كم من مرّة ظلمنا أشخاصاً فقط لأننا لا نستلطفهم أو لأنّهم ضعفاء أو حتى لأنّنا لم نتعرّف عليهم جيّداً؟ وكم من مرّة دفع هؤلاء الثمن لأنّ ليس لديهم من يقف إلى جانبهم؟ أعترفُ اليوم بأنني سببتُ الأذى لشخص بريء فقط لكي لا أخسر صداقة فتاة شرّيرة.
حصل هذا منذ سنين عدّة، عندما كنتُ ما زلتُ في الجامعة وكانت حياتي تقتصر على الدرس وملاقاة أصدقائي والمرح معهم. كنتُ قليلة الخبرة وكنتُ متأثّرة كثيراً بصديقة لي إسمها علياء، لأنّها كانت جميلة وتتحلّى بشخصيّة قويّة وبشعبيّة واسعة وفي قرارة نفسي كنتُ أتمنّى لو أكون مثلها. لهذا كنتُ دائماً برفقتها، أقلّد حركاتها ومشيتها ومعظم تصرّفاتها. وكان هناك ثريّا، إمرأة في الأربعين من عمرها، تعمل في مقهى الجامعة. كانت لطيفة جداً وخاصة معي لأنني كنتُ أبتسم لها وأحيّيها وأشكرها على تنظيف طاولتنا. ولكن علياء لم تكن تستلطفها، ربما بسبب حالتها الإجتماعيّة، فصديقتي لم تكن تحب الفقراء، لأنهم بنظرها أناس كسولين ومزعجين. لم أكن من رأيها طبعاً، فإن كنّا محظوظين لأننا ولدنا في عائلة ثريّة فهذا لا يعني أنّ الباقون لا يستحقّون إحترامنا وتقديرنا ولطفنا.
وبسبب تصرّفات زميلتي مع هذه العاملة، نتج جوّاً من التشنّج بينهنّ لاحظه الجميع وأصبح موضع سخرية بين التلامذة. وفي يوم من الأيّام أخذتني علياء على حدىً وقالت لي:
- سئمتُ من قلّة إحترام هذه البائسة وسألقّنها درساً لن تنساه أبداً. إنّها لا تعلم ما يمكنني فعله! عندما أغمزكِ إفعلي مثلي وأكدّي أقوالي وإلا لن تكوني صديقتي بعد الآن!
وتوجّهنا إلى الكافيتيريا وطلبنا أكلاً وشرباً وجاءت ثريّا لتنظّف الطاولة كالعادة بعد إنتهائنا. وبعد دقائق، بدَت علياء وكأنَها تبحث عن شيء ما ثم صرخَت: "أين محفظتي؟"
وغمزَتني وبدأتُ أفتّش معها على الأرض وبين المقاعد. وعندما لم نجد شيئاً، إستدعَت ثريّا وقالت لها:
- أنتِ التي أخذتِ محفظتي! أعيديها لي الآن!
- ولكنني يا آنستي لم آخذ شيئاً! لا بدّ أنّكِ أضعتيها في مكان آخر.
- تقولين أنني كاذبة؟ كانت هنا على الطاولة وسرقتيها عندما جئتِ لتأخذي الصحون. صديقتي قالَت لي أنَها رأتكِ تفعلين هذا!
ونظرَت إليّ وفهمتُ أنّها تقصدُني وتنتظر منّي مجاراتها في كذبتها كما كانت قد طلبَت منّي. لكنني تلبّكتُ ولم أعد أعلم ماذا أقول، فهل يُعقل أن أتّهم المرأة زوراً؟ وتُرجِم سكوتي وكأنه إتّهاماً. وركضَ الجميع بما فيهم صاحب المقهى عند صراخ علياء ونظروا إلى الموظفّة المسكينة وكأنها سارقة. أردتُ التكلّم وفضح صديقتي ولكنني لم أجرؤ على فعل هذا فكنتُ صغيرة في السن وأولويّاتي كانت الحفاظ على صداقاتي في الجامعة. وحدثَ ما لم نتوقّعه أي تمّ إستدعاء الشرطة ولم نعد قادرتَين على الإعتراف بأنّها كذبة تهدف لتلقين درس لهذه المسكينة. وبعد أن فتّشوا أمتعتها، أخذوها إلى القسم للإستجواب. وبما أنّها لم تعترف أبقوها ليلة بكاملها هناك. في هذه الأثناء كنتُ بحالة يُرثى لها. كذبتنا إنقَلبت إلى مصيبة كبيرة أودَت بإمرأة بريئة إلى السجن. مسكتُ علياء بذراعها وصرختُ بها:
- سنذهب الآن إلى مدير الكليّة ونقول له الحقيقة. هيّا!
- أبداً! وإيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة واحدة وإلا أوقعتينا بورطة كبيرة.
- ورطة؟ لن تكون بحجم التي تنتظر ثريّا. أنا ذاهبة لوحدي إذاً!
- ستندمين...
- لن أندم على شيء، سوى أنني ضعفتُ أمام الحق ولحقتُ شرّكِ. لا أريد صديقة مثلكِ.
ولأنّ علياء لم تعترف بشيء، أخذتُ كل اللوم على عاتقي وفُكّ صراح العاملة المظلومة. وطُردتُ من الجامعة وعوقبتُ من قِبَل أهلي ولكن بداخلي كنتُ راضية بعقوبتي. لم يحصل شيئاً لعلياء وإستمرَّت بممارسة الرعب حولها وقيل لي أنّها وجدَت بسرعة "صديقة" أخرى. بقيتُ في البيت حتى السنة التي تلَت، لأدخل كليّة أخرى وإختصاص آخر لم أكن أحبّه وهكذا تغيّر المسار الذي رسمتُه لمستقبلي.
ولكن كان هناك شيئاً عليّ فعله قبل أن أمضي بحياتي وهو الإعتذار من ثريّا. فذهبتُ إلى مدخل الجامعة قرابة إقفال الكافيتيريا وإنتظرتُ خروجها. عندما رأتني حاولَت تغيير وجهتها ولكنني لحقتُ بها:
- إسمعي ما لديّ لأقوله ومن بعدها إذهبي... أرجوكِ...
- تفضلّي...
- ثريّا... لو تعلمين كم أنا آسفة ونادمة على ما حصل... ذهبتُ إلى المدير وأصلحتُ الأمور... وطُردتُ من الكلّية وفقدتُ أصدقائي...
- أنا على علم بما فعلتيه... ولن أشكركِ فأنا فقدتُ سمعتي... فبالرغم من أنني إستعدتُ عملي في الكافيتيريا بقيَ الجميع يشكَ بي ويخبّىء أمتعته عنّي وكل ما فُقدَ شيء أسمعهم يقولون "ُثريّا أخذته حتماً". أنتِ ما زلتِ شابة ويمكنكِ بكل سهولة أيجاد كلّية أخرى وأصدقاء جدد ولكن كيف أستعيد سمعتي؟ كنتُ أعتقد أنّكِ فتاة طيّبة ولكنني كنتُ على خطأ... لا أريد أن أراكِ بعد الآن.
وقفتُ أبكي كالطفلة في وسط الطريق ومشيتُ لساعات في شوارع المدينة وعندما عدتُ إلى البيت صرختُ لأهلي:
-أعلم الآن أي إختصاص أختار! سأصبح محامية لأدافع عن الذين ليس لديهم أحد.
وأصبحتُ محامية معروفة بحبّي للمظلومين وكلّما إنتابني التعب أو اليأس أو أوشكُ أن أستسلم، أفكّر بثريّا فأستعيد قوّتي وأتابع رسالتي.
حاورتها بولا جهشان