حوّلَني أهلي مِن فتاة إلى وَلَد

لا أوافق البعض عندما يقولون أنّنا نصنع قدَرَنا بنفسنا بسبب ما حصلَ لي بعدما أصابَني مرض وأخذَت حياتي رغماً عنّي منعطفاً جذريّاً. فحين ولِدتُ كنتُ كأيّ فتاة أخرى وجاء أهلي لي بالفساتين الجميلة والألعاب الزهريّة اللون وأعطوني إسم سلام لأنّ بمجيئي كانت قد هدأَت الخلافات التي كانت موجودة بين عائلَتيّ أمّي وأبي.

ولكن عندما بلغتُ سنتي الثالثة بدأ شعري يتساقط حتى أن فقدتُه كليّاً. وبالطبع أخذَني أهلي إلى الطبيب الذي طمأنَهم أنّ الوضع عابر وناتج عن نقص بالفيتامينات. ولكنّ شعري لم ينبُت كما كان متوقّعاً فرأينا أخصّائي ثاني وثالث. وقيل لأبوَيّ أنّني مصابة بما يسمّى"البقعيّة التامّة" وهو مرض مِن أمراض المناعة الذاتيّة أيّ أنّ جسمي ولِسبب مجهول يحارب نفسه. والمؤسف كان أنّ لا علاج معروف لمصيبتي وأنّني كنتُ سأبقى صلعاء طوال حياتي.

وأُذيعَ الخبر في العائلة وجاء الجميع لمواساة أمّي التي كانت قد إنهارَت كليّاً لأنّها كانت تعلم مدى تأثير حالتي على مستقبلي كفتاة خاصة أنّني كنتُ سأدخل المدرسة بعد سنة. أمّا أبي فأصابَه إكتئاب مَحى عن وجهه بسمته الجميلة. وفكرَّت والدتي بحلول عديدة مثل إبقائي في البيت وتدريسي بنفسها ومِن ثمّ خطَرَ على بالها أن تلبسني شعراً مستعاراً ولكنّ مع إقتراب دخولي المدرسة إقتَرَحَت أمّي على والدي أن يكلّما المديرة ويُقنعانها بأن تسجّلني عندها على أنّني صبيّ فهكذا يكون وطأ صلعي أخفّ عليّ.

وبعد جهد جهيد إستطاعا ضمّ المسؤولة إلى صفّهما وبدأت حياتي كسلام إبن تامر وعلياء. وبسبب صغر سنّي لم أدرك ما فعلاه بي وإقتنعتُ فعلاً أنّني ولد خاصة بعدما بدّلا ألعابي وثيابي فبتُ ألعب بالسيّارات والقطارات بدل الدمى وأرتدي السراويل بدل الفساتين. وشاركَت العائلة كلها باللعبة وإنضمّ إليهم أيضاً الجيران. والقصد مِن ذلك كان تجنيبي العار والإنتقادات ولكنّ الموضوع أخذَ منحاً آخراً لم يتوقعه أحد.

 


ومرَّت السنين دون أن يحدث شيئاً إلى حين تعلمنّا في المدرسة الفرق الجسديّ بين الرجل والمرأة. وحين رأيتُ إختلاف تكويني مع الرسم الذي أرَتنا إيّاه المعلّمة عن الرجل ركضتُ إلى أمّي أشكو لها أنّني "غير كامل بسبب فقداني بعض الأجزاء". ونادَت والدتي أبي وأخذا ينظران إلى بعضهما بِقلَق وصمت. في ذلك اليوم كان بإمكانهما تصليح ما فعلاه بي وإخباري أنّني فتاة وإطلاعي على سبب إخفاء ذلك عنّي وعن الجميع ولكنّهما إختارا المضيّ في الكذب فقال لي أبي:

 

ـ هذا لأنّكَ صبيّ مميّز يا بنيّ...

 

ـ مميّز؟

 

ـ أجل... لديكَ قدرة خارقة وهي أن تكون صبيّ وفتاة في آن واحد.

 

ولأنّني كنتُ في سنّ يافع تصوّرتُ نفسي أحد الأبطال الذين كانوا يملأون شاشات التلفاز وشعرتُ بقوّة فائقة خوّلَتني أن أتفوّق في المدرسة وأحصد أعلى العلامات. وكلّما جاء أحد زملائي الصغار للشجار معي في الملعب كنتُ أصرخ له:"إبتعد وإلاّ أذيتُكَ... فأنا صبيّ خارق... لدَيّ قدرات تفوق تصوّركَ." ولأنّني تعلّمتُ أيضاً أنّ الصبيان يحبّون الفتيات أُغرمتُ بِسامية الفتاة التي كانت تجلس قربي في الصف. وبالطبع كان ذلك غراماً صبيانيّاً لِذا لم يتدخّل أهلي عندما أخبرتُهم عن مشاعري هذه. وكانت ذلك فرصتهم الثانية لمصارحتي ولكنّهم مرّة أخرى إختاروا السهولة على الإعتراف بما فعلوه بي.

ولكن عندما بلغتُ سنّ الرشد لم أشعر بالإنجذاب الفعليّ بالفتيات لأنّ جسدي وبالرغم مِن كل الذي ألبسوه كان جسد إمرأة. فبدأتُ ألاحظ الشبّان وأشعر بالحاجة لأكون قربهم ما خلق جوّاً مِن الإرباك لدَيهم وبدأوا يتجنبّوني ويطلقون عليّ أخباراً بأنّني مثليّ ومُخنّث خاصة أنّ صوتي كان رفيعاً ولم ينبُت لي شعراً في وجهي. وكنتُ قد تعلّمتُ معنى تلك الكلمات لِذا أحسستُ بالعار لأنّني كنتُ شاباً وأهوى فعلاً الشبّان. وقرّرتُ الإنعزال بسبب ذلك وبسبب "ميّزتيّ الخاصة" أي أنّني أملك أعضاء تناسليّة نسائيّة إضافة إلى صلعَتي التي بقيَت تشكّل مشكلة لدى الناس.

وإبتعدتُ عن رفاقي وزملائي وإنكبّيتُ على الدرس والقراءة. وبعد فترة إنحباس وجدتُ حلاً لكل مصائبي وهو أن ألبس شعراً مستعاراً وثياب نساء لأستطيع الإختلاط بالشبّان دون أن يزعجهم الأمر. والتنكرّ كفتاة لم يكن صعباً لأنّني كنتُ فعلاً فتاة وكل ما كان ينقصني كانت تلك الأنوثة التي حرَمَني منها أهلي في محاولتهم لإقناع الجميع بأنّني صبيّ.

 

وبعد أن وجدتُ عملاً في أحد المطاعم خلال الصيف وجنيتُ المال الكافي لذلك ذهبتُ إلى المحلات وإبتعتُ العدّة اللازمة لِتحوّلي وذلك دون أن أخبر أحداً طبعاً. وهكذا بدأتُ أخرج بعد دوام عملي متنكرّة وسُرِرتُ أنّ لا أحد إستطاع كشف الكذبة بل لاقيتُ رهجة كبيرة بين الرجال. وتعرّفتُ إلى شاب وسيم وبدأنا نتواعد وولِدَت بيننا مشاعر قويّة لِدرجة أنّه طلبَ منّي أن يتعرّف إلى أهلي لأنّه كان يودّ أن يقترن بي بعد بضعة سنين ريثما يركزّ نفسه ويستطيع تأمين عيشاً كريماً لي ولأولادنا. ولكنّني لم أكنّ مستعدّة لِجلبه إلى البيت خوفاً مِن ردّة فعل أهلي الذين لن يقبلوا أبداً أن أعاشر رجلاً كوني شابّاً وكل ما أستطعتُ فعله هو أن أعترف لحبيبي أنّني صلعاء فخلعتُ أمامه شعري المستعار وأخبرتُه بمرضي.

 


صحيح أنّه فوجئ بالأمر ولكنّ ذلك لم يمنعه مِن حبّي فإمتلأ قلبي بالسعادة. ولكن أمام أصراره على التعرّف إلى أبويّ لم أكن لأصمد طويلاً خاصة بعدما إستنفذتُ الحجج كلّها. ولولا ما حدثَ بعد فترة قصيرة كنتُ سأضطرّ حتماً إلى تركه.

ففي ذاك يوم طلبَت منّي أمّي أن أساعدها في إفراغ خزانة كبيرة في غرفة نومها لأنّها إشترَت واحدة جديدة وأثناء مساعدتي لها دقَّت إحدى الجارات الباب لِتزورها فبقيتُ لوحدي لإنهاء العمل. ووجدتُ داخل الخزانة علبة مقفلة تراكَمت عليها الغبار وحين أرَدتُ وضعها جانباً سقطَت مِن يدي وتكسّرَت على الأرض. أخذتُ ألملِم الأوراق الموجودة في داخلها حين رأيتُ إسمي على إحداها لأنّها كانت تلك وثيقة ميلادي. وعندما قرأتها ورأيتُ مدوناً عليها عبارة "أنثى" شعرتُ بغضب كبير حَمَلَني إلى الدخول إلى الصالون وصرخ "أمّي! تعالي الآن!." ونظَرَت إليّ الجارة بإندهاش وخالَت أمّي أنّني أذيتُ نفسي وركضَت كالمجنونة.

أخذتُها جانباً وأرَيتُها الوثيقة ورأيتُ ملامحها تتغيّر فجأة. وقالت لي وشفاهها ترتجف مِن الخوف: "عندما يأتي والدكِ سنتكلّم في الأمر". ولكنّني لم أستطع الصبر حتى المساء وأمَرتُ والدتي بأن تتخلّص مِن الجارة فوراً. ونفّذَت ما طلبتُه منها وحين أصبحنا لوحدنا إعترفَت لي بالحقيقة الكاملة. وبدأتُ أصرخ وأبكي وأهدّد لأنّني لم أفهم كيف إستطاع أبوَيّ وباقي العائلة فعل ذلك بي. ثم حبستُ نفسي في غرفتي أبكي على كل السنين التي ضاعَت منّي فقط لأنّ أهلي خجلوا منّي فَلَو أرادوا فعلاً تجنبي نظرة الناس القاسية لَعمِلوا على تقوية شخصيّتي وتهييئي لمواجهة كل مَن سيقلّل مِن شأني بدلاً مِن أن يحوّلوني إلى مسخ معدوم الهويّة الجنسيّة.

وعادَ أبي إلى البيت وسمعتُ أمّي تبكي وتروي له ما حدث وعندما دقّ والدي باب غرفتي طلبتُ منه أن يتركني وشأني. قضيتُ الليل بأسره وأنا أبكي وعند طلوع الضوء إرتديتُ الثياب التي إشتريتُها ولكنّني لم أضع الشعر المستعار وقصدتُ المطبخ حيث كان والدَيّ موجودان لتناول الفطار. عندما رآني تفاجآ كثيراً وصَرَخَت أمّي مِن الخوف والفرح في آن واحد. عندها قلتُ لهما:

 

ـ هذا ما أنا... أنا فتاة... ولطالما كنتُ كذلك... صَلعتي ليست عار على أحد بل نتيجة مرض لا علاج له... هذا أنا... إبنتكما سلام... وهناك مَن أحبّني وأنا هكذا... أحبَّني أكثر منكما... لم يخف مِن كلام الناس أو نظراتهم... أحبَّني لأنّني سلام وليس شخصاً آخراً.

 

وخرجتُ مِن البيت أمشي في الطرقات وأفكرّ بالحياة التي عشتها وبالتي تنتظرني. وإتّصلتُ بحبيبي وطلبتُ منه أن يلاقيني وأخبرتُه كل شيء. عندها غَمَرني بقوّة وطمأنّني بأنّه سيبقى إلى جانبي مهما كانت الظروف. وبعدما جفّفَ دموعي سألَني مبتسماً:

 

ـ هل أستطيع مقابلة أهلكِ الآن؟

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button