أخَذَ جاد زوجي كلّ ما أملُك ورحَلَ مِن دون أن أشكّ بالذي هو آتٍ، فقد تصرّفَ بدهاء وحِنكة بينما ظلَّ يُردِّدُ لي كَم هو يُحبُّني. صدّقتُه لأنّني إنسانة طيّبة ومُخلِصة ولأنّني، كسائر النساء، أستحقّ الأفضل، لكن مِن الواضِح أنّ جاد لَم يظنّ أنّني أستحقّه، بل امرأة أخرى تعرّفَ عليها وعاشرَها سِرًّا. ويوم وجدتُ علبة مُجوهراتي فارِغة وكذلك حسابنا المصرفيّ المُشترَك، أمسَكتُ رأسي بين يدَيّ وبدأتُ بالبكاء. دارَت الأسئلة في رأسي وأنا أبحثُ عمّا فعلتُه خطأ أو لَم أفعَله، ناسيةً أنّ الرجال السيّئون لا يحتاجون إلى أسباب ليؤذوا مَن أخلُصَ لهم وأعطاهم كلّ شيء.
واساني الجميع وسرعان ما وجدتُ نفسي وحيدة، أوّلًا لأنّني لَم أُنجِب، وثانيًا لأنّ الناس لا يُحبّون مَن هم حزانى حولهم. أحبَبتُ وحدتي لأنّها أعطَتني السكينة التي احتَجتُها لاستيعاب ما جرى لي، ولأفهَم ذاتي أكثر. فبعد أن لِمتُ نفسي كثيرًا، إستوعَبتُ أنّني أختَرتُ الرجُل الخطأ وأنّ الحياة لا تزال أمامي لبناء علاقة جديدة يومًا ما. كنتُ بحاجة إلى وقت أطوَل طبعًا، لكنّ الفكرة كانت موجودة في بالي، لأنّني كنتُ مِن اللواتي ترَينَ الضوء في آخِر النفَق مهما كان طويلًا ومُظلِمًا.
مِن حسن حظّي أنّني كنتُ امرأة عامِلة أحظى بمدخول، بعد أن جرّدَني جاد مِن كلّ شيء. تغيّرَت طبعًا نوعيّة معيشتي، لأنّ راتبي كان بالكاد يكفي لِدفع الإيجار والأكل والشرب وبعض الحاجيات، لكنّ ذلك لَم يؤثِّر على اصراري لمُتابعة حياتي بتفاؤل.
بعد فترة، جاءَت إليّ شيرين، إحدى زميلاتي في العمَل لتقول لي إنّ لدَيها عريسًا لي، وهو رجُل مُمتاز تعرِفه شخصيًّا، وإنّها أرَته صورتي على أحَد مواقع التواصل فوجدَني جميلة. تفاجأتُ لأنّها تصرّفَت مِن تلقاء نفسها، لكنّها أكّدَت لي أنّ السبب هو محبّتها لي، ورغبتها بأن أنسى ما حصَلَ لي في زواجي السابق. سامحتُها وقبِلتُ أن تريني صورة الذي كان اسمه باسم، ولقد أعجبَني أنا الأخرى. لكن هل كنتُ جاهِزة لدخول علاقة جديدة؟
تبادَلتُ الرسائل عبر الهاتف مع باسم، وتعرّفتُ أخيرًا عليه شخصيًّا وكان كما تصوّرتُه، فبدأتُ أتعلّق به يوم بعد يوم. تحدّثنا عن الذي جرى مع زوجي السابق فمِن حقّه أن يعرف لماذا صِرتُ امرأة مُطلّقة، وهو أخبرَني عن سبب بقائه عازبًا، لأنّه الابن الأصغَر لأّمّه وقد بقيَ معها حتّى مماتها ليهتمّ بها. وهذا الأمر بالذات أكَّدَ لي أنّ ذلك الرجُل هو مَن أبحَث عنه، لأنّه ضحّى بشبابه مِن أجل والدته في حين كان بإمكانه التخلّي عنها أو جَلب مُساعِدة غريبة لها.
وبعد حوالي ثلاثة أشهر، أعلَنّا خطوبتنا وبدأنا نُخطِّط للزواج.
وفي تلك الفترة، باشَرتُ بِنَقل أمتعَتي إلى بيت باسم، لأنّ شقّتي كانت بالإيجار، في حين كان له بيت لطيف يملكه بعد أن ورِثَه مِن أهله. إلّا أنّ خطيبي قال لي:
ـ لا، لا تأتي بشيء، فسأشتري لكِ ما يلزمكِ.
ـ لكنّها أغراضي الشخصيّة يا باسم.
ـ وإن يكن.
ـ ذكرياتي!
ـ حياتكِ تبدأ يوم تتزوّجيني، فاتركي الماضي حيث هو.
ثمّ أضافَ أنّ عليّ بَيع سيّارتي لأنّ لا حاجة لي لها ما دمتُ سأترك عمَلي. للحقيقة سُرِرتُ لسماع ذلك الكلام الذي أعطاني ثقة كبيرة في مُستقبل جميل. فكنتُ بالفعل أحِبُّ عمَلي وقيادة سيّارتي كلّ يوم، لكنّني أُعجِبتُ بلَعِب دور الزوجة المُدلَّلة التي يأتي لها زوجها بكلّ ما تتمنّاه... غبيّة بالفعل، فلَم أرَ العلامات الحمراء التي كانت أمام عَينَي، كمسألة عدَم جلَب أيّ شيء يخصُّني معي، وكذلك عدَم قبول باسم لأنّ أجري أيّ تعديل على أثاث أو ديكور بيته. هو منعَني مِن جلَب ماضيّ معي بينما أصرَّ على العَيش مع ماضيه هو. على كلّ الأحوال كنتُ في حالة سعادة وامتنان كبيرة كفاية لِحَجب أيّ شيء مُريب في ما يخصّ اقتراني بباسم الذي اعتَبرتُه هبة مِن الله.
تزوّجنا وقضَينا شهر عسَل مُمتاز وعُدنا إلى عشّنا السعيد. السعيد؟!؟ ففور وصولي، إنتبَهتُ على الفور إلى التغيير الذي حصَلَ لباسم فور جلوسه على كرسيّه المُفضّل كما أسماه، إذ أنّ ملامحه صارَت قاسية وكذلك نظراته، وطلَبَ منّي بجفاف ماذا سأُحضِّر له مِن طعام. تلبَّكتُ، أوّلًا بسبب هذا التغيير المُفاجئ، وثانيًّا لأنّ البيت كان فارِغًا مِن المواد الغذائيّة. وإذ به يقولُ لي عندما أثَرتُ الموضوع: "ماذا تنتظرين إذًا؟ هيّا، إذهبي إلى المتجَر واجلبي ما تحتاجينه!". إمتلأت عينايّ بالدموع لكنّني تمتمتُ: "حاضِر" وذهبتُ أشتري حاجيات البيت... سيرًا على الاقدام، لأنّ زوجي وجَدَ أنّ لا لزوم لأخذ سيارته لذلك.
عدتُ مُحمّلة بالأكياس وأنا ألهثُ مِن التعَب، بينما وجدتُه جالِسًا مكانه، وهو لَم يتحرّك لمُساعدتي في حَمل الأكياس أو في وضع الحاجيات مكانها.
باقي الأيّام كانت مُتشابِهة، إذ قضَيتُ وقتي أُنظِّف البيت وأطهو، بعد أن قالَ لي باسم إنّ أمّه كانت أنظَف ربّة منزل وأمهَر طاهية، وأنّه يتوقّع منّي ألّا أكون السبب في تغيير نوعيّة حياته. أمّا في المساء، حين نخلُد إلى النوم، فقد كان زوجي يصبح حنونًا ليحصل على مُبتغاه ثمّ يُدير لي ظهره وينام في غضون ثوان. إضافة إلى ذلك، لَم أكن أتقاضى أيّ مصروف خاصّ مِنه، بل فقط ما يلزم للبيت، ليُبقيني رهينة مزاجه، واستغلَّ المال كوسيلة مُكافأة... أو عقاب.
إشتَقتُ للعمَل ولزميلاتي وبقيتُ أتواصَل معهنّ، خاصّة مع شيرين التي عرّفَتني على باسم، وصارَت بيننا علاقة وطيدة. لكنّها، وبالرغم مِن ادّعائي بأنّني سعيدة بزواجي، هي شعرَت بأنّ الأمور لَم تكن على ما يُرام. وأمام إصرارها المُتكّرِر، إعترفتُ لها بحقيقة ما أعيشُه، الأمر الذي أذهلَها وأشعرَها بالذنب، فهي كانت، ولو عن غير قصد، السّبب بِتعاستي. وأوّل شيء قالَته لي كان:
ـ حسنًا... سأعرفُ المزيد... الحقّ يقَع عليّ، فلَم أسأل عن باسم كما يجب، بل اتّكلتُ على ما أخبرَني زوجي عنه وما رأيتُه عندما استقبَلناه مرّات قليلة في بيتنا. فقد بدا لي رجُلًا وسيمًا ومُتّزِنًا وحنونًا لأنّه اعتنى بأمّه لآخِر أيّامها.
ثمّ أضافَت قَبل أن تُقفِل الخط: "إفعلي جهدكِ حتى لا تحملي منه بالرغم مِن رغبتكِ بطفل، أتسمعين؟".
وأوّل شيء فعلَته شيرين كان مُعاتبة زوجها الذي هو الآخَر تفاجأ بالذي عرَفَه عن باسم. وهي منعَته أن يُخبِره أنّني كلّمتُها عن الذي أمرُّ به تحت طائلة الزعَل القاسيّ والطويل.
في تلك الأثناء، ولتُخفِّف شيرين مِن شعورها بالذنب حيالي، دبَّرَت لي أن أعمَل لصالح الشركة عن بُعد، وعلى أمور لا تستلزم حضوري شخصيًّا، وبالسرّ طبعًا. وهذا الأمر ساعدَني على تحمّل حياتي اليوميّة مع رجُل طاغية وأنانيّ. كنتُ مُقتنِعة أنّني غير محظوظة في ما يخصّ الرجال أو أنّ الله يُعاقبُني لِسبب أجهلُه. فلَم أفهَم آنذاك أنّني تسرّعتُ في قبول الزواج مِن باسم، وما هو أهمّ، أنّه وجَدَ بي الضحيّة المثاليّة بعد أن علِمَ مِن شيرين ومنّي ما فعلَه بي زوجي الأوّل. فكنتُ في حالة ضعف وبحاجة إلى رجُل يفهمُني ويقِفُ إلى جانبي ويُظهِرُ الحبّ والحنان والأمان الذي كنتُ بحاجة إليها. أمّا هو، فقد أرادَ امرأة تخدمُه في النهار... وفي الليل، ويحجزُها لنفسه طوال الوقت. لكنّ الحقيقة كانت أفظَع مِن ذلك، فعادَت شيرين إليّ بعد فترة قائلة:
ـ سألتُ عن باسم في كلّ مكان وقيلَ لي إنّه مُمتاز مِن كلّ النواحي، الأمر الذي هو مُنافٍ لِما تعيشينَه، لِذا قصدتُ أخوَته ومِن ثمّ جيران باسم القدامى، وهذا ما عرفتُه: لطالما كان باسم الابن ـ الملَك لأنّه الأصغَر، وحظيَ مِن أهله باهتمام خاصّ ومُعاملة مُختلفة عن باقي أخوَته. وبعد موت الأب وزواج الأخوة، بقيَ باسم مع أمّه لأنّها كانت تخدمه وليس العكس، حتّى عندما مرضَت ولَم تعُد قادِرة على فعل شيء مِن دون أن يُسبّب لها ذلك ألَمًا فظيعًا. هي اشتكَت مِن معاملة باسم لها لدى أولادها الآخَرين الذين تدخّلوا في بادئ الأمر ثمّ ترَكوها لمصيرها عندما رأوا أنّها بقيَت تُعطيه أعذارًا، بالرغم مِن أنّها كانت ضحيّة طغيانه وطلباته التي لَم تكفّ يومًا... وحتّى إساءاته اللفظيّة والجسديّة.
ـ ماذا؟!؟
ـ أجل، هو كان يشتُمها، وحصَلَ أنّه كان يصفَعُها إذا هي ناقشَته أو تأخّرَت عن تلبية طلباته. تأكّدتُ مِن تلك الأخبار لدى جيرانه الذين لَم تتعرّفي عليهم لأنّهم انتقَلوا إلى مسكن آخَر. عليكِ تركَه وبأسرَع وقت وإلّا لاقَيتِ مصير أمّه.
ـ يا إلهي... ما هذا الوحش! هو لن يقبَل بأن أتركه... يا إلهي... لو ترَين كيف ينظُر إليّ عندما يغضَب منّي! أنا خائفة يا شيرين!
ـ لا تخافي. لا تقولي له شيئًا عن الذي عرَفتِه أو أنّكِ تُريدين تَركه، بل تحجّجي على عدّة أيّام بألَم في أسنانكِ، وخُذي موعدًا مِن طبيب خلال تواجد باسم في عمَله. وعندما تخرجين مِن البيت، تأتين إليّ مُباشرة، وسأكون بانتظاركِ.
ـ شكرًا يا صديقتي.
ـ هذا أقلّ مِن ما بإمكاني فعله بعد أن دبَّرتُ لكِ هذه الزيجة التعيسة!
بدأتُ أدّعي بأنّ أسناني تؤلمُني كثيرًا، ومثَّلتُ الدور بمهارة لأنّني كنتُ أُدرك أنّ ما قالَته شيرين عن باسم هو حقيقيّ، وقد أبقى سجينته إلى الأبد. وفي آخِر المطاف، هو قبِلَ أن أذهب إلى طبيب الأسنان، لكن فقط برفقته!
- يا إلهي، ماذا أفعَل؟؟؟
يتبع...