حلمت بأن أصبح أميرة

كَم مِن أب أو أمّ دمّروا مِن دون قصد حياة أولادهم وسبّبوا لهم التعاسة أو حتى الهلاك؟ العديد منهم، للأسف... فحين نُرزَق بطفل، نَعِدُ أنفسنا بحمايته وإسعاده بأيّة طريقة، لكن تلك الوعود صعبة الإلتزام بها حين تدخلُ مُعطيات أخرى على الخطّ. وأنا ظننتُ أنّني سأكون أمًّا مثاليّة، وأعيش سعيدة مع زوجي وأربّي إبني ليُصبح أفضل رجل على الإطلاق، لكن أيًّا مِن ذلك لَم يتحقّق بل اتّسمَت حياتي بفشل ذريع وحزن لا يُقاس. هذه قصّتي وأرجو مِن الذين سيقرأونها أخذ العبرة منها، أكانوا رجالاً أم نساءً.

دخَلَ حامد حياتي حين كنتُ لا أزال في السابعة عشرة مِن عمري، وأنا لَم أرَه حينها إلا مرّة واحدة عند أقرباء لي. كان ذلك الرجل وسيمًا ومُثيرًا للإهتمام، وقضى وقته يُخبرُنا عن مُغامراته المشوّقة كونه مِن عائلة ملكيّة كانت قد خسِرَت لقَبها واضطرَّت للعيش كسائر الناس. أثَّرَ بي ذلك كثيرًا لأنّني إبنة أناس أثرياء، وأعلمُ كَم هو صعب أن يُغيّر المرء نمَط حياته. لكنّني أُعجبتُ بتفاؤل حامد وطباعه المرحة بالرغم مِن ظروفه. وفي الليلة نفسها، حلِمتُ أنّني أميرة أجلسُ على عرش مِن ذهب، وإلى جانبي حامد وهو ينظرُ إليّ بحبّ وافتتان.

سافَرَ حامد ليبحث عن وسيلة قانونيّة لاستعادة لقَبه، حتى لو كان ذلك صوَريًّا، وأنا نسيتُه لأُكمل دراستي وأصبح مُهندسة.

وذات يوم وصلَني خبر مِن هؤلاء الأقارب مفاده أنّ حامد قد عادَ ويودّ رؤيتي. إبتسَمتُ للخبر وقبلتُ الدعوة.

كان حامد قد صارَ أكثر نضوجًا واتّزانًا ويودّ شيئًا واحدًا في الدنيا: الزواج منّي. إعتبرتُ الأمر فخرًا لي، فبالرغم مِن ثراء ذويّ، لَم يكن لنا لقَب أو نسَب بل كان أهلي تجّارًا إغتنوا بفضل مهارتهم، وكان حلمي سيتحقّق. دبَّرتُ موعدًا له مع والدي وسارَت الأمور على أفضل وجه. أقامَ لنا أبي عرسًا يتناسبُ مع دخول إبنته الحياة مِن بابها العريض ودعا لنا بالتوفيق.

 

إشترى لنا والدي بيتًا جميلاً وكلّ مُستلزماته، ووضعتُ كلّ شيء باسم حامد كي لا يشعر بأنّني أديرُ حياته. أعلم ما ستقولونه عن ذلك وأنتم على حقّ. لكن في ذلك الحين لَم أرَ أبعاد أمور إعتبَرتُها بديهيّة. إضافة إلى ذلك، كان عريسي مُغرمًا بي إلى أقصى درجة، ولَم أتصوّر للحظة أنّ هنائي سينتهي يومًا. حمِلتُ بابني فؤاد على الفور وولادته كانت بمثابة تتويج لسعادتي. بقيَ حامد يُسافر بين الحين والآخر ليستطلع على أمور نسَبه العريق ويأتي لي بالأخبار السّارّة: كنتُ سأصبحُ قريبًا أميرة حقيقيّة!

لكنّ الواقع كان أنّ زوجي هو مُحتال مُتمرّس يلعبُ لعبته هذه على كلّ مَن يلتقيه خاصّة على الصبايا، وحصَلَ أن أكون أغباهنّ على الإطلاق.

أقنعَني حامد بأن أشتري له شقّة تليقُ به في ذلك البلد كي لا يضطرّ في كلّ سفرة إلى المكوث في الفندق، الأمر الذي لا يتناسب طبعًا مع كونه أميرًا. وكبُرَ إبننا بهدوء وأنا تحضّرتُ إلى دخول مُجتمع راقٍ مِن خلال قراءة كلّ ما يتعلّق بالحياة الملكيّة، وأخذ دروس خصوصيّة بالبروتوكول.

وفي تلك الأثناء كان حامد قد تزوّجَ سرًّا في الخارج مِن إمرأة أحبَّها فعلاً، وصارَ يصرفُ عليها مِن مالي. وعلِمتُ لاحقًا أنّه أيضًا أنجَبَ منها توأمَين نعِما هما الآخران بثروتي.

بقيتُ أجهلُ ما يحصل من وراء ظهري إلى أن جاءَ حامد بنفسه يزفّ لي خبر تركه لي، لأنّه لَم يكن يُحبّني ولأنّه كذِبَ عليّ بشأن كونه أميرًا. في البدء لَم أصدّقه بل خلتُها لعبة لإختبار حبّي له، فتصرّفتُ وكأنّ شيئًا لَم يكن إلى حين وصلَني إشعار مِن المحكمة بإخلاء المنزل. عندها أدركتُ أنّ الأمر جدّيّ للغاية. إلتجأتُ وإبني إلى أبي الذي شعَرَ بالعار لأنّه صدّقَ حامد، فألقى اللوم عليّ وطلَبَ منّي إيجاد مكان آخر وتركه يُفكّر بطريقة لتفادي كلام الناس.

قضية طلاقنا إستغرقَت سنوات لتشعّبها ولكميّة المال المُتنازَع عليه، فكان حامد يُريدُ حصّة مِن أموالي بذريعة أنّه قضى معي سنوات عديدة يتحمّل خلالها طَبعي الصعب وغيرتي المُبالَغ بها. لَم يكن ذلك صحيحًا طبعًا لكن كيف لي أن أثبتُ ذلك؟ هو جاء بشهود زور أمّا أنا فاكتفَيتُ بالنكران.

حين خسرتُ الدعوى كان فؤاد قد بلغَ الرابعة عشرة مِن عمره وأصبَحَ مُراهقًا لا لوَن ولا صوت له. كنتُ ضمنًا سعيدة أن يكون هادئًا وغير مُتطلبّ كي أتفرّع لمشاكلي مع ذلك النصّاب اللعين. ولكثرة انشغالي بنفسي لَم أرَ ما كان يتحضّر.

بعد الطلاق غصتُ بالكآبة وبدأتُ أشرب الكحول، فلَم أتقبّل أن ينتصرَ حامد عليّ ويأخذَ منّي ما يُريدُه لصرفه على عائلته الثانية. لكنّه كان في آخر المطاف يتمتّع بحياة هنيئة معهم بعكسي. فأهملتُ فؤاد مُجدّدًا حتى عندما تعرّفتُ إلى رجل إستطاع نشلي مِن كآبتي. فلَم أصدّق أن أُعطى فرصة أخرى وتمسّكتُ بحبيبي مُصمّمة على إنجاح تلك العلاقة مهما كلّفني الأمر... وكان الأمر سيُكلّفني الكثير!

 

أجل، فخلال إنكبابي على نفسي، لَم أرَ كَم أنّ إبني فؤاد صار سمينًا، وهذا الأمر دلالة على خلَل نفسيّ عميق. فقد كان المسكين يجد الراحة في الأكل والخمول، ربمّا بانتظار أن أهتمّ به أخيرًا، لكنّ ذلك لَم يحصل. فبدأتُ التحضيرات لزفافي الجديد ولَم أسأل إبني عن رأيه بالموضوع، وكأنّه لَم يكن حتى جزءًا مِن المُعادلة. لا تُسيئوا فهمي، كنتُ أحبّ إبني إلى أقصى درجة، لكنّني لَم أُدرِك أنّه تعيس أو حتى بحاجة إليّ، لأنّني اعتبرتُ نفسي الضحيّة الوحيدة لِما فعلَه حامد. نسيتُ أنّ ذلك الرجل هو أب إبني، ورحيله قد أثّر كثيرًا عليه وأنّ قضيّة الطلاق الطويلة والشرسة أحبطَته، وأنّ علاقتي الجديدة وزواجي الجديد أحدثا خللاً في توازن إبني النفسيّ. كنتُ غارقة بعالمي ورأيتُ حبيبي بمثابة سترة نجاتي.

كلّ تلك المُعطيات أدَّت إلى الكارثة التي كانت محتومة. ففي أحد الأيّام، وقبل زفافي بأسبوعَين، شنَقَ فؤاد نفسه. ماتَ إبني مِن كثرة ضياعه ووجعه. هو فضَّلَ الموت على الإستمرار بلعبة هو لَم يكتب قوانينها. ماتَ إبني بسببي، أجل بسببي لأنّني كنتُ الوحيدة القادرة على انتشاله مِن حالته، وحَمله على حبّ الحياة. هذه هي مهمّة الأم وكنتُ قد فشلتُ بها.

كيف تلقَّيتُ الصدمة؟ لن أستطيع وصف شعوري حين دخلتُ البيت ورأيتُ فؤاد مُعلّقًا يتأرجحُ مِن دون حياة. كان بإمكاني الإنتحار أنا الأخرى، لكن بعد تفكير عميق قرّرتُ أن أكفّ عن البحث عن الحلول السريعة. كان لا بدّ لي أن أُدرك ما فعلتُه بذلك الصبيّ الجميل والحسّاس. وأبشعَ ما في الأمر، هو أنّني لا أذكرُ شيئًا مُعيّنًا عن فؤاد خلال فترة طلاقي وتعارفي بحبيبي. كان الأمر وكأنّني لَم أنظر حتى إلى ولدي.

خبرَ موت فؤاد أحزنَ حامد لكن ليس إلى درجة أن يشعر بالذنب. فهو أيضًا لعِبَ دورًا في موت إبننا، ولكن كان لدَيه ولدان آخران فلَم يشعر بالوحدة مثلي.

تركتُ حبيبي فلَم أكن لأستمرّ بأيّة علاقة أو أتزوّج وإبني يرقدُ تحت التراب.

كيف كانت حياتي منذ ذلك الحين حتى اليوم، أي على مدى عشرين سنة؟ أنشأتُ مؤسّسة تُعنى بالأيتام وأمضي مُعظم وقتي يإدارتها. وأنا أُعطي إهتمامًا خاصًا لشاب يُشبه بملامحه فؤاد، وكأنّني مِن خلاله أُصلِحُ بعض الشيء أخطائي، إلّ\ا أنّني أعلمُ أن ذلك ليس كافيًا.

بعد موت أبي وهبتُ ثروته لمؤسّسات خيريّة في البلد وحول العالم وأعيشُ وحيدة وكئيبة. أنتظرُ اليوم الذي سأموت فيه بفارغ الصبر على أمل أن أجتمع بإبني وأطلبُ السماح منه مُباشرة. نعم، كان بإمكاني الإنتحار أنا الأخرى، لكنّني اختَرتُ عقابي وهو أن أبقى حيّة أكثر وقت مُمكن.

أيّها الناس، لا تٌنجبوا إن كنتم غير أهل لذلك، فأولادكم قد يعيشون جحيمًا يوميًّا بسبب خلافاتكم أو إنكبابكم على أنفسكم. الحياة لا تدور حولكم ومشاكلكم، بل حول ذلك المخلوق الذي لَم يطلب أن يُخلَق ويعيش بسلام وهناء، وأن يكبر ليُصبح إنسانًا مُتوازنًا قادرًا على مواجهة الحياة التي تنتظره بقوّة وعزم، وبقلب مليء بالحبّ نفسه الذي حصَلَ عليه منكم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button