خراب عائلة

طفَحَ كَيلي مِن مُشاجرات والدَيّ، ففضّلتُ العَيش مع خالتي التي تسكنُ ليس بعيدًا. فإنّ شابًا في مثل سنّي عليه التركيز على دراسته الجامعيّة وبناء مُستقبل لنفسه. وفي تلك الأثناء، أقامَت والدتي دعوى طلاق ضدّ أبي بعدما سَئِمت مِن زواجها الفاشل. تفكّكَت عائلتي وحزنتُ كثيرًا، خاصّة أنّ والدي ترَكَ أمّي مِن دون شيء حتمًا ليُعاقبها على تركه. وأنا وعدتُ نفسي بأن أُساعدها فور إيجادي عملاً بعد تخرّجي.

أخَذَ لي والدي غرفة في حرَم الجامعة، وصرتُ أزورُ والدَيّ كلاً على حدة، ووجدتُهما في حال أفضل بعد أن أُزيحَ عنهما عناء تحمّل الآخر. إرتاح بالي قليلاً، واستطعتُ مواصلة دراستي خاصّة أنّني كنتُ في السنة الأخيرة مِن تخصّصي.

كان لدَيّ أصدقاء عديدون تعّرفتُ إليهم لدى دخولي الجامعة، وألّفنا جميعًا مجموعة مرِحة. وأعترفُ أنّ لولا هؤلاء الشبّان لكانت حياتي كئيبة للغاية. لكنّني كنتُ مُقرّبًا جدًّا مِن أحدهم واسمه مازن، فهو كان يُشبهُني في كلّ شيء واعتبرتُه الأخ الذي تمنّيتُه منذ صِغَري. هو الآخر كان يُعاني مِن أجواء عائلته، إذ أنّ والده كان رجُلاً ثريًّا للغاية ويسَمحُ لنفسه العَيش كما يحلو له، أي مِن دون اعتبار لأحد خاصّة لزوجته. فهو كان يخونُها على العلَن، ويسهَر ويلعَب بالمَيسر حتى ساعات الصباح. ولإسكات المسكينة، كان يُعطيها مالاً وهدايا. إلا أنّ ذلك لَم يُفرِح طبعًا قلبها بل زادَ مِن امتعاضها منه.

تكلَّمتُ ومازن مرّات عديدة عن دور الأهل وكيف لهم أن يتحابّا ويتوافقا، على الأقلّ مِن أجل أولادهما، وتمنَّينا لو أنّنا وُلِدنا في أسَر مُختلفة.

ساءَت أحوال أمّي المادّيّة، وطلبتُ منها الصّبر قليلاً، إلا أنّها منعَتني مِن العمَل مِن أجل توفير مدخول لها وأمرَتني بالتركيز على نَيل شهادتي ومِن ثمّ الماجستير إذ أنّ الإجازة صارَت غير كافية. وجدتُها جدّيّة للغاية في ما يخصّ ذلك الموضوع، فرضَختُ لها بعدما وعدَتني بالقيام بما يجب لانتشال نفسها مِن العوز. وبالفعل استطاعَت والدتي في وقت قصير إيجاد عمل والعَيش مِن دون أن تمدّ يدَها لأحد. وبّختُ والدي مرارًا لتركه زوجته السّابقة تتعذّب، إلا أنّه أجابَني في إحدى المرّات:

 

- كانت أمّكَ تعيشُ بكرامة معي وعليها تحمّل تداعيات قرارها. إضافة إلى ذلك، تعليمكَ يُكلّفني الكثير وأنوي إيجاد زوجة جديدة لي.

 

أسِفتُ لسماعي ذلك الكلام عن والدتي وعن دراستي وعن مشاريع زواج أبي، إلا أنّني أدركتُ أنّ الناس لدَيهم تفكيرهم الخاص وشخصيّتهم، وأنّني لن أستطيع تغيير شيء في الذي يحصل.

شكَيتُ همومي لِمازن وهو أخبرَني عن تخطّي أبيه حدود المقبول في طريق عَيشه ومعاملته لزوجته، واتّخذنا قرارًا مهمًّا: التعلّم مِن أخطاء أهلنا وعدَم تكرارها عندما يحين وقت زواجنا وإنجابنا وإلا ذهَبَ سدىً كلّ ما عانَت منه عائلتانا.

 


بعد فترة، جاءَ إليّ مازن والدّمع يملأ عَينَيه، وأخبرَني أنّ أباه قرَّرَ الانفصال عن أمّه بعد أن وجَدَ امرأة أخرى لِتحلّ مكانها. كان حتى ذلك الوقت يتسلّى مع النساء ويصرفُ عليهنّ مُقابل رفقتهنّ ومحاسنهنّ، إلا أنّ في تلك المرّة كانت المسألة جدّيّة. وقعَت والدة مازن في حالة إكتاب، بعد أن أدركَت أنّ تحمّلها لنزوات زوجها أمرٌ غير مُجدٍ وأنّ ما كانت تخشاه سيحصل في آخر المطاف. هي لَم تخَف مِن العَيش في القلّة، إذ أنّ زوجها وعدَها بأنّه على خلاف أبي، سيهتمّ بمصروفها ويعملُ جهده كي لا ينقصها شيء، بل خافَت على فقدانه كلّيًّا لأنّها أحبَّته صدقًا.

حاولتُ وصديقي إيجاد طريقة لِمَنع ما كان مُقرّرًا أن يحصل، لأنّني لَم أعُد أتحمّل أن ينفصِلَ زوجان. لِذا قرّرنا أن نتبَع والد صديقي ليلاً لنعرفَ إلى أين يذهب ومع مَن. ما الذي كنّا ننوي فعله حين نحصل على المعلومات المُرتقبة؟ للحقيقة لَم نفكّر في الأمر، فلا تنسوا أنّنا كنّا شابَّين لا يعرفان الكثير عن الناس والحياة بل نتصرّف باندفاع وليس أكثر.

لَم ننجَح بما خطَّطنا له، لأنّ والد مازن كان يخرجُ في وقت مُتأخِّر جدًّا، ويقودُ سيّارته بسرعة تفوقُ سرعة درّاجة صديقي الناريّة. لِذا أوشكنا على الاستسلام. على كلّ الأحوال، كان مِن الواضح أنّ ذلك الأب لا يُفكّرُ سوى بنفسه وملذّاته ولن يردعه شيء أو أحد.

لكن في مُحاولتنا الأخيرة، إستطَعنا اللحاق به بسبب زحمة سَير خانقة قلّلَت مِن سرعته، ففرِحنا لأنّنا كنّا سنعرفُ أخيرًا أين يذهب ومع مَن.

ركَنَ والد مازن سيّارته... تحت المبنى الذي تسكنُ فيه والدتي! فتحرّكَ في قلبي شكّ دفين وصلَّيتُ أن أكون مُخطئًا. لَم أقُل شيئًا لصديقي، فهو لا يعلَم عنوان سكن والدتي، وانتظرنا خلف حائط المبنى المُقابل نزول "العشيقة". وكِدتُ أقَع أرضًا حين رأيتُ التي أعطَتني الحياة تخرجُ مِن المبنى وتصعدُ في السيّارة. عندها قال مازن:

 

ـ ها هي الفاجرة! لو أستطيع تمزيق... مهلاً... مهلاً... لقد رأيتُها سابقًا... أليست تلك المرأة نفسها التي أرَيتني صورتها... أعني أمّكَ؟!؟ أجِبني!

 

صمتي كان جوابًا بحدّ ذاته، فنظَرَ مازن إليّ بمزيج مِن الاستغراب والاستنكار والغضب. كلّ ما استطعتُ قوله كان: "أنا آسف، لَم أكن على علم بشيء". فضّلتُ العودة سيرًا على الأقدام بالرغم مِن بُعد المسافة، أوّلاً لكثرة خجَلي مِن صديقي وثانيًا لأستوعِب ما رأيتُه.

مشيتُ لوحدي والدّمع ينهالُ مِن عَينيّ. للحقيقة، لَم تفعَل أمّي شيئًا مُشينًا حقًّا، فالرّجل كان ينوي الزواج منها. لكنّ النتيجة كانت بشعة إذ أنّها كانت ستُدمِّر عائلة. مهلاً... بل هو مَن سيُدمّر عائلته، فلطالما كان إنسانًا خفيفًا وأنانيًّا يخونُ زوجته بلا وخز ضمير. هل أدركَت والدتي مدى الضرَر الذي سيحدثُ، أم أنّها لَم تكن تعلم حقيقة وضع عشيقها؟

قصدتُ أمّي في الصباح الباكر لأستفسِر عن الأمر، وحاولتُ طبعًا الحفاظ على هدوئي، ففي آخر المطاف لَم يكن لدَيّ أيّ سلطة عليها كونها أمّي وراشدة وغير مُرتبطة بِزوج. هي لَم تنكرُ بل رأيتُ بصيص فرَح في عَينَيها عندما أجابَت:

 

ـ أجل يا حبيبي، سأتزوّجُ قريبًا... كنتُ سأخبرُكَ بالأمر في الوقت المُناسب. وحدتي قاتلة وأحوالي المادّيّة صعبة للغاية. أنا لا أفعلُ شيئًا مُعيبًا بل سأقترنُ بالحلال.

 

ـ صحيح ذلك لكنّ عريسكِ المُستقبليّ هو والد أعزّ صديق لي.

 

ـ يا للصدفة!

 

ـ دعيني أكمِل... وزوجتُه مُنهارة وابنه مُستاء للغاية!

 

ـ وما شأني؟

 

ـ شأنُكِ أنّكِ ستتسبّبين بانهيار عائلة بأسرها.

 


ـ إن لَم يتزوّجني حبيبي بالذات فسيتزوّج مِن أخرى.

 

ـ إبنه صديقي يا ماما!

 

ـ وحياتكَ أمامكَ. ستحظى بأصدقاء كثيرين أمّا أنا... فقد تكون هذه فرصتي الأخيرة.

 

ـ هذا الرّجل ليس مُناسبًا لكِ، فحياته تمحورَت حول النساء وخيانة زوجته. سيُسبّب لكِ الحزن والأسى.

 

ـ لن يكون أوّل رجُل يُسبّب لي ذلك يا حبيبي. أنا آسفة لكنّني لن أتراجع عن قراري.

 

قطَعَ مازن علاقته بي، لا بَل ابتعَدَ أفراد الشلّة عنّي وكأنّني المسؤول عمّا يجري. قبِلتُ كلّ ذلك بقناعة، وحمدتُ ربّي أنّني تخرّجتُ لأرحل إلى مكان بعيد عن مازن وعائلته وأمّي.

وبعد أشهر، وبرغم امتعاضي مِن والدتي، قرّرتُ توديعها قبل أن أنتقل إلى الشقّة التي استأجرتُها. قرعتُ بابها، ففتحت لي وعانقَتني باكية. إستغربتُ الأمر، فلَم أُطلِعها على تداعيات مشروع زواجها مِن أب مازن. وبعد أن جلسنا في الصالون، قالَت لي:

 

ـ كنتَ على حقّ في ما يخصّ ذلك الوغد.

 

ـ ما الأمر يا ماما؟

 

ـ لقد تزوّجَ مِن غيري!

 

ـ ماذا؟!؟ والد مازن تزوّجَ؟

 

ـ أجل... فقد استغلَّني ووعدَني بتمضية باقي حياته معي وأنا صدّقتُه. إلا أنّه منذ البدء كان ينوي الارتباط بامرأة أخرى. يا إلهي... ظننتُ حقًّا أنّني سأعيشُ أخيرًا سعيدة مع رجُل يُحبّني بالفعل. مِن الواضح أنّني لن أعرِفَ طعم السعادة.

 

ـ هذا يعني أنّكِ لَم تكوني، منذ البدء، سبَب خراب عائلة مازن! يا للخبَر السعيد!

 

ـ أراكَ فرحًا لِما حدَثَ لي يا بني.

 

ـ أجل، أوّلاً لأنّني لَم أعُد مُذنبًا بنظر صديقي، وثانيًا لأنّكِ لَم تتسبّبي بتعاسة أناس آخرين. صدّقيني يا ماما، أنتِ بأفضل حال هكذا. إسمعي، لقد وجدتُ عملاً جيّدًا ولن تحتاجي لشيء بعد الآن. إضافة إلى ذلك، سأضغطُ على أبي كي ينسى امتعاضه منكِ ويُخصّص لكِ مبلغًا شهريًّا.

 

ـ أنا بحاجة إلى رفيق يا حبيبي، فالوحدة بشعة للغاية.

 

ـ سأكون رفيقكِ إلى حين تجدين لنفسكِ رجُلاً مُحترمًا وطيّبًا.

 

رحتُ على الفور إلى صديقي مازن لأُحاوِل تصليح ما تدمَّرَ بيننا. وجدتُه حزينًا وبالكاد نظَرَ إليّ وهو يلقي التحيّة. وقبل أن أبدأ بالكلام قال لي:

 

- أعلمُ لِما جئتَ، فلا بدّ أنّكَ علمتَ بما فعلَه أبي بأمّكَ وأمّي... ستسألني لماذا إذًا لَم أتّصل بكَ لأعتذر منكَ، وسأُجيبكَ بأنّني بالفعل أخطأتُ التصرّف معكَ وخجلتُ مِن نفسي لأقصى حدّ. الذنب لَم يكن يومًا ذنبكَ أو ذنب أمّكَ، لكنّني كنتُ بحاجة إلى إلقاء اللوم على أحد مِن خارج عائلتي. سامحني أرجوكَ فأنتَ ليس فقط صديقي بل أيضًا أخي.

 

وبالطبع سامحتُ مازن واسترجعنا صداقتنا بِثوانٍ.

اليوم أُديرُ مع مازن شركة ناجحة تدرُّ علينا مالاً يكفي لزوجتَينا وأولادنا، ووالدتي التي لَم تجِد الحبّ الذي كانت تبحثُ عنه بل وجدَت حبًّا مِن نوع آخَر: حبّ الجدّة لأحفادها، وهذا يكفيها ويُسعدها إلى أقصى درجة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button