حياة جديدة

كم أنّ المجتمع قاسٍ مع الذين هم مُختلفون... ولا أتكلّم هنا فقط عن الإعاقة الجسديّة التي هي بنظر الناس حجّة لإبعاد هؤلاء المساكين والتنمّر عليهم، بل أيضًا على العقر وخاصّة عقر المرأة. وكم أنّ ذاكرة المُتنمّرين ضعيفة عندما ينسون أنّ الله هو الذي يُقرّر ما يُعطيه ولِمَن، وأنّه لا يبخل على أحد بِنعمه بل يُعوّض له بطرق عديدة ومُختلفة! مَن أنتم أيّها القوم لِتضعوا أنفسكم مكان الخالق، لتُدينوا غيركم وتقرّروا إن كان أهلاً أم لا للإنضمام إلى مجموعتكم؟ ولماذا يمتلئ قلبكم بالكره والخوف بدلاً مِن القبول والحبّ؟ لقد وصَلَ الإنسان إلى المرّيخ ولا يزال يتصرّفُ وكأنّه يعيش في كهفه ويُطبّقُ شريعة الغاب على مَن حوله. يا للخسارة!

لَم أكن أعلمُ بمسألة عقري حتى تزوّجتُ طبعًا وحاولتُ جَلب طفل إلى الدنيا. جرَّبتُ كثيرًا إلى حين قرَّرَ زوجي أنّني غير نافعة لتأدية مهمّتي. وقد نسيَ خالد أنّه أحبَّني وفعَلَ المستحيل لأقبلَ به ووعدَني بأن يصونَني ويُسعدني. أين ذهبَت وعوده؟

تبخّرَت أحلامي وشعرتُ وكأنّني مثل تلك المواشي التي يتخلّص منها المُزارع لِشراء أفضل منها وأكثر منفعة. طلّقَني زوحي مِن دون تردّد وأسرَعَ بالزواج مِن إمرأة أخرى. فهو أرادَ ذريّة في حين أرَدتُ أنا رجلاً حقيقيًّا.

عدتُ إلى أهلي ورأسي مُنحنٍ، فلا يجوزُ أن تعود الإبنة المتزوّجة بل أن تبقى حيث هي مهما كانت ظروف حياتها. وإن رجِعَت، وخاصة بسبب عقرها، تكون وسمة عار على الذين أنجبوها، لأنّها دلالة على أنّهم جاؤوا إلى الدنيا بفتاة ناقصة. لَم يتكبّد أهلي عناء إخفاء خيبتهم بي، وتحمّلتُ بِصمت تلميحاتهم المؤذية وكلام الجيران الذي انتشَرَ في أنحاء البلدة. لامَتني أختي على عقري لأنّ ذلك قد يتسبّب لها بِهروب العرسان منها وكأنّ العقر مرض وراثيّ. وصرتُ وحيدة وسط ذويّ، الأمر الذي سبّب لي الأسى العميق. قبلتُ بكلّ ذلك لأنّني لَم أكن قد وجدتُ وضعًا أفضل.

بعد فترة، سكتَت الألسن واستطعتُ إكمال حياتي. تزوّجَت أختي وأنجبَت أولادًا لكنّ علاقتها بي بقيَت جافّة وشعرتُ بأنّها تُريدُني أن أبقى بعيدة عنها، فلَم تدعُني إلى بيتها سوى مرّة واحدة بعد زفافها. إحترمتُ تلك الخصوصيّة المفروضة عليّ ودعوتُ لها بالتوفيق.

وصرتُ أعيشُ لوحدي مع أبوَيّ اللذَين رأيا أنّ هناك منفعة مِن رجوعي في آخر المطاف، وهي أنّني سأهتمُّ بهما حتى مماتهما مِن دون أن يؤنّبهما ضميرهما.

 


بعد سنوات طويلة مِن العناية بوالدَيَّ، وجدتُ نفسي لوحدي في البيت بعد مماتهما. وأظنّ أنّها كانت الفترة الوحيدة التي شعرتُ فيها بالراحة، فلَم يعُد لدَيّ حاجة لإثبات أيّ شيء لأيّ أحد. وما هو أهمّ، لم يعُد هناك مَن ينظرُ إليّ وكأنّني ناقصة. كنتُ حرّة أخيرًا. لكنّنا لن نستطيع أبدًا أن نعيش أحرارًا، فسيوجَد دائمًا مَن يُقيّمُنا ويأخذ منّا موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا.

بقيَت أختي تمدُّني بالمال، إلا أنّني أردتُ أن أجِد عملاً على الأقل للتسلية وربّما لأشعر باستقلاليّة مادّيّة. بحثتُ كثيرًا لكن ما مِن أحد قبِلَ بسيّدة مِن دون خبرة مثلي. وكنتُ سأقطعُ الأمل كليًّا لولا وقَعَ نظري على إعلان في الصحيفة يطلبُ فيه صاحبه مربيّة لإبنه البالغ مِن العمر ثلاث سنوات. بدأَ قلبي يدقُّ بسرعة، وأمِلتُ أن تنطبق مواصفاتي على ذلك العمل، الذي سيسمحُ لي بالتواجد أخيرًا بالقرب مِن ولَد والإهتمام به، الأمر الذي لَم يتسنَّ لي فعله بسبب عقري. أسرَعتُ بالإتصال بالرقم المذكور، وحصلتُ على موعد لإجراء مُقابلة مع الرجل وزوجته.

بالطبع لَم أنَم في الليلة التي سبقَت الموعد، لكثرة تفكيري بالذي سأقولُه إن سُئلتُ ذلك السؤال أو ذاك، وما الذي سأرتديه وكيف سأجلسُ أو أشربَ الشاي لو قُدِّمَ لي.

توجّهتُ في اليوم التالي إلى بيت هؤلاء الناس وقلبي مليء بالأمل. إستقبلَتني السيّدة بِلطف وأجلسَتني في الصالون حيث كان زوجها بانتظاري. سارَت المُقابلة بِسلاسة، وقدّما لي الولَد الذي عليّ الإهتمام به بِسبب انشغال والدَيه الدائم. لَم أفاوِض بما يخصّ راتبي، لكنّني أصرَّيتُ على النوم كلّ ليلة في منزلي والحصول على فرصة كلّ نهاية أسبوع. لَم أخبِر أهل الولَد عن تجربتي المريرة بالزواج وعن موضوع عقري، فذلك لَم يكن مِن شأن أحد ولَم يكن ليُؤثّر على إدائي كمربيّة.

في المساء، زفَّيتُ الخبر السار لأختي التي هنّأتني بِجفاف.

بدأتُ العمل في الصباح وكنتُ أسعَد امرأة في العالم، فالوظيفة لَم تكن صعبة، وكانت مهامي تقتصر على الإهتمام بالولَد بينما تقوم العاملة بالتنظيف والطهو.

أحبَّني الصبيّ كثيرًا وأطاعَني، ربمّا لأنّه علِمَ أنّ ما أطلبُه منه هو لِصالحه وهو نابع مِن محبّة صادقة. فالأطفال يشعرون بذلك، صدّقوني. قبضتُ أوّل راتب وأسرعتُ بِشراء ملابس جديدة، فكنتُ أعمل لدى أناس أثرياء وعليّ أن أبقى أنيقة.

خلتُ أنّ عملي الجديد سيُقرّبُ أختي منّي فنقلبُ سويًّا تلك الصفحة الأليمة. كنتُ بالفعل مُستعدّة لنسيان كلّ ذلك الأذى المجّانيّ طالما أتمكّن مِن الشعور بالإنتماء إلى عائلتي. وتمنَّيتُ لو أستطيع التقرب مِن أولادها واللعب معهم، ففي آخر المطاف كنتُ خالتهم ويُقال إنّ رباط الدماء هو الأقوى. لكنّني كنتُ على خطأ... وخطأ فادح. ولَم أعلَم بِحقيقة مشاعر أختي تجاهي إلا على حسابي.

فبعد أشهر مِن قيامي بِمهامي عند ذلك الثنائيّ، بدأتُ أشعرُ بِتغيّر ملحوظ لدى مُستخدمتي. فهي لَم تعد تبتسمُ لي عندما تُحدّثني بل صارَت تتفادى النظر إليّ. وما هو أهمّ، أنّ الحجَج بدأَت تتتالى لإبقائي في بيتي. فتارةً كانت العائلة ذاهبة إلى مكان بعيد وتارةً أخرى كان الولَد يمرض لأيّام عديدة. حتى عندما كنتُ في بيتها برفقة إبنها، كانت السيّدة تتصل بي مرّات لا تُحصى، وحصَلَ مرارًا أن عادَت باكرًا مِن عملها لتُرسلني إلى بيتي فور رجوعها. إحترتُ في كيفيّة تفسير ما يحصل، إذ أنّني لَم أرتكِب أيّ خطأ خلال تأدية عمَلي ولَم يتذمّر منّي الولَد ولو مرّة واحدة. ردَدتُ السبب إلى أعباء السيّدة في عملها، إذ أنّها موظّفة كبيرة في شركة عالميّة، وقرّرتُ أن أبذل جهدًا أكبر لإراحتها.

إلا أنّ مُستخدمَيَّ فضّلا الإستغناء عن خدماتي مِن دون أن يُقدّما لي تفسيرًا مُقنعًا، ربمّا لأنّهما لَم يجدا حجّة متينة. أعطياني راتبًا إضافيًّا لكنّهما لَم يسمحا لي بِتوديع إبنهما. وهكذا عدتُ إلى وحدتي بعد أن ذقتُ، ولو بطريقة غير مُباشرة، طعم الأمومة، وقضيتُ أيّامًا طويلة بالبكاء. بعد ذلك نشّفتُ دموعي واقتنعتُ بواقعي، طالبةً مِن الله أن يُبقيَ عينًا عليّ لأنّه كان كلّ ما تبقّى لي.

بعد فترة، حدَثَ أن التقَيتُ صدفةً بتلك العاملة التي كانت تهتمّ بِمنزل مُستخدمَيّ السابقَين. كنتُ أتسوّق وهي كادَت أن تصطدم بي في خروجها مِن المحلّ. فرحتُ لرؤيتها وهي قبّلَتني بقوّة وسألَتني عن أحوالي:

 


ـ أين تعملين الآن؟ هل وجدتِ عائلة أخرى؟

 

ـ للأسف لا... وكَم أشعرُ بالملل! كيف الولَد، هل هو بخير؟ وأبواه؟

 

ـ لقد تركتُ العمل لدَيهما لأنّني وجدتُ مكانًا أفضل. كَم اشتقتُ إليكِ! وكَم حزنتُ لِرحيلكِ!

 

ـ حتى اليوم لا أعلمَ لماذا استغنيا عن خدماتي. لَم أقترِف أيّ خطأ... أليس كذلك؟

 

ـ أبدًا! كانت السيّدة ممتنّة منكِ إلى أقصى حدّ إلى حين...

 

ـ إلى حين ماذا؟

 

ـ تعالي نجلس في مكان هادئ وسأخبرُكِ بكلّ شيء.

 

رحنا إلى مقهى مُجاور وجلسنا إلى طاولة وإذ بالعاملة تُكمل حديثها:

 

ـ سمعتُ السيّدة تقول لِزوجها في أحد الأيّام إنّكِ شرّيرة.

 

ـ أنا؟!؟ شرّيرة؟!؟

 

ـ أجل... وإنّكِ أخفَيتِ عنهما أمر زواجكِ وعقركِ.

 

ـ كيف علِمَت بذلك؟!؟

 

ـ مِن أختكِ. فلدَيهنّ أصدقاء مُشتركون. لا بدّ أنّهما التقيَتا في إحدى المُناسبات ودارَ حديث بينهما عنكِ.

 

ـ أكون شرّيرة لأنّني احتفظتُ بِتفاصيل حياتي الشخصيّة؟

 

ـ لا... لقد قالَت أختكِ للسيّدة أن تحترس منكِ فأنتِ... كيف أقولُ ذلك... لدَيكِ العَين الحاسدة لأنّكِ عاقر وقد تتسبّبين بالأذى للولَد.

 

ـ ما هذا الكلام الفارغ!

 

ـ ولقد قالَت أختُكِ لها أيضًا إنّها لا تستقبلكِ في منزلها لهذا السبب بالذات، فقد يحصل مكروه لأولادها.

 

ـ في أيّ عصر نعيش؟!؟ وكيف ألومُ سيّدة غريبة عنّي على تصرّفها، في حين أُطعَن مِن قِبَل أقرَب الناس إليّ؟ أنا شرّيرة؟ أنا أؤذي الأطفال لأنّني لَم أُرزَق بهم؟ بل العكس! أُحبّهم وأخافُ عليهم أكثر! يا لَيتني لَم ألتقِ بكِ! كيف سأعيشُ وأنا أعلَم حقيقة سواد قلب أختي؟ كيف؟

 

ـ بل إحمدي ربّكِ أنّني أخبرتُكِ بما جرى، فقد حان الأوان لأن تعرفي مَن يُحبّكِ ومَن لا... وحان الأوان لِتأخذي زمام حياتكِ بيَدكِ بعيدًا عن كلّ الذين بإمكانهم أذيّتكِ. هناك حزن دائم في عَينَيكِ ولا يجدرُ أنّ يكون موجودًا. صحيح أنّكِ مُطلّقة لكن هناك رجالاً خيّرين كثر... صحيح أنّكِ عاقر لكن بإمكان المرأة أن تعيش سعيدة مِن دون أولاد. إذهبي إلى بيتكِ وفكّري بكيفيّة تحويل حياتكِ إلى فرح دائم.

 

تفاجأتُ بِكلام العاملة العميق فهي كانت على حقّ. فأنا منذ طلاقي أعيشُ وسط أناس حطّموني وجعلوا منّي إمرأة حزينة لا كرامة لها. وها هي أختي تخافُ منّي على أولادها، ولا تتردّد عن قطع رزقي وتشويه سمعتي أمام مُستخدمتي. قرّرتُ ألا أعتذر بعد ذلك لأحد كَوني عاقرًا أو كَوني لَم أحقّق شيئًا بعد.

وجدتُ عملاً في أحد المطاعم، وطلبتُ مِن أختي الكفّ عن إرسال المال لي لأنّ ذلك ليس ما أريدُه منها بل الحبّ والإحترام والحنان، وواجهتُها بالذي علِمتُ به عمّا فعلَته ووبّختُها بقوّة. هل شعرَت بالذنب؟ طبعًا لا، فهي لَم تحسب لي يومًا حسابًا ولَم تكن لتبدأ الآن. لَم آسف عليها، وبدأتُ أؤلّف لِنفسي عائلة أخرى مكوّنة مِن زميلاتي في المطعم وصرنا نخرجُ سويًّا ونتقاسَم كلّ شيء. في تلك الفترة فهمتُ أنّ بإمكان أيّ منّا البدء مِن جديد. فمَن ينظرُ خلفه لا يُحقّق شيئًا بل يبقى أسير ماضيه.

بعد سنة تقريبًا، إعترفَ لي أحد زبائن المطعم بِحبّه لي، وبأنّه كان يأتي إلى المطعم يوميًّا ليراني. ما شدَّه إليَّ كانت إبتسامتي ولطافتي وعَيناي حيث رأى الحنان الذي ينقصُه.

أنا اليوم مُتزوّجة وسعيدة للغاية. صحيح أنّني لا أزال عاقرًا، لكنّ الأمر لَم يعُد يهمّني لأنّ زوجي لَم يرَ فيّ يومًا سوى إمرأة وحسب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button