حياة أبي المزدوجة

كان أبواي يُحبّان بعضهما، وكنتُ أتفق تماماً مع إخوَتي ونساعد بعضنا في الدروس ونلعب سويّاً بمحبّة وهدوء. كان جوّ بيتنا سليماً يسود فيه التفاهم والتناغم، أي أنّنا كنّا العائلة المثاليّة التي يحسدها الكلّ.

ولكنّ كلّ شيء تغيّر عند موت أبي حين كنتُ في العشرين مِن عمري. فإلى جانب الحزن العميق الذي أصابنا جميعًا، كانت تنتظرنا ثروة عمِلَ المرحوم على جمعها طوال حياته. وصدّقوني عندما اقول إنّني لم أفكّر ولو للحظة بالمال الذي كنتُ سأرثه لكثرة تعلّقي بالرجل الذي كان قدوة لي ومثالاً أعلى على جميع الأصعدة.

 

بكَت أمّي كثيرًا لأنّها فقدَت رفيق عمرها، خاصّة أنّه كان أوّل وآخر حبّ في حياتها. كانا قد التقيا في الجامعة ولم يفترقا حتى تلك اللحظة المحزنة. وبالطبع، أخذنا نواسيها ونؤكّد لها أنّنا سنبقى إلى جانبها لنحميها ونهتمّ بها حتى آخر أيّامها. نَظَرَت إلينا بفخر واعتزاز وقالَت:

 

ـ كم أنا محظوظة بكم يا أولادي... وفاؤكم أغلى ميراث تركَه لي أبوكم... فكما تعلمون لم أندم ولو للحظة على اختياري له شريكاً لي... رحمه الله.

 

وحين قصدنا الكاتب بالعدل لِيُطلعنا على أوضاع ميراثنا، وجدناه قلقًا ومنزعجًا، وحسبنا أنّ السبب هو حزنه على فقدان الرجل الذي عَرَفه طوال حياته فكانا أعزّ الاصدقاء لسنين لا تُحصى.

 

وبعدما جلسنا جميعنا أمامه وسادَ سكوت تام، قال لنا الرّجل:

 

ـ أهلاً بكم... أهلاً بكِ سيّدتي وبكم يا أولادي... أسمح لنفسي بمناداتكم هكذا لكثرة معرفتي بكم، فأنتم بمثابة عائلة ثانية لي... جلال، رحمه الله، كان يُطلعني دائمًا على أوضاعه الشخصيّة والمهنيّة وكأنّني أخ له... وكنتُ أعرف كلّ شيء عنه... حتى الأمور غير الّسارة.

عندها نظَرَت أمّي إليه بتعجّب وسألَته:

 

ـ ماذا تقصد؟ هل كان يُخفي عنّا جلال مرضًا أو ضيق مال؟

 

ـ لا سيّدتي... الأمر أفظع مِن ذلك...

 

ـ تكلّم مِن فضلكَ!

 

وشعرنا بانزعاج كبير، وبتنا معلّقين بكلمات الرّجل التي كانت بالكاد تخرج مِن فمه. عندها أخَذَ نفسًا عميقًا وقال:

 

ـ أتَيتم اليوم للإطّلاع على ميراثكم... وعليّ إخباركم أنكّم لستم الورثة الوحيدين.

 

نظَرَنا إلى بعضنا وإلى الكاتب بالعدل الذي أضافَ:

 

ـ جلال كان متزوّجًا ولديه ولدٌ.

 

وصَرَخَت أمّي أومسَكَت رأسها بيدَيها وأُغميَ عليها. ركضنا إليها وأخذنا نساعدها على استعادَة وعَيها. ونظرتُ إلى الرّجل معاتبًا وقلت له:

 

ـ ما الذي تقوله؟ ألا تخجل مِن نفسكَ؟ أنظر ما فعلتَ بأمّي!

 

ـ أنا آسف ولكنّ ذلك هو واجبي... لا يُمكنّني حرمان وريثيه مِن حقّهم.

 

ـ هؤلاء الناس هم كذّابون! انا متأكّد أنّ الغرض مِن ذلك هو النصب والإحتيال، فأبي طالما كان رجلاً مستقيمًا يُحبّ أمّي ويحترمها ولا يُمكنه أبدًا أن يتزوّج عليها ويُنجب سرًّا ولدًا آخر... أنتَ تعرف والدي جيّدًا.

 

ـ أجل... أعرفه جيّدًا... وأكثر ممًا تعرفونه.

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ أقصد أنّ أباكم كان لديه نقاط ضعف كسائر الناس... ونقطة ضعفه كانت النساء.

 

ـ ماذا؟ هذا غير ممكن! أبي يهوى النساء؟ لا بدّ أنّني أحلم!

 

وفتحَت أمّي عيَنيَها وقالَت لنا وهي ترتجف:

 

ـ دعوه يُخبرنا عن تلك المرأة وابنها.

 

وسكتنا مِن جديد، وانتظرنا سماع القصّة. كان قلبنا يدقّ بقوّة لكثرة إنفعالنا. وقال الكاتب بالعدل:

 

ـ ما سأقوله لكم أوصاني به جلال... طلَبَ منّي أن أقول لكم حرفيًّا ما حصَلَ لتكون قصّته عبرة لكم يا أولادي...

عَمِلَ جلال بجهد طوال حياته ليُؤسّس شركته التي أصبحَت مِن الأقوى محليًّا وحتى خارج الحدود... وطيلة سنوات لم يأخذ إستراحة أو إجازة، كما تعلمين سيّدتي.

 

ـ صحيح... كان يعمل كثيرًا وكنتُ أطلب منه دائمًا التخفيف مِن عمله ولكنّه كان يقول: "بعد سنة أو إثنَتين"... ولكنّه كان يُؤجّل الموضوع كلّ مرّة.

 

ـ تمامًا... ووُلِدَ أبناؤه وشعَرَ بمسؤوليّة أكبر تجاههم... وعَمِلَ على تأمين مستقبل لكلّ أفراد عائلته حتى... حتى تذكّر أن يعيش.

 

ـ تسمّي الخيانة عَيشًا؟ ألَم أقدّم أنا أيضًا التضحيات له ولأولادنا؟ ألم أحرم نفسي مِن أشياء كثيرة عندما كان جلال لا يزال في بداية مسيرته؟ الم أحمل بثلاثة أولاد وربّيتهم واهتمّيتُ براحتهم؟ ألم أكن الزوجة الصّبورة والوفيّة؟

 

ـ صحيح سيّدتي... معكِ كامل الحق، ولكنّ جلال لم يرَ الأمور بهذا المنظار... فقد قرّرَ أن يعيش الحياة التي لم يذقها، ظانًّا أنّها ستكون مسألة أشهر قليلة ثم يعود إلى صوابه ولكنّه تعرَّفَ إلى عالم يأخذ المرء ولا يُعيده... عالم الراقصات والـ...

 

ـ ماذا؟ الراقصات؟ جلال؟ كان زوجي رجلاً جاداً ورصينًا... لو قلتَ لي إنّه أحبّ وتزوّج مِن إمرأة هادئة ومستقيمة لصدّقتكَ! ولكن راقصة؟

 

ـ نعم... وللآسف... وإسمها لولا... أعني بذلك إسمها الفنّي، وكانت ولا تزال... جميلة جدًّا... عرَفَت كيف تحوّل جلال مِن زوج وأب مثاليّ إلى إنسان متعلّق برغباتها ولا يرفض لها طلبًا.

 

ـ أشعر وكأنّني أحضر فيلمًا بالأسود والأبيض! قل لي إنّكَ تمزح!

 

ـ يا ليتني يا سيّدتي... يا ليتني أمزح... كان يذهب جلال لرؤيتها في الكاباريه عندما يدّعي أنّ لديه إجتماعات ليليّة مع زبائن، ولكنّ الأعذار نفذَت منه وخافَ أن تعرفي الحقيقة، فأشترى للولا شقّة فخمة تستقبله فيها خلال النهار.

 

ـ إشترى لها شقّة فخمة؟ تعِبتُ مع زوجي ليصرف مالنا على باغية؟

 

ـ وأظنّ أنّه كان سيملّ منها يومًا لكثرة دلالها وطلباتها لو لم تحمل منه... ولا بّد أنّها قصَدَت أن يحصل ذلك لتتمكّن منه. فعندها أجبَرَته على الزواج منها وإلا قصَدَتكِ وأخبرتكِ الحقيقة، فخافَ جلال وقَبِل أن يتزوّجها.

ومع ولادة الصبيّ، بدأَت لولا بتحضيرمستقبله، فأخَذَت مِن زوجكِ الكثير مِن المال خوفًا مِن أن يأتي يوم ويتجرّأ على تركها. ولكنّه كان يرفض رفضًا تامًا أن تعلمي بالحقيقة، لأنّه كان يعرف أنّكِ ستحتقرينه... صدّقيني سيّدتي... جلال كان يُحبّكِ فعلاً وكان جدّ نادم على ما حصل... ولكن أحيانًا تصل بنا الأمور إلى أبعد ممّا نتصوّر والعودة تصبح شبه مستحيلة... ولم يعد جلال يذهب إلى لولا ولكنّه بقيَ يصرف عليها وعلى ولده منها ليُبقيها بعيدة عنكم... فأنتم عائلته الحقيقيّة... ومات المسكين فجأة، وكان لا بّد أن تعلموا جميعًا بالحقيقة لأنّ تلك المرأة وابنها سيرثان مثلكم... إذا سمحتم لي بنصيحة: تذكّروا جلال كما كان قبل مجيئكم إلى هنا اليوم فهذه فعلاً صورته الحقيقيّة... لقد أخطأ ودفع الثمن.

 

- كيف؟

 

ـ بوَجَع ضميره يوميّاً وكلّما نظَرَ إليكم... بالإحتفاظ بسرّ لا يُمكنه البوح به لكم... بخوفه مِن أن يُفضَح أمره بأيّة لحظة... أظنّ أنّه نال عقابه... ترحّموا عليه واذكروا حسناته... فسيّئاته أقل بكثير.

 

ورحلنا في مكتب كاتب العدل حزينين. فكان أبي مثالي الأعلى، واتضَحَ أنّه مجرّد رجل عاديّ ركَضَ وراء نزوات خالَ نفسه أقوى منها. ولكنّني لم أنسَ ما قاله كاتب العدل لنا عن عذاب أبي اليوميّ. كان على حق. قضى والدي آخر سنينه بالخوف والقلق ودفَعَ ثمَن غلطته.

ولكن أمّي لم تسامحه وبقيَت صامتة مدّة طويلة. صحيح أنّها تحسّنَت مع الوقت، ولكنّني لم أعد أرى في عينَيها بريق السعادة. ليس هناك أتعَس مِن إمرأة مخدوعة.

أنا اليوم أب لولد جميل، ولا يمرّ يوم مِن دون أن أخبره عن جدّه العظيم وأستشهد بتعاليمه لي. هكذا كان أبي وهكذا سيبقى في ذاكرتي النهاية.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button