تعِبَت أمّي كثيرًا طوال حياتها وهي تجلِس لساعات لا تُحصى أمام مكينة الخياطة. هي أحبَّت مهنتها، لكنّها كانت أيضًا مُجبرة على سهَر الليالي مِن أجل تعليمنا، بعد أن تركَنا أبونا ليتزوّج جارتنا، إمرأة رخيصة ووضيعة لَم تتأخّر عن سرِقة ربّ عائلة مِن زوجته وأولاده. أنا لا ألقي كلّ اللّوم على تلك الجارة، فقد كان أبي هو الآخَر بلا ضمير أو أخلاق، وإلّا لَما فضَّلَ شهواته على أسرته المؤلّفة مِن أربعة أولاد وزوجة مُحِبّة ومُخلِصة.
كبِرنا ونحن نسمَع صوت مكينة الخياطة وهي تعمَل مِن الصباح الباكِر حتّى بعد خلودنا إلى النوم، صوت ارتَحنا منه يوم صرنا كبارًا كفاية لدخول مُعترَك العمَل، وتخفيف العبء عن أمّنا تدريجيًّا، حتّى منَعناها بصورة دائمة مِن الخياطة. لكنّ الضرَر كان قد حصَلَ لها، فأصيبَت المسكينة بألَم مُزمِن في الرقبة سببه تآكل المفاصل في تلك المنطقة. أخذتُها إلى الطبيب، وأجرَيتُ لها الفحوصات والصوَر اللازمة حتّى لَم يتبقَّ لها سوى حلّ واحد وهو العمليّة الجراحيّة. لكنّ والدتي كانت تخاف لأقصى درجة مِن العمليّات، فرفضَت رفضًا قاطعًا ذلك الخيار وفضّلَت الألَم الدائم. حزِنّا جميعًا لها ونحن نتفرّج عليها وهي تصرخُ مِن الوجَع كلّما أدارَت رأسها، وفعلنا جهدنا لإراحتها مِن أي عمَل مهما كان بسيطًا. لكنّ ذلك لَم يكن كافيًا، وعشنا جميعًا في جوّ حزين وأليم لفترة طويلة.
وأخيرًا إقترَحَ أحَد الأطبّاء على والدتي أن تأخذ مُضادّات للاكتئاب، فتبيّنَ أنّها تُخفِّف الألَم في الحالات الشبيهة بحالة أمّي، ولو أنّها لا تُعاني مُباشرةً مِن الاكتئاب. وبما أنّ لَم يكن لدَيها حلّ آخَر، بدأَت والدتنا بتناول تلك الأقراص... التي ساعدَتها بالفعل!
وبعد فترة، عادَت البسمة لوجه أمّي الحبيبة وصارَت حركة رقبتها أفضل، الأمر الذي مكّنَها مِن القيام ببعض المهام في البيت، فبدأَت تشعُر وكأنّها عادَت ذات نَفع. فرِحنا جميعًا، واستطَعنا التفكير جدّيًّا بالبدء بتحضيرات فرَح أختنا الكبرى.
شكَرنا الطبيب بحرارة، لأنّه وجَدَ لوالدتي ولنا العلاج العجائبيّ الذي مكّنَنا أخيرًا مِن العَيش بسلام، والتفكير بأمور فرِحة كسائر الناس. تزوّجَت أختنا وزغردَت لها أمّها وتابَعنا حياتنا.
إلّا أنّني بدأتُ ألاحِظ على أمّي تغيّرًا بسيطًا في مزاجها، تترجَمَ في كآبة ظهرَت مِن وقت لآخَر مِن خلال تعليقات عن "عدَم منفعتها في هذه الدنيا" أو "أنّها عاشَت أكثر مِمّا ينبغي"، مع أنّها كانت لا تزال في الستّين مِن عمرها. صحيح أنّ ألَم رقبتها كان قد زالَ في معظمه، لكنّ حبّها للحياة بدأ يتلاشى يومًا بعد يوم. وبما أنّني كنتُ الابنة الأصغَر ولا أعمَل، بل لا أزال أدرس، كنتُ المُقرّبة منها، فاستطعتُ إقناعها بالقيام بنشاطات ترفيهيّة معي، لكن مِن دون نتيجة. كانت والدتي قد فقدَت رغبتها بالضحك واللهو والتمتّع بما يُبسِط. عرضتُ عليها أن أصطحِبَها إلى طبيب نفسيّ، لكنّها نظرَت إليّ باستغراب قائلة:
ـ أتحسبيني مجنونة؟ أو خرِفة؟
ـ لا يا ماما، الطبيب النفسانيّ ليس للمجانين أو الخرفين، بل لمَن يشعر بالإحباط.
ـ أنا بألف خير... ماذا تنتظرين مِن امرأة عجوز؟
ـ لستِ عجوزًا!
ـ لقد عشتُ بما فيه الكفاية ولا يجب أن آخُذ دور غيري، فالآن هو دوركم.
ـ أنتِ لَولَب عائلتنا فلكِ فيها الدور الأساسيّ... أنتِ فقط تمرّين بفترة عصبية سببها الألَم الذي شعرتِ به لفترة طويلة في رقبتكِ.
ـ ألَم رقبتي؟ وماذا عن ألَم حياتي؟ أنسيتِه؟
ـ لا، لَم أنسَه... لكن أنظري حولكِ، لدَيكِ أولاد يُحبّونكِ ويُساعدونكِ.
ـ ما النفع؟ ما النفع؟
حزِنتُ مِن أجل والدتي، وصرتُ وأخوَتي نُفكِّر بالطرق الموجودة لِرَفع معنويّاتها. ثمّ علِمنا أنّ أختنا حامِل، وأمِلتُ أن يُفرِح هذا الخبر قلب والدتي، إلّا أنّها لَم تتأثّر فعليًّا، بل تمتمَت بضع كلمات تهنئة وحسب.
قرّرنا الانتظار إلى حين تخرج أمّنا مِن تلك المرحلة الصعبة، إلّا أنّها لَم تفعل...
... فهي رمَت نفسها عن الشرفة تاركةً بضع أسطر على ورقة صغيرة تقول: "لا أُريدُ أن أعيش بعد الآن... سامحوني".
كنتُ في المطبخ أغسِلُ الأواني، حين سمعتُ صرخة ثمّ ضجّة في الشارع. نظرتُ مِن النافذة ورأيتُ أناسًا عديدين مُجتمعين ينظرون إلى شقّتنا. ثمّ رأيتُ جثّة والدتي على الرصيف، فلَم أفهَم في البدء ما رأيتُه لكثرة فظاعته. نزلتُ السلالِم كالمجنونة، ناسيةً أنّني بِلباس البيت، ووقفتُ وسط الناس غير قادِرة على قول أو فعل شيء. لا أتذكّر تمامًا ما حصَلَ لاحقًا لأنّني أُغميَ عليّ، لكن قيلَ لي إنّ الاسعاف وصَل ثمّ الشرطة التي حقّقَت مع الحاضرين، وأخوَتي الذين قدِموا مِن أعمالهم لدى معرفتهم بالفاجِعة، بينما كنتُ قد نُقِلتُ إلى غرفة في بيت جيراننا.
كيف لأمّنا أن تختار الموت، عالِمة أنّها ستُدمِّر حياتنا إلى الأبد؟ ماذا حصَلَ لتلك المرأة المُفعمة بالحياة والتي وضعَت أولادها قَبل كلّ شيء؟ قرأتُ رسالتها الأخيرة ألف مرّة لأفهَم لماذا لَم تعد أمّنا تُريدُ العَيش، مع أنّها كانت في مرحلة مِن حياتها لا تتعَب أو تعمَل فيها، بل ترتاح أخيرًا مِن كلّ التزام. هل كنّا قد أخطأنا في مكان ما؟ هل أنّها لَم تكن تُحبّنا كفاية للبقاء معنا؟ أسئلة شغلَتني ليلًا نهارًا!
ثمّ بدأ الناس بالثرثرة، فخبَر انتحار أمّي لَم يمرّ مرور الكرام، بل كان حدَثًا يستحقّ النقاش. زارَنا الجيران والأقرباء وفي عَينَيهم تساؤلات بشأننا، أولاد الفقيدة، وكأنّنا فعَلنا شيئًا لها لتُقرِّر أنّ الموت أفضل مِن العَيش معنا. وهناك مَن بثَّ الأخبار المُسيئة عن أمّنا، ومفادها أنّ كان لها عشيق أو عليها ديون باهظة، ونظريّات كهذه. حاولتُ وأخوَتي إبعاد تلك الشبهات عن ذكرى والدتنا العظيمة، ثمّ أدرَكنا أنّ الألسن ستهدأ مِن تلقاء نفسها لأنّ ما مِن طريقة لإسكاتها بالفعل.
وبعد أن انتهَت مراسم الدفن والتعزية ووجدتُ نفسي في بيت ليس فيه أمّي، غضبتُ منها لأقصى درجة: ما هذه الأنانيّة؟!؟ ألَم تتحمَّل لسنوات رحيل زوجها والعمَل ليلًا نهارًا على ماكينتها؟ هل هي لَم تعُد تتحمّل حتّى وجودها بيننا؟ ماذا فعَلنا لها؟ ماذا فعَلتُ أنا لها؟ نعَتُّها ضمنيًّا بالجبانة والمُستسلِمة، وتمنَّيتُ لو أستطيع قول تلك الأمور لها وجهًا لوَجه!
لكن سرعان ما هدأَتُ واسترجَعتُ صوابي وبكيتُها كما يجب، كما هي تستحقّ.
إلى حين جاءَني اتّصال غيَّرَ كلّ شيء، عندما خابرَتني إحدى قريباتنا التي تعيشُ في الغربة وسألَتني:
ـ هل كانت تأخذ أمّكِ أقراصًا ضدّ الكآبة؟
ـ أجل، لكن مِن أجل رقبتها. لماذا تسألين؟
ـ لأنّ بعض الأدوية المضادّة للكآبة تولِّد لدى المرضى الرغبة بالموت.
ـ ماذا؟!؟ كيف علِمتِ ذلك؟ أنتِ لستِ طبيبة!
ـ لدَيّ جارة هنا، وهي حاولَت الانتحار مرّتَين قَبل أن يكتشفوا أنّ دواءها هو السبب.
ـ وماذا فعلَت الجارة بهذا الشأن؟!؟ ما بإمكاني فعله؟!؟
ـ لا شيء للأسف، فتلك الشركات الضخمة هي قويّة للغاية، وإذ أقامَت دعوى ضدّها، ستستغرِق المسألة سنوات طويلة ومبالِغ طائلة. على كلّ الأحوال، الدراسات والإحصاءات بهذا الشأن قليلة جدًّا، وليست دقيقة لدرجة إثبات أيّ شيء.
ـ ولماذا تقولين لي كلّ ذلك إذًا؟
ـ لتفهَمي السبب الحقيقيّ... أعرفُ أمّكِ جيّدًا، وهي لن تقدمَ على الانتحار مِن تلقاء نفسها، هذا مُستحيل!
ـ هذا صحيح.
ـ وعليكِ عذرها وتقبّل ما حصَل وكأنّه حادث، تمامًا وكأنّها ماتَت مِن جرّاء صدمة سيّارة وهي تقطع الطريق وقد هرَبَ السائق.
ـ مِن السهل قول ذلك، فأنتِ لستِ ابنتها.
ـ ما عساكِ تفعلين غير ذلك؟ أذكريها في أوقاتها السعيدة والمرِحة والمُحِبّة كَي لا تذهب حياتها سدىً.
غضبتُ كثيرًا مِن الذي علِمتُه، فاتّصَلتُ بالطبيب الذي قال لي إنّ الأمر جائز، لكن ما مِن طريقة لإثبات أنّ الدواء هو وراء انتحار أمّي، فتلك الحالات نادِرة للغاية. أخبَرتُ أخوَتي بما قالَته قريبتنا وبكينا كثيرًا، فلولا تلك الأقراص، لربّما بقيَت أمّنا على قَيد الحياة.
أروي قصّتي اليوم لأُنبّهكم، أيّها القرّاء، فالعلاج النفسيّ أو العمليّات قد تكون الطريقة الأفضل في بعض الأحيان. إسألوا عن الأدوية التي تتناولونها جيّدًا وعن آثارها الجانبيّة، قَبل أن يُصيبكم مكروه. لستُ طبيبة ولا تأخذوا كلامي وكأنّه حقيقة مُطلقة، لكن تنبَّهوا فقط كَي لا يحصل لكم ما حصَل لأمّنا العزيزة.
حاورتها بولا جهشان