كان الجميع مجتمعاً في مقام العزاء ورأيتُها فرصة مناسبة للدخول عليهم وتصفية الحسابات التي أودَت إلى الكارثة التي حصلَت. نظرتُ إلى منال زوجة شقيق زوجي وصرختُ بها:
- أخرجي الآن أيّتها الأفعى وخذي معكِ زوجكَ وكل مَن أتى بصحبتكِ!
نظرَت إليّ بغضب وشعرَت أنّه من الأفضل لها أن ترحل خوفاً من أن أثير المزيد من الإحراج لها. وقفَت مع أقرباءها وأخلوا القاعة وسط همسات مَن بقيَ. عندها جلستُ وبكيتُ بسلام على الذي رحل ضحيّة الغيرة والحسد والطمع. بكيتُ كريم، زوجي المسكين، الذي كان ذنبه الوحيد أنّه أحبّ أخاه أكثر من كل شيء.
بدأت القصّة منذ سنين عديدة، حين كان كريم وأخوه سليم لا يزالان صغيران. كانا قد ولدا في نفس الوقت، أي أنّهما كانوا توأمين غير متشابهين ولكنّ زوجي دخل على الدنيا قبل أخيه بعشر دقائق، لذا إعتبرَ الجميع أنّه البكر. ولا أدري إن كانت هذه الصفة هي أساس شخصيّته ولكنّه سرعان ما أبدى ذكاء ونباهة وتميّز عن سليم بطرق عديدة. ولكن حبّه لتوأمه لم يتأثّر بتقدّمه عليه، بل ولّد فيه حسّاً بالمسؤوليّة تجاهه، ما سبّب له متاعباً عديدة.
وكبرا سويّاً يتقاسمان كل شيء، ومع مرور الوقت، بدأ سليم يغار من زوجي ويتصرّف معه بعدائيّة وينزعج حتى من وجوده. وأظنّ أنّه كان يفضّل لو كان ولداً وحيداً عند أهله، ليحصل على كل شيء وأصبح قبول كريم أمراً صعباً جداً. وبعد أن أنهيا المدرسة، ذهب كلّ منهما إلى جامعة مختلفة ما خفّف لبعض الوقت من حدّة التوتر بينهما، فكريم إختار مجال الموارد الماليّة، أمّا سليم ففضّل المحاماة. ولم يحصل أيّ تصادم خلال تلك الفترة حتى أن أصبح زوجي محاسباً لدى شركة كبيرة وأخوه قاضياً في محاكم الدولة. وتعرّفتُ إلى كريم وأحببّنا بعضنا وتزوّجنا ورزقنا بطفلنا الأوّل بسرعة، بينما لم تتمكّن منال زوجة سليم من أن تعطيه ولداً. حاولا شتّى الطرق دون جدوى حتى أن قبلا بالأمر الواقع.
وبدل أن يوجّه سليم عاطفته إلى إبننا، بدأ يكرهنا لأنّنا إستطعنا تأليف العائلة التي لن يحصل عليها أبداً. وزاد إستياءهما عندما رزقنا بولد ثان وثالث حتى أنّه لم يعد يطيق أخاه. ولكنّنا كنّا دائماً نحاول أن نحافظ على الصلة بيننا رغم تصرّفاته وتلميحاته المؤذية، لأنّنا كنّا نأسف له ولزوجته. وكان من الممكن أن تبقى الأمور عند هذا الحد لولا تدخّل منال المستمرّ لزيادة الشرخ، فقط لأنّني كنتُ خصبة على عكسها. عندها قرّر سليم تحطيم سعادة كريم بالوسائل المتاحة له، أي إستعمال مركزه في القضاء وبدأ بإرسال مفتّشين إلى الشركة التي يعمل زوجي بها لكي يدقّقوا في حساباتها.
ولكن كل شيء كان قانونيّاً ولم يجدوا أيّ تلاعب وعادوا فارغي الأيدي. ولم يشكّ كريم ولو للحظة أنّ شقيقه هو الذي بعث بالمفتّشين لأنّها أمور تحصل بين الحين والآخر وتابعَ عمله كعادته، أيّ بمهنيّة تامة.
ومنذ ذلك الوقت، عمل سليم على إيجاد طريقة للإيقاع بكريم ولم يكن يتردّد لفعل ما يلزم مهما كلّف الأمر. من أين جاء بكل هذا البغض؟ لستُ أدري ولن أفهم يوماً ما يدفع الناس لكره شخصاً لم يؤذهم بشيء. فبعد حملة اللتفتيش الذي نظّمها والتي لم تأتِ بنتيجة وكّلَ سليم تحريّاً خاصاً لمراقبة زوجي بجميع تحرّكاته ولكنّه لم يجد أيّ شيء، لأنّ كريم كان رجلاً مثالياً يذهب إلى عمله في الصباح ويعود إلينا في المساء ليقضي باقي وقته مع أولاده ومعي. ولكنّ صديقه وزميله في الشركة كان لديه أسراراً، فكان يلعب في الميسر ويراهن على الخيل ومبارات كرة القدم ويعاني من تراكم في الديون التي كانت ستؤدّي حتماً إلى خرابه. فإتّصل به سليم وطلبَ أن يراه بعد أن طمأنه أنّه لا يريد محاسبته على عاداته السيّئة بل لديه حل لمشاكله. فأسرع الشاب إلى الموعد وإستمعَ إلى ما قاله له شقيق زوجي:
- أعلم كل شيء عنكَ... لا دخل لي بما تفعله ولكنّني أعلم أنّكَ بحاجة ماسة إلى المال... أستطيع مساعدتكَ... ماليّاً وقانونيّاً إن لزم الأمر... أريدك أن تأخذ كريم معك إلى كل الأماكن المشبوهة التي ترتادها وأن تجعله يلعب أيضاً.
- هذا لن يحصل... كريم إنسان نزيه ويكره لعب الميسر والمخاطرة في المال... لديه عائلة يحبّها كثيراً ولن يتلاعب في مستقبل أولاده.
- أنا متأكّد أنّكَ ستجد طريقة... هناك مبالغ كبيرة على المحكّ... تصوّر أنّ ديونكَ ستزول وكذلك همومكَ... جميعها... لن تخاف بعد اليوم على كيفيّة دفع أقساط مدارس أولادك أوشراء فساتين لزوجتكَ... كل ما عليكَ فعله هو إصطحاب كريم إلى طاولة الميسر وسأهتمّ بالباقي.
ولم أعلم بما جرى بينهما من حديث إلى بعدما فوات الأوان، عندما جاء أليّ ذلك الصديق وأخبرَني بما حصل لكثرة شعوره بالذنب. فبعد أن خرجَ من مكتب القاضي، ذهبَ يفكّر بطريقة لإقناع كريم بمشاركته رذائله ووجدَ أنّ أنسب حلّ هو الإدّعاء بطلب المساعدة. فقصدَ زوجي في ذاك يوم في الشركة وقال له:
- أخي وصديقي العزيز... لديّ إعتراف... وأنتَ الوحيد الذي يمكنه الإستماع إليّ ومساعدتي دون الحكم عليّ...
وأخبرَه عن إدمانه على لعب الميسر وكيف تراكمَت الديون عليه لدرجة أنّ المخرج باتَ صعباً وشبه مستحيل، وأنّ الحلّ الوحيد هو أن يساعده كريم على الخروج من ذلك المأزق. فأجابَه زوجي:
- وكيف لي أن أساعدكَ؟
- تعال معي... عليك أن ترى كيف أعيش في الليل وإلا لن تفهم ما أصبحتُ عليه...
- ولكنّني أكره تلك الأماكن وأنتَ تعلم أنّني محاسب وممنوع عليّ الذهاب إلى دور الميسر وإلا سأقع في مأزق كبير... قد أخسر وظيفتي.
- لن يعلم أحد بالأمر... مرّة واحدة... لا تتركني... ليس لديّ سواك... عائلتي ستنهار قريباً وقد تتركني زوجتي إن لم اتوقّف عن اللعب... تعالَ معي وساعدني... وإن لعبتُ أوقفني... أنتَ الوحيد الذي يمكنه التأثير عليّ... أنتَ صديقي... أرجوكَ... لا تتخلّى عنّي...
ورغم كل مبادئ كريم وتربيته الصالحة، لم يستطع تجاهل طلب إغاثة كهذا، خاصة إن كان الهدف هو إنقاذ عائلة. وقبل أن يرافقه إلى المكان الذي يذهب إليه الذين يعتقدون أنّ بإمكانهم كسب المال بينما في الحقيقة يخسرون مدّخراتهم وفرصتهم للعيش الكريم. ولكن كان سليم قد أوكلَ أحدهم بأخذ الصور لزوجي وهو جالس قرب صديقه على إحدى طاولات الميسر. وفي صباح اليوم التالي، وصلَ مغلّف كبير إلى مكتب زوجي فيه كل تلك الصور ورسالة تقول: "محاسب يلعب بالميسر... شيء مشين وخطير... لو علِمَ مجلس الإدارة بالأمر ستكون نهايتك... ألا توافقني الرأي؟ إذا أردتَ أن يبقى الأمر سرّاً عليك دفع ثمن سكوتي... ستأتيك التعليمات قريباً. الإمضاء: مجهول.
لم يخبرني بالأمر زوجي، خوفاً من أن أرتعب وأشغل بالي ولكنّني وجدتُ المغلّف في أمتعة كريم وعلمتُ أنّه بدأ يدفع لهذا الشخص مبالغ طائلة من كشف الحساب الذي وصلني من المصرف بعد المصيبة. وهكذا بدأ الأمر بكميّة صغيرة وسرعان ما تفاقمَت حتى أن بلغَت أرقاماً خياليّة ووصلَ الأمر بأن يقول لي زوجي بأنّنا أصبحنا على شفير الإفلاس وعندما سألتُه عن السبب، قال لي أنّه وظّف أموالاً كبيرة في إستثمارات خاسرة.
حاولتُ التخفيف عنه ولكنّه بقيَ مهموماً لأنّ المسكين لم يكن يعلم ما عليه فعله. وعندما قرّرَ أن يستقيل من عمله لينهي عمليّة الإبتزاز، أخبرَ صديقه بالأمر وركضَ هذا الأخير عند سليم ليطلعه على نوايا زوجي. وبعد يوم على ذلك، وصلَت لكريم رسالة تقول: "ماذا لو علِمَت زوجتكَ بالأمر؟ وأولادكَ؟ ماذا سيظنّون؟ أنّ الزوج والأب المثالي هو بالحقيقة لاعب ميسر يبدّد مدّخراتهم في الليالي ويمنع أطفاله من الحصول على علم كافٍ وزوجته على الإستماع بالحياة... أريد المزيد من المال... ولن أتوقّف عن الطلب... عليك أن تستعدّ للدفع الآن وغداً وكل يوم...حتى آخر لحظة في حياتكَ..
وكانت هذه الرسالة النقطة التي طفحَ فيها الكيل، فغرقَ كريم بحالة إكتئاب لم يستطع الخروج منها. وفي ذات يوم فضّل إنهاء حياته ليجنّبنا عاراً كان سيؤثّر علينا لمدّة طويلة. فحملَ مسدّسه وصوّبَه على رأسه وأطلقَ النار على نفسه. وجدتُه ميّتاً في غرفة نومنا حين ركضتُ من المطبخ بعدما سمعتُ دويّ الرصاصة. كان قد إنتظرَ ذهاب أولادنا إلى المدرسة لكي لا تبقى هذه الذكرى الأليمة في ذهنهم.
حاورتها بولا جهشان