حلّلَ إخوَتي دم أختي

أذكر كم كنّا في ما مضى سعداء. كنّا أربعة أولاد: بنتَين وشابَين وكنّا على تفاهم تام قبل أن يموت أبي وتقول أمّي لِمازن ويوسف أنّهما أصبحا مسؤوليَن عن العائلة وعليهما السهر على شرفنا وسمعتنا. ولأنّهما كانا لا يزالا مراهقَين أخذا الموضوع على محمل الجَدّ أكثر مِن اللازم بكثير. ومع أنّني وأختي مَريم كنّا أكبر منهما سنّاً أصبحنا رهن إرادتهما فقط لأنّهما ذكور ولأنَ هذا هو مجتمعنا الشرقيّ. وبدأا يمارسان سلطتهما علينا بكل شيء بدأً مِن طريقة لبسنا إلى خروجنا حتى لو كان عند الجيران والأقارب. وكلّما إشتكَينا لأمّنا كانت تجاوب:"عليكنّ سماع كلمة رجُلا البيت." وإستغربنا لهذه القساوة لأنّ أبي لم يكن هكذا بل كان إنساناً مُنفتحاً ومتحضّراً وهذا بالرغم أنّه ولِدَ وعاشَ وماتَ في قريتنا الصغيرة.

ومع مرور الأيّام إعتدنا على العيش تحت نظام توتالتاري لا يقبل الحجج والإستثناءات. ولكنّ يوسف كان أقل قساوة مِن أخيه ولا أظنّ أنّه كان مقتنعاً بالذي يفعله ولكنّه كان مجبراً على الإنصياع لِمازن الذي كان يحمل حقداً كبيراً ضدّ المرأة الحرّة والمستقلّة ويشدّد كثيراً على رأي الناس بنا. وأظنّ أنّ هذه الأجواء الثقيلة هي التي دفعَت مريَم إلى البحث عن الحبّ آملة أن تجد في مكان آخر الدفء والإطمئنان.

ولكن كما نعلم جميعاً يكون الحب غالباً أعمى فإختارت المسكينة شاباً عيبه الوحيد أنّه إبن الرجل الذي رَبِحَ مناقصة على قطيع أغنام كان مازن يريده فولِد لدى أخي حقداً كبيراً تجاه هذه العائلة. وعندما أخبرَتنا أختي أنّها مغرمة بوليد وأنّه يوّد الزواج منها لاقَت إعتراضاً قويّاً وممانعة شديدة. بكَت مريَم كثيراً وعملتُ جهدي على تهدئتها وإقناعها بأنّ تعدل عن مشروعها لأنّني كنت أعلم أن أخي لن يغيّر رأيه مهما حاولَت. ولكنّها كانت تقول لي في كل مرّة:

 


ـ لو ترَين يا أختي كيف يعامل وليد أخته... يحبّها ويحترمها ويريد لها أن تكون سعيدة... كيف لي ألاّ أحبّه؟

 

ـ أفهمكِ ولديكِ دعمي ولكنّكِ تعلمين كيف هما مازن ويوسف... أخشى منهما عليكِ خاصة أنّ أمّنا لا تريد التدخّل بعدما سلّمَت زمام الأمور ل"ذكرَيها."

 

ـ لن أقبل بالعيش هكذا بعد الآن... الموت أفضل!

 

ـ لا تقولي هذا أرجوك...

 

ولم نكن نعلم آنذاك أنّ الموت كان يحوم حولنا خاصة بعدما قرّرَت مريَم أن تتزوّج سرّاً وتضع الكل أمام الأمر الواقع. حتى أنا لم أكن أدري ما كانت تحضّره وتفاجأتُ بها تختفي مِن البيت. بحثنا عليها في كل مكان وبعد ساعات قليلة وصلنا خبر هروبها مع وليد وزواجهما في ضيعة مجاورة. عندها صَرَخَ مازن بأعلى صوته:"لقد أصبح دمها محلّلاً!" وأذكر أنّني شعرتُ بالغرفة تدور مِن حولي ومِن ثمّ أُغميَ عليّ.

وعندما إستفقتُ وجدتُ العائلة بأسرها مجتمعة يتحاورون حول سبل معاقبة العريسَين. عندها قمتُ مِن مكاني وسألتُهم لماذا كل ذلك الغضب بعدما أصبحَت زوجة الرجل شرعيّاً. أجابَني مازن:

 

ـ لا يهمّ... لقد عصَت أوامرنا وعليها أن تدفع الثمَن.

 

ـ الثمَن؟ وأي ثمَن تتكلّم عنه؟

 

ـ حياتها.

 

ـ حياتها ليست ملككَ لكي تتصرّف بها كما تشاء... هي ملك الخالق... ولستَ موكلاً على أحد... أذكّركَ أنّكَ أصغر سنّاً مِن مريَم وهي راشدة.

 

ـ أنا رجل! ألا يكفي ذلك؟


عندها فضّلتُ السكوت لأنّني أدركتُ أنّ لا فائدة مِن مناقشة إنساناً يظنّ نفسه يملك الناس ومصيرهم فقط لأنّه ذكر. وقصدتُ أمّي ورأيتُها تبكي فقلتُ لها:

 

ـ أهذا ما كنتِ تريدينه؟

 

ـ لا... أردتُ أن يكون لكمنَ مَن يحميكما...

 

ـ مِمَن؟ مِن ماذا؟ لقد خلقتِ وحوشَين متعطّشَين للدماء... وعليكِ الآن إصلاح ما فعلتِه.

 

وأمَرَ مازن أخاه يوسف بأن يربّي ذقنه مثله وألاّ يحلقها إلاّ عندما يُغسل العار وإنتظرا كاللصوص اللحظة المناسبة لتنفيذ العقاب.

وفي هذا الوقت كانت والدتي قد إستعانَت بكل مَن بإستطاعته تهدئة الأجواء وإقناع ولدَيها بالعدول عن قتل إبنتها فجاءَت بالمختار ورئيس البلدية. ودام اللقاء ساعات طويلة تعالَت خلاله الأصوات ثمّ هدأت بعدما قَبِلا مازن ويوسف أخيراً بمسامحة مريَم على شرط أن تأتي هي وزوجها ويقيمان فرحاً كبيراً في البيت لكي يرى الجميع أنّهما قد تزوّجا فعلاً.

 


وركضتُ أزفّ الخبر لأختي التي لم أرَها منذ ما تركَت المنزل. كان لقاءنا حارّاً ومليء بالدموع والقُبل. وبعدما تأكّدَت مِن حسن نيّة إخوتنا قَبِلَت أن تأتي. وبدأت أمّي وكل مَن كان يحبّنا بتحضير الحفل وأذكر أنّنا كنّا فعلاً سعيدين أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه سابقاً. ودَعَينا الضيعة بأكملها لنتقاسم معهم الفرحة وجاءَت مريَم قبل زوجها الذي كان سيلحقها بعد ساعتَين. ولكن لم يكن مازن أو يوسف موجودَين لإستقبالها فظنّنا طبعاً أنّهما لا يزالا مشغولان في تحضير آخِر التفاصيل فَدَخَلت أختي لترتدي فستانها الأبيض الذي جَلَبته معها. لحقتُ بها إلى الغرفة لأساعدها وعندما إنتهَينا وأوشكنا على الخروج تفاجأنا بمازن ويوسف قادمَين إلينا والغضب بانٍ في عينيهما.

وعندما رأتهم مريَم قالت لي بصوت يرتجف مِن الخوف:"أنظري... لم يحلقا ذقنهما..." وعلمنا في قرارة نفسنا أنّ الفرح كان فخّاً نُصِبَ لمريَم ولم يكن بنيّتهما أبداً أن يسامحانها. عندها قال مازن ليوسف:"هيّا... تعلم ما عليكَ فعله." وركضتُ أقف بينهما وبين مريَم أصرخ لهما:"لا! لن أدعكما تفعلان ذلك!" وأخرجَ يوسف مِن جيبه مسدّساً وصوّبه نحونا ويده ترتجف لأنّه لم يكن يريد قتل أحد ولكنّ أخوه كان يأمره بأن يفعل:"ماذا تنتظر؟ إقتلها! إقتلها!"

وفي تلك اللحظة بالذات وضَعَت مريَم يدها على صدرها وسقطَت أرضاً مِن دون أن يلمسها أحد. ركعتُ قربها لأرى ما حصل لها وإكتشفتُ أنّها كانت قد ماتَت بعدما توقّفَ قلبها مِن الخوف والحزن. نظرتُ إلى إخوتي بِكره عميق وخرجتُ أصرخ لمَن يريد سماعي:"ماتت مريَم! ماتَت مريَم!" وقبل أن يدخل الناس إلى الغرفة لرؤية ما حصل سمعنا صوت طلقة ناريّة ورأينا مازن واقفاً فوق مريَم والمسدّس بيده يقول:"لقد أقسمتُ على قتلكِ." كان أخي قد أطلق النار على جثة أختي الهامدة فقط لأنّه وعَدَ أن يفعل. ولم أتصوّر أن يكون هذا الكمّ مِن الغضب موجوداً في الدنيا لِذا تركتهم جميعاً واقفين حول المسكينة أختي وهربتُ بعيداً. وبقيتُ أركض وسط الليل حتى أن وصلتُ إلى الضيعة المقابلة لأنذر وليد بألاّ يذهب إلى بيتنا لكي لا يحظى بذات المصير. وعندما أخبرتُه بالذي حصل إنهارَ كليّاً ثم صمّمَ على الإنتقام ولكنّني ردعتُه قائلة:

 

ـ كفى دماء! ماتت أختي ولن أسمح بأن يموت شخصاً آخراً!

 

وأقنعتُه بأن نبقى مُختبئين في تلك الضيعة لأنّنا كنّا نحن الإثنين بِخطر. وكنتُ أعلم أنّ إخوتي لن يحاولا المسّ بنا طالما كنّا هناك ما أعطاني الوقت الكافي لِترتيب هروبي إلى الخارج عند أقارب لنا لَم أراهم في حياتي. ولكن عندما كتبتُ لهم وأخبرتُهم بالذي حصل أسرعوا بِطلبي وسهّلوا سفَري إليهم. لم أودّع أحداً حتى أمّي التي كانت السبب في موت مريَم وأخذتُ وعداً مِن وليد بألا ينتقم لِزوجته وغادرتُ البلاد مِن غير أسف. ولكن بعد وصولي بأقل مِن شهر علِمتُ أنّ وليد قتل مازن وأنّ يوسف يريد بِدوره الإنتقام وسألتُ نفسي متى سنتخلّى عن كل تلك السخافات التي لا تجلب سوى الحزن والدموع.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button