حياة جديدة... قبل الموت

مشهد أمّي وهي تذوبُ أمامَ عينَيّ بسبب مرضها الخبيث لن يمحى مِن ذهني، وأذكرُ تمامًا ما قلتُه يوم وفاتها لمَن حولي: "إن أُصِبتُ بهكذا مرَض، فلَن أعبأ بالخضوع إلى أيّ علاج، فهو مؤلم أكثر مِن المرض نفسه بكثير!". لَم أكن أعلَم حينها أنّني سأجدُ نفسي في الموقف نفسه بعد سنوات. فمَع أنّني كنتُ أعلمُ أنّ داء السرطان يكون غالبًا وراثيًّا، إلا أنّني كنتُ آنذاك صبيّة مُفعمة بالصحّة والحيويّة وأعتقدُ، كشأن كلّ بنات وأبناء سنّي، أنّني لا أُقهَر. تزوّجتُ مِن الذي أحببتُه وبنَيتُ معه عائلة جميلة وتعِبتُ معه في السنوات الأولى لِنبلغ حدًّا مِن الراحة لا بأس به. كنتُ سأتمتّع أخيرًا بخيرات الدنيا بعدما تخرّجَ كلّ أولادي مِن الجامعة وبدأوا بالعمل. أمّا بالنسبة لخليل زوجي، فهو كان رجلاً هادئًا يقسمُ وقته بين العمَل وعائلته. للحقيقة لَم يحصل أن تشاجرنا ولو مرّة، فهو كان يتركُ لي حريّة التصرّف فيما يتعلّق بالبيت والأولاد ويثقُ بحسن ادارتي للأمور. زيجة موفّقة وأولاد يُرفَع الرأس بهم، أي في كلمة، كانت لي الحياة التي يحلمُ بها الكثيرون. لكنُ صفوَ سعادتي عكّرَه فحصٌ روتينيٌّ أجريتُه سنويًّا، فجاء به أنّني قد أكون أحملُ في ثدّي ورمًا شخّصوه بأنّه خبيثٌ استنادًا لتاريخ أمّي الصحّيّ الحافل لدرجة أنّ الطبيب لَم يُكمِل تشخيصه بفحوصات أخرى بل بشّرَني على الفور بأنّني سأحتاج لعلاج كيمائيّ قاسيّ.

وقَعَ عليّ الخبر كالصاعقة، فكنتُ حتى ذلك الحين قد نسيتُ أمر ذلك الداء الرهيب واعتقدتُ أنّ قدري لن يكون مُشابهًا لِقدر والدتي المسكينة. لِما أنا بالذات وليس أخواتي؟ هل لأنّني وجدتُ السعادة خلافًا لهنَّ؟ هل هذا يعني أنّ الانسان لا يستحقّ أن يحصل على كلّ شيء؟!؟ إنتابَني غضبٌ كبير عند قراءة التقرير الطبّيّ فبدأتُ برمي أرضًا كلّ الأغراض مِن حولي والصراخ في آن واحد وكأنّني أنتقمُ مِن عدوّ غير مرئيّ.

في المساء، عادَ خليل وزفَّيتُ له الخبر البشع.

 


نظَرَ زوجي إليّ بحزن شديد ثمّ عانقَني قائلاً: "لا تخافي، سنواجه الأمر سويًّا". شكرتُ ربّي على هكذا زوج ونمتُ والدموع قد بلّلَت وسادتي. في الصباح، كنتُ قد أخذتُ قراري: لن أخضَع لأيّ علاج فلقد رأيتُ كيف تعذّبَت والدتي وانتهى بها المطاف بالموت بعد أن هدَرت سنوات كانت لتستغلّها بالقيام بما تتمنّاه قبل أن تُغادر الحياة. على كلّ الأحوال، على الانسان أن يموت يومًا فما مِن أحد عاشَ للأبد. كنتُ أعلَم أنّ قراري سيُجابَه بالرفض مِن قِبَل عائلتي الذين لن يفهموا دوافعي، ففي آخر المطاف ما يهمُّهم هو رؤيتي أتمتّع بصحّة ممتازة وأن أعيش أكبر قدر مُمكن. لِذا كذبتُ عليهم مُصمّمة الادّعاء بأنّني سأتعالج.

لِذا صرتُ أقول لزوجي وأولادي إنّني أزورُ الطبيب وأخضَع لفحوصات وصوَر، واشترَيتُ حبوب الفيتامينات نزعتُ عنها الملصق وأخبرتُهم بأنّها مُضادة للسرطان. كنتُ مُرتاحة لِما أفعله، ففي النهاية، كنتُ صاحبة القرار بعدما قمتُ بتربية أولادي على أكمل وجه وكبروا ليصبحوا مُستقلّين، وخدمتُ زوجي وأعطَيتُه الحنان والاهتمام وبيتًا جميلاً ونظيفًا. جسدي هو لي ولا شأن لأحد بذلك.

لحسن حظّي أنّ لا أحد سألَني لماذا لا يتساقط شعري بعد الجلسات الكيمائيّة الوهميّة التي كنتُ أدَّعي الخضوع لها لِذا مضيتُ قدمًا في كذبي بسهولة. في تلك الأثناء، صرتُ ارتدي الملابس التي لطالما أردتُها وغيّرتُ لون شعري وتسجّلتُ في مدرسة لتعليم رقص الصالونات، الأمر الذي لطالما حلمتُ به لكنّني بقيتُ أؤجّله بسبب تعليقات عائلتي بهذا الشأن. وفي غضون أسابيع صرتُ انسانة ثانية، ليس فقط بالشكل بل بالجوهر، حسب قول صديقاتي الّوات صرتُ ألتقي بهنّ بشكل أسبوعيّ وليس مرّات قليلة في السنة كما في السابق.

طلبتُ مِن خليل أن نذهب سويًّا إلى احدى الجزر الجميلة اليونانيّة، فلَم نُسافر يومًا حتى في شهر عسلنا، بسبب قصر المال ولاحقًا انشغاله بعمله أو توفيرًا لأقساط الأولاد. تعجّبَ خليل لكنّه لَم يرفض لي طلبي بل اعتذر عن امكانيّة مُرافقتي بسبب عمله. لِذا قرّرتُ السفر لوحدي.

ماذا أُخبركُم عن سفري؟ للحقيقة، أمضيتُ أسبوعًا خياليًّا لَم أتصوّره بهذا الجمال. كيف لَم أسافِر مِن قبل؟؟؟ ويا لَيتني أبقى في ذلك المكان الرائع، لكن كان عليّ العودة. إشترَيتُ التذكارات للجميع ورجعتُ مُخزّنة ذكريات جميلة في رأسي لأستعملها حين يقوى المرض عليّ وأبدأ بالتألّم.

فور عودتي، بعتُ بعض الحلى القديمة واشترَيتُ لنفسي سيّارة، فحتى ذلك الحين، ومع أنّني أملكُ رخصة قيادة، كنتُ أتنقّل مع زوجي أو مع أولادي لاحقًا، فلَم أشأ صرف المال على نفسي لابقائه لأفراد عائلتي. أجل، لقد قضيتُ حوالي خمسة وعشرين سنة أضحّي براحتي وسعادتي وحان الوقت لأنّ أتمتّع قليلاً قبل أن أُغادر الحياة طالما لَم أكن أؤذي أو أظلمُ أحدًا.

مِن جانبهم، كان ذويّ فرحين لي لأنّني بدوتُ لهم حقًّا سعيدة وعندما تكون الزوجة والأم سعيدة يصبح الكلّ سعيد.

دروس الرقص أعطَتني رشاقة كنتُ قد خسرتها بسبب الحمل المُتكرّر والبقاء في المنزل مُعظم الوقت وصارَ لي أصدقاء جدد رافقتُهم إلى مُبارات للرقص اشتركوا هم فيها لأقدمّيتهم عليّ. ونسيتُ بالفعل مرَضي ولَم أعد أُبالي حقًّا بموعد تركي الحياة لأنّني عشتُها مليًّا. فهذا ما هو مهمّ: أن نعيش فعلاً لأنّنا سنُغادر جميعًا هذه الدنيا أجلاً أم عاجلاً.

لكنّ حدثاً مؤلمًا جاء ليُعكّر صفو تلك السعادة: إكتشافي لعلاقة زوجي باحدى زميلاته. رأيتُه يومًا جالسًا في احد المقاهي بصحبتها يوم كنتُ أتسوّق مع صديقة لي. كان خليل ينظرُ لتلك المرأة بإعجاب وحبّ ماسكًا بِيدَها ومُداعبًا شعرها. كدتُ أقَعَ أرضًا لو لَم تمسكني صديقتي وتجرّني بعيدًا مُتمتمة: "الوغد... كلّهم سواء!". إنتظرتُ عودته إلى البيت لأسأله عمّا رأيتُه. هو نكَرَ في البدء ومِن ثمّ قال لي بصوت خافت:

 


ـ السبب هو مرَضكِ.

 

ـ مرَضي؟!؟ وهل شعرتَ بمرَضي يومًا؟ ها أنا امرأة نشيطة ورشيقة لا تُبارح البسمة وجهي! أنا بالفعل أشعرُ وكأنّني بصحّة أفضل مِن قبل، حتى خلال لحظاتنا الحميمة! ما هذا العذر القبيح؟!؟ لو كنتَ المُصاب بالسرطان هل أذهبُ للبحث عن رجل آخر؟!؟ أم أنّكَ تتحضّر منذ الآن لموتي؟!؟

 

ـ لَم أقل ذلك ولكن... فكرة مرضكِ...

 

ـ فكرة مرضي؟!؟ تخونُني لمجرّد فكرة؟!؟ الهذا السبب لَم تُرافقني إلى الجزيرة؟ لتُلاقي عشيقتكَ؟ لا تنكر!

 

ـ أجل.

 

ـ أجل؟!؟ بدلاً مِن أن تكون معي وتواسيني وتُعطيني المزيد مِن القوّة! أريدُكَ أن ترحل في الصباح! لستُ بحاجة إليكَ أيّها الماكر الخائن. أنسيتَ كيف وقفتُ إلى جانبكَ حين لَم يكن لدَيكَ شيء؟!؟ هيّا!

 

تألّمتُ كثيرًا لخيانة خليل لي المجّانيّة بعدما قضَينا سنوات سويًّا. هبطَت معنويّاتي إلى أدنى مستوياتها وشعرتُ بالوحدة العميقة ليس لرحيل زوجي بل لأنّني عشتُ معه مُعتقدةً أنّه سيبقى رجلاً عظيمًا حتى آخر أيّامي.

إحباطي أثَّرَ كثيرًا على أولادي خاصّة ابنتي البكر التي أخذَتني بالقوّة إلى طبيب جديد يُقال عنه إنّه الأفضل، فأجرى لي صورًا جديدة. وعندما زرناه لنعرف منه تشخيصه قال لي:

 

ـ سيّدتي... لَم أرَ أي شيء مُقلِق في الصور... صحيح أنّ هناك كُتلة في ثدّكِ إلا أنّها لَم تكبر عن الصوَر القديمة وشكلها يؤكّد لي أنّها ليست خبيثة.

 

ـ لكن كيف...

 

ـ لا بدّ أنّ الأطبّاء السابقون عوّلوا عن تاريخ والدتكِ. على المريض دائمًا أن يستشير طبيبًا آخرًا للتأكّد مِن حالته فالأخطاء شائعة. أين الفحوصات الأخرى التي أجرَيتِها وما هو العلاج التي اتّبعتيه؟ أرى أنّ شعركِ كثيف وطويل...

 

ـ للحقيقة... لَم أفعَل شيئًا بل تركتُ نفسي أموت.

 

نظَرت ابنتي إليّ بتعجّب وغضب فصرختُ بها:

 

ـ وهذا شأني! هذا جسدي وهذه حياتي! لَم أكن يومًا في هذا الكمّ مِن السعادة ولستُ نادمة على شيء. كذبتُ عليكم لأنّني واثقة مِن أنّكم لن ترضوا بأن أترك نفسي أموت.

 

ـ ماذا لو تبّيَن أنّ لدَيكِ داءً حقًّا؟

 

ـ كنتُ سأموتُ لكن سعيدة!

 

ـ لو علِمَ أبي الحقيقة...

 

ـ إنّه خائن، ودائي لا يجب أن يكون له عذرًا ليخونني بل دافعًا ليحبّني أكثر.

 

علِمَ خليل بنتائج فحوصاتي وحاول العودة لكنّني لَم أقبل به. ما حاجتي لهكذا زوج؟

لَم أتوقّف عن مُمارسة هواياتي أو الاعتناء بنفسي بل زدتُ سعادة بعد أن ابتعَدَ عنّي شبح المرَض، وأستقبلُ اليوم أحفادي بِفرح وحماس وأعلّمُهم خطوات رقص ونلعبُ سويًّا. وهم فخورون بجدّتهم الرشيقة والأنيقة والسعيدة!

هل على المرأة أن تقترب مِن الموت ليُسمحَ لها أو تسمَح لنفسها أن تحقّق أحلامها؟ هل ذلك يكون بمثابة جائزة ترضية لأنّها راحلة؟ لِما لا نعيش حياتنا في الوقت المُناسب وليس قبل فوات الأوان؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button