خطفوا إمرأة مِن سيّارتي!

لم أكن دائمًا سائق أجرة بل كان لدي وظيفة أخرى، إلى حين أعلنَت الشركة إفلاسها وأقفلَت أبوابها. إستطعت الحصول على تعويض بسيط لا يُوازي سنين التعب التي قدّمتُها لذلك المكان ولكنّه كان كافيًا للبدء مِن جديد، فاشتريتُ نمرة عموميّة وأخَذتُ أجول في شوارع المدينة.

لم أكن معتاداً على هذا النمط المتعب أو حتى على الإختلاط بهذا العدد الكبير مِن الناس، ولكن كان عليّ إطعام عائلتي التي كانت تعني لي العالم بأسره، أي زوجتي التي صَبرت معي، وأولادي الذين لم يعودوا يرَوني كما في السابق. ولولا دعمهم الدائم لما استطعتُ مواصلة هذا العمل الشاق.

 

وحفظتُ كلّ زاوية مِن زوايا المنطقة، وصِرتُ أعرف كلّ الطرقات والأزقّة، وأصبحَ لي زبائن كثر. والذي ساعَدَ على نجاحي هو أنّني لم أكن أقلّ ركّاباً عن الطريق، بل فقط أقلّ الذين يتّصلون بي شخصيّاً.

وسّبب إصراري هذا، كان خطورة عملي خاصة أثناء نوبتي الليليّة. فكنتُ قد سمعتُ مِن سائقين قدامى أنّ عالم الليل قد يكون خطراً، خاصّة في بعض أنحاء المدينة ولم أكن مستعدًّا لفقدان حياتي وترك عائلتي الحبيبة.

إلا أنّ الإنسان مهما أخَذَ حَذَره، فهو معّرض لشتّى المخاطر، خاصة إن كان يندفع لمساعدة الآخرين من دون التفكير بالعواقب.

والجدير بالذكر، هو أنّني منذ صغري كنتُ أقف دائمًا إلى جانب الضّعيف والمظلوم، حتى عندما كنتُ في المدرسة كنتُ أركض لمساعدة رفاقي الصغار عندما كانوا يتعرّضون لمضايقة الأكبر منهم، ولم أكن أمانع استعمال شتّى الطرق ومنها الضرب بسبب بنيَتي القويّة. ومع الوقت هدأتُ قليلاً ولكنّ نفسيّتي لم تتغيّر.

 

وذات مساء وأنا في طريق العودة إلى البيت بعد نهار وليلة شاقة، رأيتُ امرأة واقفة إلى جانب الطريق تومي لي بيدَيها كي أتوقّف. كان الوقت متأخّرًا جدّاً ولم يُطاوعَني قلبي على تركها، فأوقفتُ السيّارة وسألتُها أن كانت بحاجة إلى مساعدة. إرتمَت على المركبة والدّموع تملأ عينَيها، وشَرَحَت لي أنّ سيّارتها تعطّلَت وأنّها مشَت مسافة طويلة جداً، ولكنّها لم تعد قادرة على المواصلة، وطلبَت منّي أن أقلّها إلى بيتها. عندها قلتُ لها:


ـ حسنًا... إصعدي... أين هي سيّارتكِ... قد أستطيع تصليحها ولو بعض الشيء.

 

ـ لا داعٍ لذلك... إنّها بعيدة جدّاً وتأخّرتُ كثيراً وسينشغل بال أهلي عليّ... ولقد فرغَت بطاريّة جوّالي... سآتي بميكانيكيّ في الصباح.

 

ـ خذي هاتفي واتصلي بذويكِ.

 

ـ شكرًا... كم أنت لطيف.

 

وجلَسَت في الخلف وسمعتُها تقول لأمّها: "انا في سيّارة أجرة وسأصل بعد قليل".

 

وقدتُ بها إلى مشارف المدينة وبالي عند عائلتي. ولكنّ السيّدة طلبَت منّي أن أقلّها إلى منطقة قد حذّرَني منها بعض السائقين، فلم أكن مرتاحًا للفكرة وأبديتُ انزعاجي، الأمر الذي أحزَن الراكبة:

 

ـ لا تقل لي إنّكَ ستترك امرأة وحدها في هذا المكان المعزول!

 

ـ بالطبع لا... ولكنّ المنطقة غير آمنة.

 

ـ تمامًا... أنتَ قلتَها: غير آمنة... أرجوكَ، سيّدي... أكمل معروفكَ وخذني إلى منزلي الذي يقع بعد هذه المنطقة... سترى... حيث أعيش هو مكان جميل جدّاً.

 

وبالطبع قبِلتُ ولكن على مضض. ودخلنا أحياء مظلمة وغير مأهولة، وكنتُ أقود بسرعة لعدم ارتياحي الكبير حتى وصلتُ إلى حيّ ضيّق مقطوع بسيّارة مركونة بعرض الممرّ. واضطررتُ طبعًا للتوقّف. لم أكن أعلم ما عليّ فعله، فتحضّرتُ للعودة وأخذ طريق آخر. ولكنّ أربعة رجال خرجوا مِن الظلمة وأحاطوا بسيّارتي. عندها علِمتُ أنّني في مأزق. وبدأت المرأة بالصّراخ لكثرة خوفها، وتمنَّيتُ لو تسكت قليلاً لأستطيع التفكير بما يحصل وما عليّ فعله. وطلَبَ منّي أحد الرجال الترجّل مِن السيّارة فامتثَلتُ لأوامره عندما رأيتُ مسدّسًا في يده. وسألتُه:

 

ـ ماذا تريدون؟ ليس لدَيّ مال... أعني لدَيّ القليل كأيّ سائق آخر... يُمكنكم أخذه!

 

ـ هذا لن يكفي! سنأخذ الفتاة!

 

ـ لا! أتركوها! حرام عليكم! أليس لدَيكم أخوات؟

 

ضحكوا جميعاً عندما قلتُ ذلك وأجابَني رئيسهم:

 

ـ لقد اوقفناك ولن نرحل خالين اليدَين!

 

ـ خذوا السيّارة... خذوا ساعة معصمي... بالله عليكم... أتركوا الفتاة وشأنها.

 

ـ نستطيع قتلكَ، فكما ترى نحن مسلّحون.

 

ـ وتخاطرون بقضاء باقي حياتكم في السجن أو بتعريض أنفسكم للإعدام؟


ولم تدري المرأة بما يدور بيني وبينهم، لأنّها بقيَت في السيّارة، ولكنّها كانت جدّ خائفة فحاولتُ تجنيبها مصيراً بشعاً. وبعد مفاوضات طويلة، قبِلَ الرّجال أن يأخذوا السيّارة والجوّال والسّاعة مقابل حياتي وحياة الرّاكبة. عندها اقترَبتُ مِن المركبة وطلَبتُ مِن المرأة أن تترجّل بدون مناقشة.

كانت المسكينة ترتجف مِن الخوف ولكنّني قلتُ لها:

 

ـ لن يحصل لكِ أي مكروه... أعدكِ بذلك.

 

ولكن فور نزولها، جاء أحد الرجال وأخَذَها بسرعة فائقة وأدخَلَها سيّارتهم. وبالرّغم مِن صراخي وتهديدي لم أستطع إيقافه. وهجمتُ عليهم، ولكنّ الرجل سدّد لي ضربة على رأسي بأسفل مسدّسه. شعرتُ بألم شديد ودوار أجبرَني على الرّكوع أرضاً. فأخذوا سيّارتي وكلّ أمتعتي ورحلوا. وصَرَخَت لي المرأة قبل أن ينطلقوا:

 

ـ وعَدتَني أن تحميني!

 

ووجدتُ نفسي لوحدي في ذلك المكان المريب، ولأوّل مرّة في حياتي بكيتُ لأنّني شعرتُ أنّني لم أستطع حماية مَن كان بحاجة اليّ. وبعد أن استرجعتُ وعيي، جلستُ على حافة الرصيف أراجع نفسي ومِن ثم سلكت طريق العودة. ولم أصل إلى المنزل إلا عند ساعات الصّباح لأجد زوجتي في حالة يُرثى لها. كانت قد حاولَت الإتصال بي مِن دون جدوى وظنَّت أنّني متُّ بحادث سير. إرتمَيتُ في أحضانها وروَيتُ لها ما حَدَث، وقرّرنا أن نذهب إلى المشفى ومن ثم إلى الشرطة. لم أكن أبدًا أفكّر بسيّارتي، فهمّي الوحيد كان ما حصل وما سيحصل للمرأة.

 

في المخفر أخذوا إفادتي ووصفًا دقيقًا للخاطفين الذين لم يتكبّدوا عناء ارتداء أقنعة. ووعدوني أن يبحثوا عن الفاعلين وعن المرأة المخطوفة ولكنّي بقيتُ محبطًا. وانتابني يأس رهيب ولم أعد قادرًا على النوم أو حتى على الأكل. فعَلَت زوجتي المستحيل لإراحتي ولكن مِن دون جدوى. وكنتُ كلّما نظرتُ إلى إبنتي أفكّر أنّ شيئًا مماثلاً يُمكن أن يحدث لها وأنّ ما مِن أحد يُمكنه مساعدتها لأنّني فشلتُ في ذلك.

زرتُ قسم الشرطة بطريقة مستمرّة، ولكنّ المفتّش لم يجد شيئًا يقوله لي سوى أنّه لم يأتِهم أيّ تبليغ عن شخص مفقود.

ومرَّت سنة بكاملها حتى استطَعتُ استعادة نفسي. وفي ذلك الوقت، كانت زوجتي قد وجَدَت عملاً وكانت هي التي تصرف علينا جميعًا. ولكنّ المسكينة لم تتذمّر ولو مرّة واحدة أو تلقي اللوم عليّ. كانت تعلم أنّني تصرّفتُ بِنبل وشهامة ولم تكن لتتقبّل منّي غير ذلك.

ولحسن حظّي، وجدتُ عملاً كسائق باص عام، وعدتُ إلى حياتي العاديّة بدون أن أنسى تلك السيّدة وما حدَثَ لها.

ومرَّت سنة أخرى حين حَصَل ما لم أتوّقعه أبدًا. كنتُ أقود الباص المليء بالركّاب حين رأيتُ رئيس الخاطفين يخرج مِن أحد المحلات. كادَ قلبي أن يتوقّف مِن قوّة الصّدمة. وفي لحظة واحدة، قرّرتُ اللحاق به بعدما صعَدَ بسيّارة مركونة جانب المحل. وصرختُ للركّاب:

 

ـ سيّداتي، سادتي... سنغيّر وجهتنا... أرجو منكم التحلّي بالصبر... الموضوع هامّ جدّاً... سأطلعكم عليه خلال نزهتنا المبتكرة.

 

ونظروا إليّ بدهشة ولكنّهم لم يُعارضوا ربما لكثرة جديّتي. ولحقتُ بالخاطف بدون أن يشعر بذلك، فكيف له أن يشكّ بأنّ باصًا مليئاً بالناس يتتبعّ مساره؟ ورأيتُه يدخل شارعًا ضيّقًا بالكاد إستطعتُ تمرير المركبة منه ولكنّني بقيتُ مصرًّا. ولاحظتُ علامات الخوف والإنزعاج على وجوه الركّاب فقلتُ لهم:

 

ـ على الأقل سيكون لدَيكم قصّة تروونها لأصدقائكم اليوم.

 

وتوّقف الرجل أمام مبنى ونزلَت سيّدة مِن المدخل وركِبَت إلى جانبه وقبّلَته بحنان. لم أصدّق عَينيّ عندما تعرّفتُ إلى الرّاكبة المخطوفة التي سكَنَت بالي لِسنتَين! وشعرتُ بدوار عميق وارتخاء في الرّجلَين. عندها أخذتُ هاتفي واتصلتُ بالشرطة وأعطَيتهم عنوان المرأة. أمَرَني المفتّش بالرّحيل وإبعاد الركّاب عن المكان. وهذا ما فعَلتُه. وأثناء عودتي إلى مساري المعتاد، إستدَرتُ نحو الركّاب وقلتُ لهم:

 

ـ سيّداتي، سادتي... أشكركم على تعاونكم... لقد ساعدتم في القبض على سارقين وخاطفين.

 

وتعالَت التصفيقات والإبتهاجات. وعدتُ إلى المنزل وأخبَرتُ زوجتي بالذي حصل معي وبدأنا ننتظر أيّ جديد.

ولم يطل الأمر قبل أن يتصّل بي المفتّش ويطلب منّي الذهاب إلى القسم للتعرّف إلى السيّدة حتى يتمكّنوا مِن إجبارها على الإعتراف والوشي بشركائها. وحين رأتني المرأة، بدأَت بالصّراخ والبكاء لكثرة خوفها وبدأت طلبَت منّي السماح. لم أقل لها شيئًا بل اكتفيتُ بالرّحيل. وقبضوا على باقي العصابة التي كانت تسرق وتنهب منذ وقت طويل. وحكموا عليهم وزجوّهم بالسجن. لم أسترجع سيّارتي طبعًا لأنّها بيعَت فور سرقتها، ولكنّني استعَدتُ راحة بالي وبسمتي. ولم أعد أشعر بالذنب أو بالفشل، وعدتُ الزوج والأب الذي يؤمِن بنفسه وبقدراته.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button