بالطبع وجدتُ غريبًا أن تسكن عمّتي في طابق لوحدها، وأخوها العازب في الطابق الأسفل، في حين سكنّا نحن في الطابق الأرضيّ. لَم أسأل عن الأمر، فكان مِن الواضح أنّ الموضوع شائك و"لا يخصّ الأولاد بل الكبار" أو هكذا قيلَ لي. تباحثتُ مع أخوَتي عن الأمر ولَم نصل إلى نتيجة فنسينا الموضوع برمّته. خاصّة أنّه كان مِن النادر أن نرى أيًّا مِن عمّتي أو عمّي عندنا في البيت، وإن زرناهما، كان ذلك كلّ واحد في طابقه. ومع الوقت نسيتُ تقريبًا أمرهما بالرّغم مِن قربهما السكنيّ لنا.
مرَّت السنوات وكبرَ الجميع وتزوّجَ العزّاب... ما عدا عمّتي وعمّي. كنتُ قد وجدتُ الحبّ أنا الأخرى وتقدّمَ لي جاد حبيبي، وتمَّت الموافقة عليه مِن قِبَل والدَيّ. إلا أنّه عادَ وغيَّر رأيه فتركَني مِن دون تفسير أو تبرير. أُصبتُ بصدمة كبيرة ولَم يستطِع أحد التخفيف مِن وطأة ما حدَث. حاولتُ طبعًا التكلّم مع جاد لمعرفة ما الذي اقترفتُه كي يتركني هكذا، إلا أنّه حظرَني على هاتفه.
وحده أبي بقيَ صامتًا بالنسبة لِما حصَلَ، وهو لَم يُحاول التخفيف عنّي بل اكتفى بالقول: "لكلّ فعل تردّداته". لَم أفهَم ما قصدَه، كما كنتُ مشغولة بالبكاء والتحسّر على نفسي.
ثمّ قرّرتُ زيارة أمّ جاد، فهي كانت تُحبُّني كثيرًا، أو على الأقلّ أحبَّتني حين كنتُ موعودة لإبنها. وعندما فتحَت لي، بان الإمتعاض على وجهها وبالكاد دعَتني للدخول. جلستُ صامتة قبالتها ثمّ قلتُ لها بصوت يرتجف:
ـ جئتُ لأفهَم ما الذي حدَث، هل يجوز أن يقطع إبنكِ علاقته بي مِن دون سابق إنذار؟ ما الذي فعلتُه له أو لكِ؟ وهل بنات الناس لعبة لدَيكم؟
ـ بالطبع لا... إبني قطعَ علاقته بكِ بأمر منّي.
ـ ماذا؟!؟ ولِما؟
ـ إسألي أباكِ يا عزيزتي، إسأليه وهو سيُعطيكِ الجواب. الآن إرحلي مِن فضلكِ ولا تعودي.
تمّ طردي مِن بيت الذي كان سيكون زوجي، فرحَلتُ باكية. ورأيتُ نظرة إنتصار في عَينَي تلك السيّدة قبل أن تُقفل الباب ورائي. وبالطبع قصدتُ والدي في مكتبه، فلَم أستطع الأنتظار حتى يعود إلى البيت مساءً. أخبرتُه بما قالَته لي أمّ جاد وهو سكتَ مُطوّلاً ثمّ قال لي:
ـ سألتِني مرارًا في ما مضى عن اللغز الذي حملَ عمّتكِ على العَيش لوحدها وكذلك عمّكِ، مع أنّهما عازبان، ولِما هما لا يُكلّمان بعضهما.
ـ صحيح يا أبي ولكن ما دَخل...
ـ وكان بالطبع بمقدورنا إستقبال عمّتكِ في بيتنا بدلاً مِن تركها لوحدها.
ـ أيضًا صحيح وأظنّ أنّ هناك خلافًا بينكما جميعًا.
ـ خلاف كبير يا حبيبتي... فعمّتكِ إنسانة سيّئة للغاية.
ـ ما هذا الكلام! إنّها لا تُبارحُ منزلها ولا يأتي أيّ زائر إليها.
ـ السّوء لا يعني قلّة الأخلاق بل الشرّ الموجود في رأس الإنسان، وكيف يتبلوَر ليصير أفعالاً.
ـ أرجوكَ يا أبي، تكلّم!
ـ حسنًا... عمّتكِ عمِلَت جهدها كي لا يتزوّج عمّكِ مِن أمّ خطيبكِ.
ـ ماذا؟!؟
ـ حصَلَ ذلك منذ زمَن طويل... قبَل أن يتزوّج أيّ مِن أمّ جاد أو حتى أنا. آنذاك حاكَت عمّتكِ مكيدة مُحكمة لإفشال تلك الزيجة.
ـ لكن لماذا؟
ـ لإبقاء سيطرتها على أخيها الصغير، فهو كان لعبتها مذ وُلِدَ، وكان أيضًا يصرفُ عليها ويأتي لها بكلّ ما تتمنّاه. ومنذ تلقّى أخي المسكين الصّدمة، إنتقَلَ للعيش لوحده في طابق آخر مِن المبنى الذي ورثناه مِن أبوَينا رحمهما الله. وقفتُ إلى جانب أخي ضدّ أختي ولا أزال حتى اليوم.
ـ يا إلهي... لكن لماذا وافقتَ يا أبي على خطوبتي وأنتَ تعلم مَن يكون جاد؟
ـ لأنّني لَم أعرف أنّه إبن تلك المرأة، فهي بزواجها مِن رجُل آخَر، حملَت شهرته. وكيف لي أن أتصوّر أن يحدث ذلك، خاصّة أنّني علِمتُ أنّ حبيبة أخي إنتقلَت وأهلها إلى منطقة بعيدة فور إنفصالهما.
ـ وكيف عرفتَ أنّه هو؟
ـ للحقيقة، أمّه إتّصلَت بي بعد أن تركَكِ جاد... وتباهَت بالذي فعلَته للإنتقام.
ـ وما ذنبي أنا؟!؟
ـ هذا ما قلتُه لها حرفيًّا، لكنّها لَم تأسف على ما فعلَته بكما بل العكس.
ـ يا للمرأة الشرّيرة!
ـ إنّها ضحيّة أوّلاً.
ـ كانت ضحيّة قبل أن تُقرِّر الإنتقام. وهل يعلم إبنها الحقيقة؟
ـ لستُ أدري يا إبنتي.
ـ سأعرفُ كلّ ما أُريدُ معرفته! سترى!
ـ أنا آسف يا صغيرتي لِما حصَلَ لكِ... فلكلّ فعل ردّة فعل.
ـ لا يا أبي... بل الإنسان هو الذي يفتعِل الأمور.
ورحتُ مرّة أخرى أدقُّ باب التي كانت ستصبح حماتي، ورأيتُها تبتسم حين فتحَت لي. إبتسامتها كانت مُستهزئة، فهي إستنتجَت أنّني تحدّثتُ مع أبي في الموضوع. لَم أنتظِر حتى تدعوني للدخول، بل أزحتُها بقوّة جانبًا ورحتُ أجلسُ على أريكة الصالون. وقلتُ لها حين وافَتني:
ـ أنتِ عانَيتِ كثيرًا حين فصلَت عمّتي بينكِ وبين حبيبكِ. نعم، عانَيتِ كفاية لِتحملي ضغينتكِ أكثر مِن خمس وعشرين سنة في قلبكِ. وها أنتِ تفعلين الشيء نفسه بإبنكِ وبي. عمّي لا يزالُ عازبًا حتى اليوم وهو لا يُكلّم أخته. وقد يبقى إبنكِ عازبًا ويقطع علاقته بكِ هو الآخر.
ـ لا يا عزيزتي، فأنا قلتُ له إنّكِ صبيّة قليلة الأخلاق، وإنّكِ تواعدين شبّانًا عديدين في الوقت نفسه.
ـ لا بدّ للحقيقة أن تظهر... أو بإمكاني إطلاعه على كلّ شيء.
ـ لن يُصدّقكِ.
ـ سنرى ذلك. وكوني على يقين أنّكِ ستخسرينه إلى الأبد. أنتِ فعلتِ تمامًا كهؤلاء الذين يُعنَّفون جسديًّا مِن قِبَل أهلهم وهم صغار، ومِن ثمّ يُعنِّفون بدورهم أولادهم...أيّ أنّ الضحيّة تنقلِب إلى جلاد. كنتُ أعتقِد أنّكِ سيّدة مُثقّفة وعصريّة، وإذ بكِ إنسانة غاضبة وحاقدة وأنانيّة. تعلمين كمّ كان إبنكِ سعيدًا معي، وبالرّغم مِن ذلك لَم تتردّدي في تدمير سعادته. يا لكِ مِن أمّ مُحِبّة!
ـ لن أسمحَ له بالزواج مِن إبنة أخ تلك الأفعى.
ـ الأفاعي تعرفُ بعضها. قولي لي... متى علِمتِ مَن أكون؟
ـ منذ البدء!
ـ وسكتِّ طوال سنة بكاملها واستقبلتِني في بيتكِ... وترقّبتِ اللحظة المؤاتية لإحداث أكبر قدر مِن الإساءة.
ـ أجل!
ـ أنصحُكِ بالمُعالَجة النفسيّة... فمِن الواضح أنّكِ مريضة. إسمعي، بعد أن علِمتُ سبب إنفصال إبنكِ عنّي لَم أعُد أُبالي. فقد إرتاحَ بالي لأنّني لَم أقترِف أي خطأ بحقّه ولأنّه شابّ سخيف وسطحيّ، لأنّه لَم يُحاول معرفة صحّة ما قلتِه له بل صدّقكِ على الفور.
ـ إنّه ولد مُطيع بالفعل.
ـ هنيئًأ لكِ به إذًا! أنا مُتأكّدة مِن أنّني، بعد وقت، سأجدُ الحبّ مُجدّدًا وسأنسى وجودكما بالكامل... لكن بعد أن نفّذتِ ما في رأسكِ، ما هي الخطوة التالية؟ لا شيء. ستبقى المرارة في قلبكِ، فلا شيء يمحو الإساءة سوى التسامح. وداعًا.
وأوّل شيء فعلتُه بعد خروجي مِن بيت تلك العقربة، هو أنّني قصدتُ صديق خطيبي السابق الذي كان مُقرّبًا جدًّا منه. شرحتُ له حقيقة ما حصل، وطلبتُ منه نقل كامل القصّة إلى جاد لأنقذ سُمعتي. وعرفتُ مِن ذلك الصديق أنّ الذي أحبَبتُه نشَرَ خبر قلّة أخلاقي بين معارفه ليُبرّر لهم تركه لي.
وبعد أسبوع بالتّمام، أزال جاد حظره لي على الهاتف، وبعثَ لي رسالة يعتذرُ فيها بشدّة. هو واجَه أمّه التي إعترفَت له بفخر بالذي فعلَته. لكنّني طبعًا لَم أقبَل به مجدّدًا، فتخلّيه عنّي بسرعة كان ينمّ عن قلّة حبّ وثقة. لكنّني طلبتُ منه أن يُسامح أمّه على فعلتها، ليس مِن أجلها بل مِن أجله هو، كي لا يحمل الحقد في قلبه كما حدَثَ لها. إلا أنّني علِمتُ لاحقًّا أنّه سافَرَ بعيدًا بعد أن وجَدَ عمَلاً في الغربة.
حاولتُ حَمل عمّي على نسيان الماضي والتقرّب مِن أخته، لكن مِن دون جدوى. كان الجرح عميقًا ولا يُداوى. كلّمتُ أيضًا عمّتي بعد أن أخبرتُها بما حصل بسببها وهي أسِفَت كثيرًا لِما عانَيتُه. كان مِن الواضح أنّها نادمة للفصل بين أخيها وحبيبته.
كلّ ذلك الدمار! وهل الحياة، التي هي بالفعل قصيرة، تتحمّل أنّ نُدمّر جزءًا منها لا بَل كاملها مِن أجل غايات شخصيّة وأنانيّة؟ قد يُخطئ المرء لأسباب خاصّة به، لكن علينا إجتياز تداعيات ذلك الخطأ، بالنظَر أمامنا وليس خلفنا وإلا علِقنا في الزمَن واحترقنا في نار الإنتقام. ماذا ربحَت فعلاً أمّ جاد؟ لا شيء بل خسِرَت إبنها بعدما حطّمَت قلبه. وقلبها هي الأخرى تحطّمَ بعد أن كرهَها وحيدها. أمّا أنا، فكما تصوّرتُ، وجدتُ حبيبًا آخر وتزوّجنا وأنجبنا. فهكذا هي الحياة: نقَع، نتألّم، نقِف مجدّدًا... ونُكمِل طريقنا!
حاورتها بولا جهشان