حين فقَدتُ بصَري...

يوم قالَ لي الطبيب إنّني سأفقدُ بصري في وقت قريب، شعرتُ أنّ الدنيا تتواطأ ضدّي. فلماذا أنا؟ أنا الذي لطالما كنتُ رجُلًا صالِحًا أفعَل الخير مِن حولي وأُطعِمُ اليتيم والأرملة؟ أهكذا يُكافئني الله؟!؟ إمتلأ قلبي بالغضب، وفعلَت زوجتي جهدها لتهدئتي وتطميني، واعدة بأنّها ستبقى إلى جانبي وتُساعدُني في أوقاتي الصعبة القادِمة. مِن حسن حظّي أنّ ابني كان قد أنهى دراسته الجامعيّة وبدأ العمَل، وإلّا كيف كنّا سنعيش مِن دون راتبي، فمَن سيُوظِّف كفيفًا؟

سبَب فقداني لبصري كان داء السكّري اللعين الذي ضربَني منذ سنوات، ولَم أتصوّر أنّني سأصِل إلى ذلك الحدّ الخطير، بل خلتُ، كالكثير مِن الناس، أنّني أستطيع السيطرة عليه، حتّى لو لَم أنتبِه بصورة دائمة إلى نسبة السكّر في دمي. كنتُ مُخطئًا، للأسف، وحانَ الوقت لِدفع الثمَن.

بعد فترة مِن الزمَن، لَم أعُد أرى إلا الخيالات، وصرتُ أتعثََّر بالأثاث وأٌفتِّش على أغراض البيت التي خلتُ أنّني أعرِفُ مكانها. ساعدَتني زوجتي وكذلك ابني، إلى أن غرقِتُ في الظلمة الحالِكة. بكيتُ كثيرًا على نفسي، وزارَني الأقارب والجيران والأصدقاء... إلى حين اختفوا كلّهم. فلا أحَد يُريدُ مُجالسة رجُل كفيف وبائس، ولا أحَد يُريدُ أن يرى أمامه ما قد يحدث له في يوم مِن الأيّام ولو لأسباب أخرى. بقيتُ سجين بيتي، أستمِع إلى الراديو مِن وقت لآخَر وإلى صوت التلفاز، وأتخايَل الصوَر التي تأتي مِن تلك الأصوات. غرِقتُ بالكآبة وتمنَّيتُ الموت لأرتاح مِمّا أسمَيتُه ذُلّي. فهكذا شعرتُ، بالإذلال والعجز، ولَم أتمنَّ لأحَد أن يفقِدَ بصَره يومًا.

مِن حسن حظّي أنّني كنتُ زوجًا وأبًا، وإلّا تصوّروا حالتي! شكرتُ ربّي أنّني لَم أكن لوحدي في محنتي... إلى حين بدأَت تلك الأحداث.

في البداية، كانت هناك همسات بين زوجتي وابني ردَدتُها أوّلًا لعدَم رغبتهما بإزعاجي، خاصّة حين كنتُ أرتاح أو نائمًا في السرير أو على الأريكة. لكنّ تلك الهمسات كانت تتوقّف عند أوّل حركة لي أو سؤال عمّا يُحكى. وكان الجواب دائمًا: "لا شيء... لا عليك". لكنّ المكفوف يبدأ مع الوقت بسماع ما لا يسمعه الانسان الصحيح، فبالرّغم مِن صوتهما الخافِت جدًّا، صِرتُ أسمَع ما يدور:

ـ هل تظنّين يا ماما أنّه يشكّ بشيء؟

 

ـ لا، أنظر إليه، هو في عالم ثانٍ.

 

ـ هل بإمكانه أن يستعيد بصره يومًا؟ فستكون مُصيبة بالفعل!

 

ـ قال الأطبّاء إنّ حالته دائمة، مِمّا تخاف؟ فأنا إلى جانبكَ، بل كانت تلك فكرتي أنا.

 

عمّا يتكلّمان؟ ما الذي قد أشكّ به؟ لكن كيف لي أن أعلَم ما يدور عندما يكون الشخصان اللذان سلَّمتُ حياتي لهما مُتواطِئَين؟ مَن أسأل وإلى مَن ألتجئ؟ قرّرتُ أن أدّعي عدَم الانتباه إلى شيء إلى حين أعلَم المزيد. آه... يا لَيتني انتبَهتُ لصحّتي بشكل أفضل، لَما صِرتُ عاجِزًا وضعيفًا هكذا!

بعد حين، لَم يعُد يزورُنا أحَد على الاطلاق، أعني هؤلاء الذين كانوا يمرّوا بنا مِن وقت لآخَر للسؤال عنّي ليُريحوا ضميرهم. فالحقيقة أنّني مثل ابني كنتُ ولَدًا وحيدًا وماتَ والدايَ منذ فترة، وكلّ الذين تبقّوا لي كانوا أقارب بعيدين وأصدقاء قليلين وبعض الزملاء. وها هم اختفوا كلّيًّا!

بقيتُ على يقظة للذي يدور، إلى حين جاءَت إحدى الجارات لتُعطي زوجتي إناءً استعارَته منذ فترة، وسمعتُها تقول لها:

ـ لماذا ترتدين الأسوَد؟

 

ـ مِن غير سبَب... أحبَبتُ هذه الملابس اليوم.

 

ـ لكنّني أراكِ باللون الأسود منذ مدّة، ما الأمر؟

 

ـ أقولُ لكِ إنّ ليس هناك مِن سبب!

 

وأقفلَت زوجتي الباب في وجهها بغضب. هل يُعقَل أن يكون قد ماتَ أحَد المُقرّبين لي وكتمَت زوجتي وابني الخبَر عنّي لعدَم إحزاني؟ لكن مَن يكون ذلك الفقيد الذي سيؤذيني خبَر وفاته؟ لَم يأتِ أحَد ببالي، لكنّني ارتَحت لتلك الفكرة أكثر مِن فكرة التآمر. غريب عقل الانسان، إذ يخطر ببالنا ما هو سيّء أوّلًا في حين تكون الأمور بغاية البساطة!

وفي إحدى المرّات، سمِعتُ ابني وهو يتكلّم على الهاتف ويقول: "أجل، كان رجُلًا صالِحًا وفقدانه مُصيبة كبيرة.". مَن هو ذلك الذي أثَّرَ موته على ابني لهذه الدرجة؟ أحَد أولاد عمّي؟ لكنّهم ماتوا أو سافروا وانقطعَت أخبارهم منذ زمَن، لِذا سألتُ زوجتي وابني عمَّن مات. سادَ سكوت طالَ أكثر مِن اللازم، فتابعَتُ قائلًا: "أعرِفُ أنّ أحدًا قد مات، وأريدُ أن أعرف مَن هو!".

نكَرا الأمر بشدّة، واتّهماني بأنّني أفقِدُ عقلي، وتحسّرَت زوجتي على ذكائي المعهود الذي بدأ يتلاشى بسبب داء السكّري والعمر. ماذا؟!؟ عقلي يزِن بلَدًا ولستُ خرِفًا على الاطلاق! ولشدّة غضبي، إمتنَعتُ عن الكلام لأيّام، لأُعبِّر عن استنكاري لاعتباري خرِفًا أو غبيًّا. لكنّ الأمر لَم يُزعِج أهل البيت، بل أراحَهما وتصرّفا وكأنّني غير موجود، الأمر الذي أحزَنَني إذ أنّني استوعَبتُ أنّ لا منفعة لي عندهما.

وحين عدتُ عن امتناعي عن الكلام، عدتُ أسأل مَن مات، كلّ يوم، وكلّ ساعة، فكان مِن حقّي أن أعلَم، حتّى لو تسبَّبَ لي ذلك بالحزن، ففي آخِر المطاف، لَم أكن ولَدًا صغيرًا وباستطاعتي استيعاب خبَر سيّء! وحين طفَحَ كَيل زوجتي، صرخَت بي:

ـ أنتَ!

 

ـ ماذا أنا؟

 

ـ أنتَ مُتَّ!

 

ـ كيف وأنا أمامكِ؟

 

ـ أنتَ مُتَّ بالنسبة للأقارِب والحكومة!

 

ـ لستُ أفهَم شيئًا! وضِّحي ما تقصدينه!

 

ـ حسنًا... لقد ماتَت عمّتكَ التي في البرازيل، والثروة التي تركَتها هي هائلة حتّى بعد أن قُسِّمَت على الورَثة.

 

ـ إذًا هي التي ماتَت وليس أنا!

 

ـ بل الاثنان!

 

ـ هي ماتَت، وأنا لا!

 

ـ قُلنا إنّكَ مُتَّ... رشَونا طبيبًا، فكتَبَ لنا شهادة وفاة وقدّمناها لدائرة النفوس، وصِرتَ ميّتًا رسميًّا.

 

ـ لماذا؟!؟ لماذا فعَلتُما ذلك؟

 

ـ لنقبضَ حصّتكَ... ماذا ستفعل بها؟ فأنتَ جالسٌ على الأريكة طوال اليوم ونائم في سريركَ ليلًا. أنا وابنكَ أحَقّ منكَ بالمال!

 

ـ لكنّ الأمر سيّان، أنا أم أنتما! هل يجب أن أموتَ لتحصلا على المال؟

 

ـ نعرفُكَ تمامًا، فلو قبضتَ المال، ستوزِّعه على الفقراء والمساكين ولن يبقى لنا شيء.

 

ـ لا أصدِّق ما أسمعُه... تلبسين الأسود وابني يتحسَّر عليّ أمام معارفه... مِن أجل المال؟

 

ـ أجل! فنحن أصحّاء ونستحقّ أن نعيش بثراء! لا يهمُّني هؤلاء المساكين!

 

ـ تلبسين عليّ الأسود يا زوجتي العزيزة؟ أين حبّكِ لي؟

 

ـ أحِبّ رجُلًا كفيفًا وعاجِزًا؟ أنتَ تمزَح! أريدُ أن أعيش! أسمَع، إيّاكَ أن تفشي أمرنا، فلا تنسَ أنّكَ ميّتٌ في نظَر الناس والحكومة ولن يفتقدُكَ أحَد!

 

سكتُّ بعد أن فهِمتُ التهديد، واستوعَبتُ أنّ زوجتي وابني لا يُحبّاني، بل يعتبراني رجُلًا مُنتهيًا يستحِقّ أن يكون ميّتًا. إنتظرتُ بفارغ الصّبر موعدي عند الطبيب، أيّ بعد حوالي الشهر، لأقولَ له همسًا حين كان يفحصُني وراء الستار الذي يفصلُ بيننا وبين زوجتي في العيادة: "أريدُكَ أن تطلب الشرطة، فزوجتي وابني سجّلاني رسميًّا ميّتًا. لكن إفعَل ذلك بسرّية التامّة، فقد أُقتَل إن علِما بالأمر". تحجَّجَ الطبيب بأنّ عليه إدخالي المشفى لأنّ حالتي تستدعي ذلك، وأخذوني ليس إلى غرفة، بل إلى قاعة مُخصّصة للاجتماعات. إنتظرتُ هناك حوالي الساعة حين دخَلَ مُحقِّق وأخَذَ أقوالي وبصماتي ليتحقَّق مِن هويّتي. بعد أقلّ مِن ساعة، كانت زوجتي وابنها في قسم الشرطة.

أسقطُُّ حقّي في ما يخصّ الشكوى ضدّهما، لكنّ العدالة حكمَت عليهما بالسجن مع وقف التنفيذ لأنّ سجلّهما كان نظيفًا، ومُنِعا مِن الاقتراب منّي والتعاطي معي. أضافَ القاضي يوم إصدار الحكم أنّه لو حصَلَ لي مكروه فستُلقى التهمة عليهما. وإلى حين أُعيدَت الأموال إليّ، عشتُ لفترة في دار مُخصّص للمكفوفين، ثمّ رحتُ إلى بيت اشترَيتُه مِن الميراث، برفقة عامِلة تبقى معي على مدار الساعة. وكما توقّعَت زوجتي، وزَّعتُ مبالِغ كبيرة على المُحتاجين، لكنّني لَم أعطِ قرشًا واحِدًا لهذَين الماكِرَين!

اليوم أعيشُ مُرتاحًا مع تلك العامِلة التي تهتمُّ جيّدًا بي، وعلِمتُ أنّ زوجتي تسكنُ مع ابنها في شقّة صغيرة ويعيشان مِن راتبه فقط. ألَم يكن مِن الأفضل لهما لو قبَضتُ الميراث مُباشرةً وتقاسمتُه معهما وفعلتُ الخَير أيضًا مِن حولي؟ لماذا الطمَع؟؟؟

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button