لَم أتصوّر حتى في أحلامي الدّفينة أن أصبَحَ سيّدة مُجتمع، بل كان مِن المفروض بي أن أبقى على حالي، أي صبيّة تفتّشُ عن لقمة عيشها عند المرضى أو المسنّين الذين هم بحاجة إلى رعاية واهتمام. ومِن حسن حظّي أنّني سمعتُ مِن والدتي عندما أقنعَتني بأن أذهب إلى مدرسة التمريض، وإلا مُتنا جوعًا.
أحبَبتُ مهنتي، لكنّني لَم أجد عملاً في أيّ مِن مُستشفيات المنطقة، فالأماكن كانت محدودة. لِذا اتجهتُ نحو القطاع الخدماتيّ، وصرتُ أذهبُ للبيوت لأجلس طوال النهار وحتى الليل مع الذين تركَتهم عافيتهم. لكن في هذه المهنة بالذات، لا يطولُ عقد العمل بسبب وفاة المريض أو إرساله إلى قسم مختصّ في مشفى أو دار للعجزة. عندها يكون عليّ البحث مِن جديد عن عمل.
كنتُ قد بلغتُ الثمانية والعشرين مِن عمري حين دخلتُ بيت وليد، وهو رجل في العقد السابع مِن عمره. كان المسكين قد سقَطَ عن السلالم وكسر وركه وذراعه، وبات عاجزًا عن القيام بأبسط الأمور. عدا عن ذلك كانت صحّته جيّدة... نسبةً لسنّه.
كان العمل عند وليد مُريحًا على خلاف البيوت السابقة حيث كان عليّ، إلى جانب عملي كممّرضة، القيام بالأعمال المنزليّة والطهو أحيانًا. وكنتُ أقبلُ بذلك مِن أجل الإبتعاد قدر المُستطاع عن الفقر الذي كان يُخيّم فوق رأسي. لَم يحتَج وليد إلى تحويلي إلى خادمة لدَيه، فقد كان هناك مَن يقومُ بتلك المهام، كونَه رجلاً ثريًّا، وعاملَني أفضل مُعاملة، لا بل زادَ أجرتي عندما علِمَ أنّني يتيمة الأب وأنّ أمّي بالكاد قادرة على التنقّل بسبب ألمها بالمفاصل.
كان مُستخدمي رجل أعمال ناجح قضى عمره بالبحث عن المربح والمكانة الإجتماعيّة، ونسيَ أن يُحبّ ويُؤسّس عائلة. وعندما استدركَ نفسه، كان قد أمسى رجلاً مُسنًّا. إلا أنّ الأمل عادَ إليه حين رآني وقضى أشهرًا طويلة بصحبتي، وقرَّرَ أنّني التي تُناسبه. إلا أنّه خافَ أن يُصارحَني بمشاعره بسبب فارق السنّ بيننا، وبقيَ صامتًا إلى أن حان وقت رحيلي بعدما شفيَ كليًّا مِن كسوره.
في ذلك اليوم، طلَبَ منّي وليد أن أصبَحَ زوجته. صحيح أنّني بتُّ أكنّ له عاطفة قويّة، إلا أنّه لَم يكن حبًا، بل شعورًا بالأمان. لَم أُعطِه جوابًا كي لا أجرح شعوره، لِذا أمهلَني وقتًا للتفكير. وحين أخبرتُ والدتي بالأمر قالَت لي:
ـ إقبلي يا ابنتي.
ـ لكنّني لا أحبُّه.
ـ ومَن ستحبّين؟ فقيرًا مثلكِ لتعيشي بالفقر طوال حياتكِ وتنجبي أولادًا فقراء؟ ألَم تتعلّمي مِن الذي حصَلَ لي ولكِ؟ تزوّجي مِن السيّد وليد وعامليه جيّدًا وانعمي بحياة هانئة معه.
ـ وأتركُكِ؟
ـ في عالم بهذه القساوة، على المرء أن يُفكّر بنفسه وأن يركب القطار بالوقت المُناسب. سأكون بخير، لا تخافي.
قبِلتُ الزواج مِن وليد، لكن ليس قَبل أن يجلِبَ لأمّي مساعدة منزليّة، ويُخصّص لها مبلغًا شهريًّا ثابتًا. قبّلتُها باكيةً ورحتُ إلى البيت الزوجيّ. وبعد فترة قصيرة، سافرتُ مع وليد إلى أوروبا حيث كنّا سنسكنُ بصورة دائمة، بسبب أعماله التي نقلَها إلى هناك خوفًا مِن الأحوال الإقتصاديّة المتردّية في البلد.
أحبَبتُ أوروبا كثيرًا، وساعدَني ذلك على تقبّل حياتي الزوجيّة التي لَم تكن كما تحلمُ بها أيّ فتاة. فبالرغم مِن لطافة وليد وكرَمه، لَم يكن يربطُنا شيء. كان فارق السنّ شاسعًا لدرجة أنّني خلتُ نفسي حقًّا أعيشُ مع أبي... لولا ممارستنا للجنس التي كانت لحسن الحظّ قليلة.
بقيتُ أزورُ أمّي في البلد شهريًّا ليومَين. ومع الوقت، صِرتُ أمدّد فترة مكوثي كي لا أعودُ بسرعة إلى بيت بارد ومجرّد مِن فرحة الشباب. وفي إحدى المرّات، زارَتنا إبنة خالي المتوفّي مع خطيبها أكرَم. ولحظة التقَت عينايَ به، شعرتُ بالدفء الذي كنتُ أبحثُ عنه. كان خطيب إبنة خالي هو رجل حياتي. هو الآخر أخَذَ يُحدّقُ بي، لكنّني استدركتُ الأمر وأدَرتُ نظري عنه حتى رحيله مع خطيبته. لَم أنَم جيّدًا في تلك الليلة، وأنا أفكّر بما كانت ستؤول إليه حياتي لو تزوّجتُ مِن أكرَم بدلاً مِن وليد. لكنّني تذكّرتُ ما قالَته لي أمّي: لا تتزوّجي مِن فقير، وأكرَم كان في مثل حالة إبنة خالي وحالتي السابقة.
بعدما عدتُ إلى أوروبا، تفاجأتُ برسالة هاتفيّة مِن أكرَم الذي اعتَرَف بسرقة رقمي مِن هاتف خطيبته، لأنّه كان بأمسّ الحاجة للتواصل معي بعدما رآني في ذلك النهار. إعتذَرَ كثيرًا لوقاحته، وبعدما سامحتُه أخَذنا نتكلّم عن أمور عديدة وعاديّة. وأعترفُ أنّني كنتُ سعيدة بقدر لا يُقاس. لَم نتكلّم عن الحبّ إلا بعد شهر على الأقل، وقال لي أكرَم إنّه يُحبُّني كثيرًا ولا يتخايل حياته مِن دوني. ذكّرتُه بأنّني سيّدة متزوّجة وأنّه مخطوب لقريبتي، لكنّ ذلك لَم يُخفّف مِن حماسه تجاهي.
زرتُ البلد بعد ذلك، ليس فقط لأرى والدتي بل أكرَم أيضًا. قضَينا سويًّا يومَين رائعَين بالتسوّق والمشاوير. فلقد اشترَيتُ له ملابس جديدة وأنيقة، لأنّ امكانيّاته لَم تكن تسمحُ له بذلك وكنتُ أريدُ له الأفضل. وقبل أن أعود إلى زوجي، أهدَيتُه ساعة ثمينة، وهو قال لي إنّه سيرى وجهي في قلب تلك الساعة كلّما اشتاقَ إليّ، أي طوال الوقت. لَم أرَ ابنة خالي، لأنّني لَم أستطع النظر في عَينَيها لكثرة خجلي مِن علاقتي بخطيبها.
بالطبع لَم يشكّ وليد بشيء، فأنا لَم أتغيّر معه وأبقَيتُ مشاعري وحبّي العذريّ لأكرَم لنفسي بانتظار زيارة بلدي، حيثُ كنتُ قادرة على لَمس وجه حبيبي وشعره والنظر إليه وهو يتكلّم ويضحك ويقولُ لي كَم أنّه يحبّني.
وبعد سنة على هذا النحو، إتفَقتُ وأكرَم أن نعيش حبّنا علنًا، أي أن أترك زوجي وأن يفسخ هو خطوبته. وكان علينا العمل على الموضوع بسريّة تامّة، لِذا بدأتُ أبعثُ له المال ليشتري لنا شقّة تليقُ بالحياة التي اعتدتُ عليها، وسيّارة فخمة. صحيح أنّني كنتُ أعطيه مال زوجي، إلا أنّني اعتبَرتُ ذلك تعويضًا لقضاء سنتَين مع عجوز لا يرى فيّ سوى رفيقة تُسلّيه، وتؤمّن له رفقة في أيّامه الأخيرة. كنتُ أريدُ حماس الشباب والأمل والتفاؤل الذي أفتقَدَه زوجي.
مرَّت حوالي الخمسة أشهر حين صرتُ جاهزة لترك وليد وأوروبا والذهاب إلى حبيبي. كان كل شيء جاهزًا بعد أن اشترى أكرَم الشقّة والسيّارة وبعثَ لي صورًا عديدة عنهما. لَم يتبقّى لي سوى مُصارحة وليد وطلب الطلاق منه بعد أن ترَكَ أكرَم إبنة خالي وصارَ حُرًّا.
حاوَلَ وليد جهده لإقناعي بالعدول عن قراري بتركه، ووصَلَ الحدّ به إلى عرض مبلغ طائل مِن المال عليّ لأبقى معه، إلا أنّني بقيتُ مصرّة على موقفي. فحبّي لأكرَم كان يفوقُ أيّة ثروة.
حَزَمتُ حقائبي وطرتُ إلى بلدي وإلى حبيبي. وفور وصولي، أخبرتُ والدتي عن حبّي لأكرَم وعن مشاريعي معه، الأمر الذي أغضبَها إلى أقصى درجة:
ـ أيّتها الحمقاء!
ـ أعلمُ أنّني تركتُ زوجًا ثريًّا وخنتُ ثقة إبنة أخيكِ لكنّ حبّي لـِ...
ـ لا أتكلّم عن ذلك... مع أنّكِ على حقّ، فمِن الجنون ترك حياة مُريحة، ومِن غير الأخلاقيّ سرقة خطيب إبنة خالكِ لكن...
ـ ما الأمر إذًا؟
ـ يا حبيبتي، لقد تزوّجَ أكرَم مِن إبنة أخي ويعيشان في شقّة رائعة.
ـ ماذا؟!؟ متى حصَلَ ذلك؟
ـ منذ حوالي الأسبوع. كيف له أن يشتري شقّة بهذا الكبر والجمال؟ أمر غريب.
ـ إشتراها مِن مالي.
ـ مال زوجكِ تقصدين.
ـ أجل... ومِن غبائي!
ركضتُ إلى الغرفة أبكي على حماقتي بعد أن خسرتُ كل شيء. فلَم يعد لي زوج ولا حبيب ولا مال ولا أملاك... كنتُ قد عدتُ إلى نقطة الصفر.
حاولتُ الإتصال بأكرَم لأواجهُه وأسمع منه أيّ عذر على الذي فعلَه، إلا أنّه غيّر رقمه. لذلك، إتصَلتُ بابنة خالي لأعرف منها بعض التفاصيل بذريعة تهنئتها. وهذا ما قالَته لي:
ـ شكرًا على تهنئتكِ يا ابنة عمّتي... لقد أقامَ لي زوجي فرَحًا جميلاً ويا لَيتكِ كنتِ حاضرة... صعدتُ بسيّارة أكرَم الجميلة والمُزيّنة بالورود... سأبعثُ لكِ بعض الصوَر.
ـ لا داعٍ، لا داعٍ. هل لي أن أكلّم أكرَم، أريدُ أن أدعو له بالتوفيق وأوصيه بكِ.
ـ توصيه بي؟ لا لزوم لذلك، فهو يُحبُّني فوق كل شيء. ألَم تفهمي بعد ذلك؟
ـ ماذا تقصدين؟
ـ هل اعتقدتِ أنّ بامكانكِ أخذ رجل حياتي منّي؟ هل تظنّين أنّ كل الناس خوَنة مثلكِ؟
ـ أنتِ تعرفين بأمرنا؟
ـ ومنذ اليوم الأوّل، فلقد رأيتُ كيف كنتِ تنظرين إلى خطيبي وخطَرَ ببالي أن أستفيدَ مِن الأمر. مَن برأيكِ دبَّرَ الخطّة؟ أنتِ غبيّة لأقصى درجة لاعتقادكِ بأنّكِ تفوقين غيركِ ذكاءً. لكن عليّ أن أشكركِ على سكننا الرائع وسيّارتنا الفخمة.
ـ يا إلهي!
ـ إيّاكِ أن تّتصلي بنا مُجدّدًا... يا سارقة الرّجال.
إنهارَ العالم مِن حولي، فكيف توصَّلتُ إلى التعلّق بأوّل رجل يُبدي إعجابًا بي وأخذه مِن غيري؟ هذا ليس مِن شِيَمي ولَم يكن يومًا. ربمّا السبب هو زواجي مِن رجل مُسنّ قدَّمَ لي حياة فاترة ومُملّة خالية مِن الفرح والأمل. كان يجدرُ بي عدَم السّماع مِن أمّي التي، بدافع حمايتي مِن العوز، أقنعَتني بالزواج مِن هكذا عريس. كان عليّ العمَل بكدّ لأؤمِّن لنفسي وضعًا ماليًّا مقبولاً حتى يتسنّى لي إختيار الرجل المُناسب لي والذي سأحبُّه وأؤلّفُ معه عائلة جميلة.
عُدتُ إلى التمريض والفقر والوحدة، ولا ألومُ سوى نفسي.
حاورتها بولا جهشان