حمل لا يطاق!

عندما نظرتُ إلى جثّة عمّتي الهامدة، إمتلأ قلبي بشعور لَم أعرفه مِن قبل. كان الأمر وكأنّ حجرًا ثقيلاً قد أُزيحَ عن صدري وبتُّ قادرة على التّنفّس. نعم، موت عمّتي كان بمثابة خلاص فقدتُ الأمل بالحصول عليه. موت عمّتي كان بداية حياتي.

قد يبدو كلامي قاسيًّا للغاية، إلا أنّه نتيجة معاناة طويلة لَم أتصوّر أنّها ستنتهي يومًا، فتلك المرأة كانت لا تُقهر، حتى أنّني خلتُها أبديّة. نعم، كانت "الستّ ماجدة" جبّارة ومُستبدّة لا يكسرُها شيء، إلا الموت في نهاية المطاف.

وصلتُ إلى بيتها بعد أن ماتَت والدتي واحتارَ أبي بأمري، فرَماني عندها وصارَ يأتي ليراني مرّة في الأسبوع ومِن ثمّ مرّة في الشهر حتى قرَّرَ أنّ لا لزوم لي في حياته. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ أُشبهُ إلى حدّ كبير المرحومة أمّي التي لقيَت حتفها وعشيقها في حادث سير مروّع. ما ذنبي إن كانت والدتي خائنة؟ لَم أفعل شيئًا لأحد سوى أنّني كنتُ التي ذكَّرتُ، بوجودي، بالخطيئة العُظمى التي ارتكَبَها غيري. تبرّأ أهل أمّي منها ومنّي ولَم يسأل أيّ منهم عنّي، فلَم يبقَ لي سوى ماجدة للإهتمام بي.

ومع أنّه لم يقُل لي أحد شيئًا عن ظروف موت والدتي، لم تتأخّر عمّتي في إخباري عمَّن أسمَتها "العاهرة"، مع أنّني كنتُ لا أزالُ في الخامسة مِن عمري.

فور وصولي، وضعَتني ماجدة في غرفة في آخر البيت كي لا أكون بمقربة منها أو مِن أحد. كان سريري صغيرًا للغاية والغرفة باردة ومُظلمة، وقضيتُ سنينًا وأنا أرتجفُ مِن البرد والخوف وسط كوابيس مُفزعة، مِن دون أن يُواسيني أحد بالرّغم مِن صراخي وبكائي. أمّي كانت تضعُني كلّ ليلة في فراشي، وتغنّي لي حتى أنام بعد أن تطبع قبلة على جبيني. فمهما فعَلَت لأبي، هي كانت أم جيّدة ولا أزال أفتقدُها حتى اليوم. بالطبع لم يكن مسموحًا لي أن أحتفظ بأيّة ذكرى لها في بيت كرهَهَا وكرهَني على مدى عقدَين كاملَين. ولأنّني كنتُ إبنة امرأة "فاسدة"، إعتقَدَ الجميع أنّني ورثتُ تلك الصّفة منها، وكأنّها مرض عُضال. وصارَ مِن اللازم "تأديّبي" مُسبقًا، أي قبل أن أغرق في الخطيئة.

 


لِذا وجبَ عليّ أن أبقى في الظلّ، ألا يعرف أحد بي وبالعار الذي أمثّلُه، فلَم يكن مسموحًا لي أن أتصادق مع أحد بل أن أذهب فقط إلى المدرسة، وأعود منها إلى سجني وآكل وأشرب مع إنسانة تمقُتني. لماذا ربّتني ماجدة إن كانت تكرهُني إلى هذه الدرجة؟ لتُعطي فرصة لأخيها ليبدأ حياته مِن جديد، ولتُخبّئ عن كلّ الناس أنّه كان رجلاً مخدوعًا. وهكذا صبَّت عمّتي غضبها كله عليّ، غضب امرأة لَم يحبّها رجل كفاية ليقترنَ بها ويُعطيها ولدًا.

أنهَيتُ مسيرتي المدرسيّة ودخلتُ الجامعة، وهناك اكتشَفتُ عالمًا جميلاً وسط رفاقي الذين أعطوني الفرَح الذي كنتُ قد نسيتُ وجوده. وحصَلَ أن أُغرِمتُ بشاب يكبرُني ببضع سنوات إسمه مُنير، بادَلَني حبّي وأبدى رغبَته بتمضية باقي حياته معي، فهو كان سيتخرّج بعد أشهر ويبدأ حياته المهنيّة في مصنع أبيه، رجل شقّ طريقه في عالم الصناعة والأعمال. وخلتُ طبعًا أنّ عمّتي ستفرح لفكرة تركي بيتها والتخلّص مِن العبء الذي كنتُ أشكلّه عليها، لكنّني كنتُ مُخطئة في حساباتي.

فيوم جاء مُنير مع أبوَيه للتعرّف إلى ماجدة وطلَب يدي منها، خرجوا ليختفوا مِن حياتي إلى الأبد. فبعد أن استمعَت إليهم وقدّمَت لهم القهوة، قالَت لهم عمّتي بكل بساطة:

 

ـ تبدون لي أناسًا طيّبين، لِذا لن أغشّكم. لا أنصحُكم بتاتًا بابنة أخي، فأمّها كانت إمرأة فاسدة أخلاقيًّا ولقد خانَت أخي بوقاحة غير مسبوقة. إلا أنّ الله عاقبها وأنهى حياتها البائسة هي وعشيقها. ولا بدّ أنّ ابنتها ورثَت منها مزاياها البشعة، وأنا متأكّدة مِن أنّها ستخون إبنكم في أوّل فرصة تُتاح لها. ناهيكم أنّ جلبها إلى عائلتكم الفاضلة سيُلطّخ سمعتكم إلى الأبد. القرار هو قراركم.

 

بكيتُ كلّ دموعي وحبستُ نفسي في غرفتي، وبدأتُ إضرابًا عن الأكل هدفه التعبير عن إستيائي لِما آلت إليه حياتي. إلا أنّ ماجدة لَم تتأثّر لفكرة فقداني بل العكس، فقد قالَت لي:

 

ـ أحسنتِ... لا تأكلي ولا تشربي وستموتين قريبًا، وهكذا تتحقّق العدالة الالهيّة!

 

بعد سماعي ذلك، أدركتُ أنّ عليّ البقاء على قَيد الحياة لأثبتَ لتلك المرأة الشرّيرة أنّ الله يُحبّني لأنّني فتاة صالحة لا ذنب لي بما فعَلَته أمّي. عُدتُ آكل، وأكثر مِن السابق، الأمر الذي أزعَجَ عمّتي.

ومنذ حادثة زيارة أهل مُنير، قرّرتُ عدَم التأمّل بالزواج، على الأقل طالما ماجدة على قيد الحياة. وإن كنتُ سأحبّ أحدًا، فسأُبقي الأمر سرًّا وأتصرّف خفية عنها.

كان لي عطش لعاطفة الناس بعد أن حُرمِتُ مِن حنان أمّي وعائلتها وأبي وأخته، وصِرتُ أجد سعادتي بين مَن هم غرباء عنّي، لا يعرفون السرّ الثقيل الذي كنتُ أحملُه على كتفيَّ.

 


مرَّت حوالي السنتَين إلى أن دخَلَ رامي حياتي. كان ذلك الشاب يُمثّل كلّ ما أطلبُه، أي أنّه وسيم وذكيّ ومحبّ. وخفتُ طبعًا أن يهرب منّي كما فعَلَ مُنير، لِذا أخبرتُه قصّة والدتي والأجواء التي أعيشُ فيها، وذلك مِن أوّل الطريق كي يأخذ قراره بسرعة ولا يُحطّم قلبي المُتعب. وبالرّغم مِن ادّعائه بأنّه لا يُبالي بما فعلَته أمّي أو ما ستقولُه عمّتي، بقيتُ على حذري، ففي بلداننا الشّرقيّة الأولاد هم رهن أهلهم وحياتهم ليست حرّة كما قد يعتقدون. فحتّى لو قبِلَ رامي بوضعي، فسيرفضُني حتمًا أهله.

عانى رامي مِن برودتي تجاهه مع أنّه كان يعلم مدى حبّي له، واحتارَ بأمري. وكي يطَمئنّ قلبي، أخذَني إلى ذويه ليُعرّفهم إليّ وقال لهم أمامي:

 

ـ أحبّ هذه الفتاة التي هي قدوة في الأخلاق، وأنا متأكّد مِن أنّها ستكون زوجة مُحبّة ووفيّة وأمًّا صالحة، وهذا بالرغم ممّا يُقال عن والدتها التي، ولأسباب مجهولة، قد أحبَّت غير زوجها. الخيانة لا تُورَّث، فهي ليست داء بل نتيجة ظروف تراكَمت مع مرور الوقت. لا أحد يولَد خائنًا بل يُصبح كذلك في وقت مِن الأوقات. فكَم مِن المُجرمين لدَيهم أولاد صالحون، وكمَ مِن الصّالحين لدَيهم أولاد مُجرمون... لن أقبَلَ بسواها فأنا أعرفُ في قرارة نفسي أنّها نصفيَ الآخر.

 

إحمّر وجهي لدى سماع ذلك، وهزّ أب رامي رأسه لِحكمة ابنه وعانقَتني أمّه مرحبّة بي في العائلة. خلتُ في تلك اللحظة أنّني انتصرَتُ على ماجدة، لكن كَم كنتُ بعيدة عن معرفة مدى شرّها وإصرارها على تدميري!

كانت ماجدة قد لاحظَت عليّ سمات الفرَح لعَيشي حبًّا جميلاً، فهي التي ربَّتني وباتَت تعرفُني ظهرًا عن قلب، فقرَّرَت معرفة سبب هذا التغيير في نفسيّتي. وكان هدفها الأوّل طبعًا إنتزاع أيّ بصيص فرَح مِن قلبي. لِذا، أوكلَت إبن الناطور بمراقبتي على مدار الساعة مقابل مبلغ مِن المال. وحين أخبَرَها هذا الأخير أنّني أواعدُ شابًّا وأرافقُه إلى بيته وأجلس مع أهله، عزَمَت عمّتي أن تضع حدًّا لتلك العلاقة وبشكل مباشر وسريع. لِذا، فتّشَ ابن الناطور عن رقم هاتف رامي، وبدأ يبعثُ إليه رسائل مفادها أنّه أيضًا صاحبي وأنّني أواعد شابَّين في الوقت نفسه. وليُقنعُه بما يزعمُه، أعطاه تفاصيل دقيقة عن نهاري وليلي وصوَرًا لي في أماكن مُختلفة، الأمر الذي كان سهلاً عليه لأنّه يسكنُ في المبنى نفسه ولأنّه يلحقُ بي أينما أذهب.

لَم يُصدّق حبيبي تلك المزاعم، لأنّه كان يعرفُني جيّدًا ويعرفُ مدى كره عمّتي لي، ولأنّ المرسل المجهول لَم يبعث له سوى صوَر لي وأنا وحدي، أي مِن دون رجل بصحبتي، الأمر الذي كان يتنافى مع تهمة الخيانة. وعندما أخبرَني رامي بما يحصل، صِرتُ أنتبه لوجود إبن الناطور ورائي طوال الوقت.

عادَ كلّ شيء إلى طبيعته بعدما انكشفَت الخطّة، لكن بقيَ أمر واحد عالقًا: إصرار أهل رامي على التعرّف إلى عمّتي وطلَب يدي منها كما تجري الأمور عندنا. كنتُ أخشى تلك اللحظة كثيرًا، بالرّغم مِن أنّ ذوي حبيبي كانوا على علم بأمر أمّي. فماجدة كانت قادرة على قلب الموازين كلّها.

هل تدخَّلَ الله في ذلك اليوم أم أنّ ما حدَثَ هو وليد صدفة بحتة؟ لا أملكُ الجواب، لكنّ النتيجة كانت مُرضية في الحالتَين.

فحين جاءَ والدا رامي إلينا يحملان الحلوى وجلسا مع إبنهما في صالوننا، أخذَت عمّتي بالتحدّث عنّي وعن طفولتي، الأمر الذي لَم يكن خطِرًا بحدّ ذاته. لكن عندما بدأَت بالقول: "أريدُ مصلحتكم ولا أريدُ غشّكم..."، أمسكَت ماجدة فجأة بذراعها الأيسر وصَرَخَت ومِن ثمّ وقعَت أرضًا. لَم تُفِدها الإسعافات الأوليّة التي قامَ بها رامي عليها، فماتَت على الفور. أمّا أنا، فبقيتُ مُحتارة بالموقف الذي عليّ اتّخاذه. عانقَني حبيبي مُعتقدًا أنّني سأبدأ بالبكاء وأُصابُ بالأسى العميق، إلا أنّني أغمضتُ عَينَيّ وشكرتُ ربّي على ما حصَل. فقد كانت تلك الأفعى تحاولُ تدميري مرّة أخرى، وها هي تموت مختنقة بالسمّ الذي بثَّته على مدى عشرين سنة.

تزوّجتُ بعد شهرَين مِن دفن عمّتي كي لا يظنّ أهل رامي أنّني ناكرة لجميل التي ربَّتني. لَم أدعُ أبي لحضور الفرَح، لأنّه لم يسأل عنّي يومًا ولأنّني، وبكل بساطة، لم أكن أعلم بمكان وجوده.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button