متى بدأتُ أحلم بالسفَرَ؟ ربمّا عندما كنتُ في العاشرة مِن عمري أو حتى قبل ذلك. وُلِدَ هذا الولعَ مِن الجلسات التي كنتُ أقضيها مع خالي منذر الذي كان يجوب العالم ويعود ليروي لي مغامراته. وكان ذلك الرّجل يُدخل الخيال على الواقع، ويصف لي الأماكن بأسلوب مشوّق، وأنا كنتُ أرى نفسي برفقته، أتقاسم معه أحاسيسه المثيرة.
وكم حزِنتُ عندما قرَّرَ خالي العيش بصورة دائمة في جنوب أمريكا، فبذلك كان قد حَرَمَني مِن نافذتي على العالم.
بقيتُ على تواصل معه عبر رسائل كنتُ أبعثها إليه أسأله فيها أن يحكي لي عن هذه المغامرة أو تلك، وكأنّني بذلك أريد إبقاء تلك الصّلة كما كانت. ولكنّ الحياة تفرّق أقرب الناس، وسرعان ما شحَّت أجوبة الخال وفهِمتُ أنّه أكمل حياته مِن دوني.
ومنذ ذلك الحين مات شيء في قلبي، أي أنّني عُدتُ ذلك الولد العاديّ الذي يعيش حياة عاديّة شأنه شأن باقي الفتيان، ولم أعد أفكّر بالسفر لأنّه بات يعني لي الفراق والبُعد.
ومرَّت السنوات بهدوء تام لا بل بِملل، أركّز فقط على دراستي حتى أنّني لم أصادق أيًّا مِن رفاقي ولم أخرج سوى مع أهلي. أظنّ أنّ السّبب الدّفين كان ابتعادي قدر المستطاع عن أيّ شيء يُثير خيالي مِن جديد، بعد أن خابَ أملي بالذي أخَذَني معه إلى عوالم موجودة وغير موجودة. ولكن ما أن أوشَكتُ على نيل شهادة الثانويّة العامة، حتى طلَبتُ مِن أهلي أن يُرسلوني إلى معهد للطيران. تفاجآ كثيرًا لطلبي هذا، لأنّهما كانا يجهلان ولَعي بالسّفر بعد أن عمِلتُ جهدي على طمر هذا الشغف. وبالرّغم مِن التكاليف الباهظة جدًّا، قبلا أن أحقّق ما كنتُ أحلم به.
وقصَدتُ المعهد وكأنّني ذاهب إلى المجهول، فقد كان قلبي يدقّ بسرعة فائقة وكان نَفَسي مقطوعًا. خضَعتُ لفحص طبيّ ليتأكّدوا مِن سلامة نظَري وإن كان قلبي يتحمّل الضغط الجوّي، وجاءَت النتائج سليمة. وبقيَ عليّ تحديد الاختصاص الذي أودّ اختياره، وكان طبعًا طيران النقل الجوّيّ فلم يكن يهمّني الحربيّ أبدًا، بل كنتُ أريد السّفر والاستمتاع بغرائب الدنيا وليس بالقتل والدّمار.
بدأ التدريب وتجميع ساعات الطيران، واستثمَر والدايَ كلّ ما يملكانه بي، وحيدهما، ولم أشأ أن أخذلهما فكنتُ أوّل دفعَتي حتى أنّ المعهد أرسلَني إلى اسبانيا لاكمال تدريبي.
وتعرَّفتُ أخيرًا إلى بلدان كثيرة، واختلَطتُ مع أناس تختلف لغتهم وتقاليدهم عنّي... وكنتُ سعيدًا. ولكنّني لم ألمس السّحر الذي كلّمَني خالي عنه، وتساءَلتُ إن اختلَقَ كلّ تلك القصص أم أنّه عاشَ فعلاً مغامرات عديدة.
وبعد أن خابَ ظنّي، بدأتُ أحسب عملي وكأنّه كأيّ عمل آخر، أؤدّيه بجدّيّة ومسؤوليّة، إذ كانت أرواح الركّاب أمانة بين يدَيَّ ولم أكن لأخاطر بها أبدًا.
الشيء الوحيد الذي كان يُزعجني كان بُعدي عن والدَيَّ، وكم حزِنتُ عندما توفّيَ أبي خلال إحدى سفراتي. لم أسامح نفسي على عدَم تواجدي معه أثناء لحظاته الأخيرة ووقوفي إلى جانب أمّي المفجوعة.
وعند رجوعي، توجَّهتُ فورًا إلى قبر أبي، وبكيتُ طالبًا مسامحته، وشاكرًا إيّاه على تضحياته الكثيرة الذي قامَ بها ليُحقّق حلمي بالطيران. عَرَضتُ على والدتي أن أترك الملاحة وأشغل عملاً ثابتًا في المطار ولكنّها رفضَت وأصرَّت عليّ أن أكمل مسيرتي الجويّة.
وهكذا عُدتُ أطير وأنقل الناس مِن بلد إلى آخر، ولكنّ قلبي كان قد أصبح ثقيلاً وحزينًا، أوّلاً بسبب موت أبي وبقاء أمّي لوحدها، وثانيًا لأنّني لم أجد الاثارة التي توقَّعتُ أن أجدها بالسّفر.
ولكنّ مفهومي للأشياء وللحياة كان سيتغيّر بعد أشهر قليلة. كنتُ أقود طائرة مليئة بركّاب آتين مِن جنوب أمريكا، وكان الطقس عاصفًا جدًّا والقلق يسود الجميع. لم أكن أخشى طقسًا كهذا، لأنّني كنتُ قد أصبحتُ متمرّسًا بالطيران أو هكذا ظنَنتُ.
كانت الطائرة في وضع الطيّار الآليّ وذهَبَ مساعدي إلى الحمّام، حين سمِعتُ دقًّات على باب المقصورة. حسبتُ أنّ احدى المضيفات تريد أن تسألني شيئًا، وإذ بي أتفاجأ بخالي منذر والبسمة على وجهه. صرَختُ بفرَح وحماس:
ـ خالي! أنتَ هنا! على متن طائرتي؟!؟
ـ أجل يا صغيري... كم أنّكَ كبِرتَ! فرِحتُ لكونكَ طيّارًا... تعلَم كم أنّني أحبّ السفر.
ـ أجل ولكن سفراتكَ أجمل مِن سفراتي بكثير! قل لي... هل كنتَ تخترع تلك القصص أم أنّها حصَلَت فعلاً معكَ؟
ـ إستعمَلتُ الخيال ولكن ليس بسرد سفراتي بل بعَيشها.
ـ ماذا تقصد؟ لم أفهم.
ـ عندما تزور مكانًا ما، يُمكنكَ النظر إليه مِن زوايا عدّة... أحيانًا تجد المغامرة والإثارة في أبسط الأمور... السّحر والجمال هما في قلبكَ وعَينَيكَ يا صغيري...
ـ لماذا رحلَتَ؟ ولماذا لم تعد تجيب على رسائلي؟
ـ رحَلتُ لأنّني وجَدتُ السّحر والجمال في جنوب أمريكا، ولم أعد أراسلكَ لأنّني مرضتُ كثيرًا... مرض عضال أجبَرَني على التنقّل على كرسيّ متحرّك ولم أشأ أن أغيّر الصورة التي تملكها عنّي.
ـ ولكنّكَ الآن بألف خَير! أنتَ تمشي وتقف!
ـ صحيح ذلك يا صغيري، لقد شفيتُ تمامًا منذ فترة قصيرة وأشعر وكأنّني عدتُ شابًا!
ضحِكَ الخال منذر وضحِكتُ معه. أخبَرتُه عن موت أبي، وقال لي إنّه على علم بالذي حصل وطمأنَني بأنّ والدي فخور بي كثيرًا.
ـ هو قال لكَ ذلك عنّي؟
ـ قال لي أشياء كثيرة عنكَ، أهمّها أنّه يُبارككَ... وأوصاني بكَ.
ـ أوصاكَ بي؟ أنتَ تعيش على بعد آلاف الأميال!
ـ وها أنا واقف أمامكَ!
ضحكنا مِن جديد، وبعد ذلك قال لي خالي بصوت جدّيّ:
ـ إسمع يا صغيري... سأترككَ الآن، فالعاصفة ستشتّد بعد دقائق ولدَيكَ طائرة عليكَ أن تقودها إلى برّ الأمان... تذكّر ما قالَه لكَ المدرّب في إسبانيا.
ـ كيف علِمتَ عن إسبانيا؟ آه... أمّي أخبرَتكَ بذلك!
خَرَج خالي مِن المقصورة ودخَلَ مساعدي بعد ثوانٍ فقلتُ له:
ـ ما الذي أخّركَ هكذا؟
ـ لم أتأخّر فلَم أغب سوى دقيقَتين!
وفور جلوسه شعَرنا بالطائرة تهتزّ بقوّة، فأعَدتُها إلى وضع التوجيه اليدويّ وقال لي مساعدي:
ـ العاصفة تشتدّ!
ـ هذا ما قالَه لي خالي... كيف علِمَ بذلك.
وبدأَت إشارات الألواح تضيء الواحدة تلو الأخرى، وسمِعتُ صراخ الركّاب آتيًا مِن الخلف. كنتُ أعلم أنّنا في موقف دقيق، ففعَلتُ كما أوصاني خالي، أي تذكّرتُ أنّ المدرّب الاسبانيّ قال لنا أنّ نبحَث عن أقرب مدرج للهبوط به عوضًا عن الطيران إلى قلب العاصفة أو حتى المرور بجانبها.
إتصَلتُ على الفور ببرج المراقبة طالبًا منهم إيجاد أقرب مدرج، وبعد انتظار خلتُه دام دهورًا، حصَلتُ أخيرًا على إذن للهبوط في بلد كان على طريقي. أخَذتُ المذياع وأمَرتُ الركّاب والطاقم بأخذ وضعيّة الهبوط الاضطراريّ وبدأتُ بإنزال الطائرة. كانت سرعة الهواء هائلة واضطرِرتُ أن أطير في دوائر بضع مرّات، إلى حين استطَعتُ أخيرًا الهبوط وسط تصفيق الركّاب.
ركَضتُ لأرى إن كان خالي بخير، ولكنّني لم أجده مع أنّ الطائرة كانت لا تزال مقفلة ولم يخرج منها أحد. فتَّشتُ في الحمّامات وفي كلّ مكان مِن دون جدوى. لم أفهم كيف تبخَّرَ الرّجل وأسرَعتُ أتصل بأمّي لأخبرها بالذي حصل. سكَتَت والدتي مطوّلاً وقالت:
ـ خالكَ منذر فارَقَ الحياة يا بنيّ.
ـ ماذا؟ كان واقفًا أمامي في المقصورة!
ـ مات منذ أكثر مِن خمس سنوات... لم أشأ إخباركَ لأنّني أعلم كم كنتَ تحبّه، وأنّ اختياركَ مهنتكَ سببه هو بالرغم مِن أنّكَ فعَلتَ جهدكَ لإخفاء ذلك عنّا، فخفتُ أن تكره عملكَ.
ـ أقول لكِ إنّني رأيتُه بعَينَيَّ! هل أنا مجنون؟
ـ خالكَ مات جرّاء مرض خطير ونادر... إنشلّ تدريجًا حتى توقَّفَت أعضاؤه عن العمل... مات يا حبيبي، صدّقني.
ـ وأبي أوصاه بي... هذا يعني... أنّه رآه بعد أن... بعد أن مات؟ وطلَبَ منّي أن أتذكّر ما قالَه لي المدرّب في إسبانيا، كيف له أن يعرف ذلك؟!؟
ـ لا أعلم يا بنيّ... كلّ ما أعرفه هو أنّكَ والركّاب بخير.
قضَيتُ يومَين في البلد الذي هبَطنا فيه ولم أبارح غرفة الفندق. طلَبتُ أن يُعيَّن طيّارٌ غيري، وعدتُ كأيّ راكب آخر إذ لم أكن قادرًا على القيادة لكثرة ارتباكي. وعند وصولي إلى بيت أهلي عانَقتُ أمّي مطوّلاً وقلتُ لها:
ـ حاولتُ إيجاد تفسير لما حصل فلم أقدر... هل كنتُ أحلم أم أنّ خالي جاء لمساعدتي؟ ولكن كيف لي أن أعلم أنّه مُصاب بمرض شلّه؟ هل تعتقدين يا أمّي أنّ...
ـ عليكَ الكفّ عن طرح أسئلة لا جواب لها، إفرَح لأنّ أباكَ فخور بكَ وبأنّه سعيد حيث هو، وافرَح لأنّ خالكَ يُحبّكَ كثيرًا... إنعَم بحياتكَ ودَع تلك الأمور للخالق الذي بَعَث لكَ المساعدة لينجوَ الركّاب ولتبقى بِعملكَ، وإلا فما الفائدة مِن هذا التدخّل؟
وتغيّرَت حياتي بأسرها، فبدأتُ أرى عملي وكأنّه رسالة أوكلها إليّ مَن هو أكبر منّا جميعًا، وحين كنتُ أزور البلدان صِرتُ أرى فيها الجمال والسّحر كما لو أنّني أنظر إليها بعَيني خالي.
حاورته بولا جهشان