في الشهر وإقامة حفل عشاء لهم لمدّة سنة.
ـ وإن لم ألتزم بهذه الشروط؟
ـ وإن لم يلتزم المالك الجديد بإحدى أو أكثر مِن الشروط سيتم طرده مِن المبنى.
ـ طردي؟ لا تستطيعون فعل ذلك فأنا أملك شقّتي وليس مِن قوّة تُجبرني على الرحيل!
عندها أخذَت صديقة زوجتي الإذن بالتكلّم وقالَت لي:
ـ يا أستاذ كمال... كلنّا إلتزمنا بقوانين المبنى وها نحن نعيش بتناغم مع بعضنا... لديكَ مالاً وفيراً... لقد تحقّقنا مِن ذلك لدى مصرفكَ... أعرف أنّ ذلك ليس قانونيّاً ولكنّنا فعلناه... لا تكن عنيداً!
لم أجاوب حتى على ما قالَته بل أكتفيتُ بأخذ زوجتي وترك شقّة رئيس اللجنة. وفي الصباح الباكر إتصلتُ بالمحامي الخاص بي وأطلعتُه كل شيء. وبعد ساعات قليلة أخبرني أن رئيس لجنة المبنى هو رجل ذات نفوذ ولديه معارف في كل المجالات وحتى لو حاربتُه قانونيّاً لن أستطيع فعل أي شيء وأضافَ أنّه مِن الأفضل أن أنصاع إليه أو أن أترك مسكني.
غضبتُ كثيراً لأنّني كنتُ أعلم أنّ المشاكل ستبدأ قريباً إن لم أدفع ما طُلِبَ منّي وأنّ حياتنا ستنقلب إلى جحيم. وفضّلتُ الإنسحاب لا لأنّني جبان بل لأنّ لديّ زوجة وأطفال أخاف عليهم. وأخذتُ أوّل شقّة وجدتُها وبعتُ الشقّة القديمة بنصف سعرها لأتخلصّ منها. ولأنّني رجل نزيه ولا أحبّ أن أغشّ أحداً قلتُ للمالك الجديد قبل أن يمضي على العقد أنّه مِن الأفضل أن يبتعد عن جيرانه. وعندما سألَني لماذا أجبتُه:
ـ لن أكذب عليكَ... هم أقوياء... لم أقدر على الوقوف بوجههم.
عندها ضحكَ وقال:
ـ أنا أيضاً قويّ
وحزِنتُ له لأنّه سيضطرّ إلى الخضوع لهم أو الهروب مثلما فعلتُ ولكنّني فوجئتُ بإتصال منه جاءَني بعد حوالي الشهرين قال لي فيه:
ـ أتذكُر عندما حذرّتَني مِن الجيران؟
ـ وكيف أنسى ذلك؟
ـ عقدوا إجتماعاً وقالوا لي فيه أنّ عليّ دفع الكثير مِن المال.
ـ أعرف ذلك... وماذا فعلتَ؟
ـ لاشيء! إكتفيتُ بإعطاءهم ملفّاً عن كل واحد منهم وتركوني وشأني فوراً! ما لم أقله لكَ هو أنّني أعمل أيضاً كتحرّي خاص ولا أحد يعرف ذلك عنّي طبعاً وإلاّ لا أكون تحريّاً ماهراً... وعندما أوصَيتَني بالإبتعاد عن جيراني، قرّرتُ معرفة المزيد عنهم وإكتشفتُ أشياء جميلة جداً! كلنّا لدينا أسراراً ولكن هناك أشياء يخجل منها المرء ويعمل جهده لإخفاءها... ها ها ها! ألم أقل لكَ أنّني أيضاً قويّ؟
حاورَته بولا جهشان