منذ اللحظة الأولى التي رأتني فيها حماتي كرهتني. هي عازفة بيانو سابقة مشهورة جداً وأنا مجرد موظفة بسيطة لا تستحق شرف الحصول على ولدها المحبوب. إنّ شاكر ولد وحيد فَقَد والده باكراً وكان كل شيء بالنسبة لسلمى والدته. إنّه ابن تاجر غني تربّى بطريقة مختلفة تماماً عن تربيتي. خطّطت أمّه لزواجه من ابنة صاحب مصرف أوضاعه المادية ممتازة، فبين العائلتين صداقة قديمة وكان زواج الولدين من بعضهما مرسوماً.
ولكن حين دخلت إلى حياة ابنها دمّرت بلحظة كل الأحلام الجميلة التي بنَتَها الأم. التقيت بشاكر في مكان عملي يوم جاء يلتقي برئيسي وهو محامٍ مشهور. أغرمنا ببعضنا على الفور وكنت في نظره المرأة المثالية التي من شأنها أن تسعده بالفعل. بعد أن حاولت سلمى جاهدةً أن تمنع ذاك الحب باءت بالفشل فاضطرت لأن تخضع للأمر الواقع وتوافق على زواجنا بشرط أن نسكن معها في المنزل!
كان شهر العسل الذي أمضيناه في البندقية أسعد وقت تشاطرته مع زوجي، فلدى عودتنا كان الغرفة جاهزة ومنسّقة حسب ذوق سلمى التي رفضت أن نجري عليها أي تعديلات. بدا واضحاً أنّها لا تحبّذ فكرة استمرارنا في العيش تحت سقف واحد، لذا أخذت تمارس عليّ كل الضغوط الممكنة لكي أخرج من حياة ابنها.
أطلعت شاكر على مخاوفي ولكنّه لشدة حبه لوالدته لم يكن ليشك للحظة في أنّ نواياها سيئة. كانت علاقتهما متناغمة جداً ويعيشان كثنائي، فبعد وفاة زوجها اعتبرت سلمى أنّ شاكر رجُلها وقد أدّى هذا الأخير الدور بسرور وفخر. فوجدت نفسي وسط ذاك الرابط القوي عاجزةً عن فكه.
بدأت حماتي بالتخلص من هرّي الذي كان الرابط الوحيد لي مع الماضي فقد جلبته معي وبفضله تغلبت على الوحدة. في أحد الأيام اختقى الهر ّولم أعرف ما حل به ولكن لدى رؤية ردة فعلها حين رحت أبحث عنه في كل مكان فهمت أنّها المسؤولة عن اختفائه. ومع غياب الأدلة الحسّية كنت بالتأكيد عاجزة عن إقناع شاكر بأنّ والدته قادرة على إيذائي. فوجب علي مرة جديدة أن ألزم الصمت.
كان زوجي يسافر كثيراً بفعل تجارة القماش التي أجبرته على التجول حول العالم بحثاً عن أفخم الأقمشة. وبما أنّه أصرّ على أن أترك عملي لأنّه لا يتناسب مع مستواه، صرت مجبرة على التعايش مع من كنت أسمّيها خفية "الوحشة". ومن أجل القضاء على وحدتي أخبرت شاكر برغبتي في إنجاب طفل ولكنّه تمنّع بعد أن أقنعته والدته بأنّ الوقت مبكر للأولاد، ففي الواقع من شأن الولد أن يقضي على مشروعها.
كانت سلمى تعاملني ببرودة ولم تكن تفوّت أيّ مناسبة لتذكرني بوضعي فكان عليّ دائماً أن أراقب كلامي وطريقتي في اللبس والمشي والأكل... وكان مستحيلاً أن تشركني في أمسياتها أو سهراتها لأنّها تخجل بي. في أحد الأيام، فاجأتني بدعوة حوالى عشر من صديقاتها الراقيات إلى الغداء ومن بينهنّ سوزان التي كان من المفترض أن تتزوّج شاكر. ألحت عليّ سلمى لأحضّر الطعام بالرغم من أنّها تعرف قلة خبرتي في هذا المجال. وقد كان الفخ محكماً مع قائمتها المستحيلة والمتكلفة جداً. وما إن جلست المدعوّات على المائدة وبدأنَ بتذوّق الطبق الأول حتى انفجرنَ بالضحك فشرحت لهنّ سلمى أنّني معتادة على البطاطا واللفت ولكنّني مع الوقت سأتحسّن. غرقت عيناي بدموع الخجل والغضب ولجأت إلى غرفتي واتصلت بزوجي لأخبره بما حصل ولكنّه طلب مني ألاّ أعظّم الأمور محاولاً إقناعي بأنّ والدته قد فعلت ما فعلته لتشجّعني.
لم يلقِ يوماً الخطأ عليها بل عليّ أنا. ثم، في أحد الأيام، أصيب شاكر بمرض خطر جراء فيروس التقطه خلال أحد أسفاره وقد أربك الأطباء لأنّه لم يتفاعل مع المضادات الحيوية بل أخذت حالته تسوء. قلقت عليه شديد القلق ولم أفارق سريره في الليل ولا في النهار. أرادت سلمى أن تعيدني إلى بيت أهلي ولكنني للمرة الأولى وقفت في وجهها وقاومتها. أثناء مرض زوجي لم يزره أحد سوى حماتي وأنا فكنا الشخصين الوحيدين في العالم اللذين لم يخشيا الاقتراب منه.
على مر الأيام بدأت الروابط تصير أقوى بيننا فلكلينا الهدف ذاته وهو تكريس الحياة للرجل نفسه. في وجه المرض بدأت تزول الاختلافات ودخلت رويداً رويداً الحميمية والصداقة إلى الخط. راحت تنظر إليّ بطريقة مختلفة مفسحةً المجال أمام قلبها ليقودها فأدركتّ أنّ الألقاب والمستويات والحسابات المصرفية بلا قيمة وأنّني الوحيدة القادرة على إسعاد ابنها والاعتناء به.
في النهاية، نجح شاكر في التغلب على المرض وبدأنا حياة جديدة نحن الثلاثة وقد أبصر ابننا الأول النور في السنة التالية وكانت سلمى سعيدة جداً وكذلك أنا.
حاورتها بولا جهشان