حلم أنقظ شركتي

كنتُ أعلَم أنّ منذر زوجي يأخذُ مِن مال الشركة، لكنّني سكتًّ كَي لا أخلقَ المشاكل بيننا، خاصّة أنّها كانت مبالِغ صغيرة. فالحقيقة أنّ زوجي مِن عائلة مُتواضِعة وأنا مِن عائلة ثريّة، لهذا أفهمُ إلى حدٍّ ما حاجته إلى الاستفادة منّي ومِن شركة أبي للشعور بالأمان. فليس مِن السهل على الرجُل أن يعمَل عند حماه، وأن يطلبَ مِن زوجته مالاً إن هو أرادَ شيئًا إضافيًّا لنفسه.

أذكرُ يوم علِمَ منذر ابنة مَن أكون، كيف تغيّرَت ملامحه وانزوى على نفسه ثمّ قالَ لي:

 

ـ مِن الأفضَل ألا نرى بعضنا بعد اليوم... فأنا إبن عامل بسيط لا يُجيدُ القراءة أو الكتابة ولستُ ابن حسَب ونسَب... عليكِ إيجاد رجُل مِن طبقتكِ الاجتماعيّة.

 

ـ لكنّني أُريدُكَ أنتَ يا منذر. إضافة إلى ذلك، نعيشُ في عصر حيث الاعتبارات الاجتماعيّة صارَت بالية.

 

ـ لا أجني ما يكفي لتأمين لكِ ما اعتدتِ عليه.

 

ـ لا تُبالي... دَع الأمر لي.

 

وحين تأكّدتُ مِن أنّ منذر هو رجُل حياتي، كلّمتُ أبي بالموضوع، طالبةً منه إيجاد وظيفة له في شركته حيث كنتُ أنا أعملُ نائبة له. كنتُ أعلَم أنّ والدي لن يرفُض منذر، فهو الآخَر بدأ فقيرًا وساعدَه شخص آنذاك، وها هو مِن أكبر الأثرياء ورجال الأعمال. إضافة إلى ذلك، لَم يرفض لي طلبًا يومًا، خاصّة بعد أن توفّيَت والدتي وتركَتني ابنة وحيدة مع أبي. وكما توقّعتُ، لَم يُمانِع والدي، بل سألَني فقط إن كنتُ مُتأكّدة مِن اختياري لزوجي المُستقبليّ، فأجبتُه بأنّني أكثر مِن مُتأكّدة. تمّ الزواج وأمِلتُ أن تكتمِل حياتي، فالحبّ هو ما كان ينقصُني.

لكنّ زوجي ظلّ يُعاني مِن الفرق بيننا، مع أنّ راتبه في الشركة كان عاليًا ويُتيحُ له العَيش كأيّ رجُل مُنتِج، إلا أنّه كان يطلبُ منّي المال لأيّ سبَب. لَم أمانِع يومًا، لكنّه كان ينتقدُني باستمرار، ويتّهمُني بأنّني أتصرّف وكأنّني أعلى شأنًا منه. أنا لَم أتصرّف أبدًا معه بفوقيّة بل العكس، وكان كلامه يؤذيني ويُحزِنُ قلبي. فباتَت حياتنا الزوجيّة صعبة حتّى بعد أن جئنا إلى الدنيا بتوأمَين جميلَين. فعلِمتُ مِن جلال، أحَد كبار موظّفي الشركة، أنّ منذر يمدّ يدَه إلى مال أبي، فأسِفتُ إلى ما آلَت إليه تصرّفات زوجي.

ثمّ توفّيَ والدي الحبيب، وخسارته جلبَت إلى قلبي تعاسة كبرى، إذ أنّني شعرتُ أنّني صِرتُ وحيدة تمامًا. صحيح أنّ كان لدَي عائلتي الجميلة، إلا أنّ فقدان الوالدَين والعَيش مِن دون أخ أو أخت أمر موحِش للغاية.

لَم ألقَ مِن منذر السّنَد الذي رجَوتُه منه، بل كان همّه الوحيد كيف سيُدير الشركة، مع أنّني كنتُ صاحبتها الحصريّة بعد أن ورثتُها شرعًا. لكنّه اعتبَرَ أنّني لا أعرفُ الكثير عن عالَم الأعمال، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا أبدًا، فالجدير بالذكر أنّني ابنة أبي وكبرتُ في أجواء عمَله وساعَدتُه لأعوام عديدة وأعرفُ كلّ ما يجب معرفته. لَم أكن خائفة مِن مهامي الجديد، ففي الشركة مَن بإمكانه مُساعدتي ومواكبتي مِن أخصّائيّين وموظّفين قُدامى، بينما كان منذر موظّفًا عاديًّا للغاية. لكن كيف أقولُ لزوجي إنّني سأستلِمُ مكان أبي وليس هو؟

كان الموضوع شائكًا للغاية لكنّه ضروريّ إن كنتُ أُريدُ ملء الفراغ على رأس هرَم الشركة وتجنّب الإفلاس. فكانت هناك مُنافسة كبيرة بين شركتنا وشركات أُخرى تُعنى بالمجال نفسه، وخبَر موت والدي أفرَحَ العديد. لِذا قلتُ لِمنذر:

 

ـ سآخذُ مكان أبي في إدارة الشركة. دَعني أكمِل... لكنّكَ ستترقّى طبعًا وسيكون إلى جانبكَ مُساعد مُفيد للغاية: جلال.

 

ـ ماذا؟!؟ جلال؟ أنتِ تعرفين أنّه يمقتُني! أنا مُتأكِّد مِن أنّه يُذيعُ الأخبار السيّئة عنّي... أخبار لا صحّة لها طبعًا، وذلك منذ دخولي الشركة!

 

هو كان على حقّ في ما يتعلّق بجلال، على الأقلّ مِن ناحية الأخبار، لكنّها كانت أخبارًا صحيحة، فالرجُل أراني أدلّة واضِحة وضوح الشمس عمّا يرتكبه زوجي. ولهذا السبب قرّرتُ أن أُبقيَ ذلك الشخص الأمين بالقرب مِن منذر، فلَم أكن أثِقُ بزوجي، على الأقل في مجال العمَل. ثمّ تابَعَ منذر:

 

ـ إضافة إلى ذلك، أيّ سيّدة أخرى عاقِلة كانت ستُعطي زمام الأمور لزوجها، أمّا أنتِ، فلدَيكِ حبّ السيطرة، وتحبّين إذلال مَن هم مِن غير طبقتك الاجتماعيّة، تمامًا كأبيكِ.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! ولا تتكلّم سوءًا عن أبي فلَم يبرُد مكانه بعد! أنتَ لدَيكَ عقدة نقص، ولقد بذلتُ وأبي جهدنا لنُشعركَ بأنّكَ واحد منّا! إن كنتَ لا تريد قبول عرضي، فيُمكنُكَ التفتيش عن عمَل آخَر! فالواقع أنّكَ لا تتحلّى بالقدرة اللازمة لإدارة الشركة، وليس هناك مِن اعتبارات أخرى حملَتني على أخذ قراري. تعقَّل يا منذر!

 

وكمَا توقَّعتُ، لَم يتقبّل منذر أن تأخذَ زوجته رئاسة الشركة ورآسته، وصارَ جوّ البيت محقونًا. تأثّرَ ولدانا بالمناخ المليء بالمُشاجرات والصراخ على مدار الساعة، وبانَ ذلك على علاماتهما المدرسيّة. كنتُ أعي أنّ زوجي يفتعِل المشاكل لأستسلِم، لأنّه يعلَم كَم أنّني حريصة على عائلتي وخاصّة ولدَيّ، لكنّني بقيتُ مُثابِرة. إجتمَعتُ مع فريق العمَل في الشركة، ووضَعنا خطّة عنيفة لإظهار جدارتنا في مُتابعة أعمالنا، بالرغم مِن موت مؤسِّسها ورئيسها الذي كان قد نالَ على مدار السنوات ثقة العُملاء.

لكن في الكواليس كان عدوّي الجديد، أي منذر، يعمَل بكدّ لخلق العقبات في دربي، ناسيًا أنّ الشركة هي التي تُعيلُنا وتؤمِّن لنا حياة كريمة ومُستقبلاً مُستقِرًّا. لكن "كرامته" تفوّقَت على منطقه ولَم يعُد يرمي إلا لشيء واحد: إفشالي.

وبعد فترة ليست طويلة، تفاجأتُ كيف أنّ أرقامنا في الأسواق تراجعَت بالرغم مِن مجهودي وفريق عمَلي، فأصابَني الإحباط وظنَنتُ أنّني بالفعل غير كفوءة. هل يعقَل أن يكون منذر على حقّ؟ هل كان يجدرُ بي تسليمه زمام الأمور؟ يا إلهي، ساعدني في اتّخاذ القرار الصائب كي لا يضيعَ تعَب أبي، رحمه الله!

وفي الفترة نفسها، رأيتُ في الحلم والدي الحبيب، وأستطيعُ الجَزم بعد الذي حصَل لاحقًا، أنّ ذلك الحلم لَم يكن أبدًا عاديًّا أو ناتجًا عن عقلي الباطنيّ: فلقد رأيتُ نفسي في مكتبي، هو نفسه الذي كان مكتب المرحوم والدي، وكنتُ جالسة وسط الظلمة التامة. وإذ بضوء يظهرُ فجأة مِن تحت فتحة الباب. شعرتُ على الفور بدفء عظيم، فابتسَمتُ لأّنّني علِمتُ أنّ الآتي إليّ يُحبُّني بإخلاص ولا يريدُ أذيّتي. وكنتُ على حقّ، فلقد دخَلَ أبي المكتب ووقَفَ أمامي وهالة مِن الضوء تُحيطُ به. إبتسَمَ لي وردَدتُ الابتسامة له قائلة:

 

ـ لقد اشتقتُ لكَ كثيرًا يا بابا! لماذا تركتَني لوحدي؟!؟

 

ـ لستِ لوحدكِ يا صغيرتي فها أنا... ولدَيكِ الله الذي هو دائمًا برفقتكِ.

 

ـ أعلمُ ذلك، لكنّني مِن البشَر والفُراق صعب للغاية!

 

ـ ليس لدَيّ الكثير مِن الوقت يا صغيرتي... إفتحي الدرج أمامكِ، هيّا.

 

فتحتُ درج المكتب، ورأيتُ ورقة مكتوب عليها كلمات لَم أُحسِن قراءتها، لكن بعد ثانية واحدة، إصطفَّت الأحرف مِن تلقاء نفسها: منذر + جلال = خطَر!". نظَرتُ إلى أبي مُستفسِرة، وهو أضافَ: "لا تُضيعي الوقت، فالوضع خطير. عليّ أن أذهب الآن... لن أقولَ وداعًا بل إلى اللقاء. على كلّ الأحوال، لن أكون بعيدًا، سأحميكِ حتّى يحين وقت لَمّ شَملنا."

إستيقَظتُ باكية، ليس بسبب الرسالة بل لأنّ الحلم بدا لي حقيقيًّا، لدرجة أنّه كان يكفي ان أمُدّ ذراعي لألمُس أبي.

وحين صحوتُ تمامًا، خابرتُ فريق عمَلي وطلبتُ منهم أن يجتمعوا عندي في البيت أثناء تواجد منذر في الشركة. أمّا بالنسبة لجلال، فأوكلتُه بمهام في منطقة بعيدة لن يُنهيها إلا بعد ساعات طويلة. لكن ما لَم أفهَمه على الاطلاق، هو كيف أنّ زوجي نجَحَ في استمالَة جلال، الموظّف الذي كنتُ أثِق به الأكثر، وكيف توصّلَ الرجُلان إلى التخطيط ضدّ المؤسّسة. وحين وصَلَ الموظّفون، جلَسنا في دائرة وأوكلتُ لكلّ واحد منهم إعادة فحص كلّ الملفّات والحسابات وحركة الأعمال، والتدقيق فيها بحثًا عن خطَب ما. أكّدتُ لهم أنّ الوضع خطير وأنّ وظائفهم على المحَك، وأعطَيتُهم مُهلة مُحدّدة وتعليمات تقضي بالسرّيّة المُطلقة تحت طائلة الطرد. كنتُ جادّة للغاية وهم لمَسوا ذلك. وفي آخِر الاجتماع، وعدتُهم بمكافأة إن نجَحنا بتحديد سبَب تراجع أرقام الشركة وباستدراك الأمر بسرعة.

بعد أيّام قليلة، أي عند انتهاء المهلة وفحص جميع التقارير مِن قِبَلي، أرسلتُ ولَدَيّ إلى صديقة مِقرَّبة منّي وطلبتُ منذر وجلال إلى مكتبي. وبعد أن جلَسا قُبالتي قلتُ لهما:

 

ـ لا أدري إن كان سبب ما فعَلتماه له علاقة بكَوني امرأة وأنّ مكاني لا يجب أن يكون على رأس شركة كبيرة، أو لأنّ برأيكُما سهل التلاعُب بي، لكن اعلَما أنّكما فشِلتُما فشَلاً ذريعًا في مسعاكما. هذه التقارير الواضحة تحمِلُ توقيعيكما على أذون تخريج بضائع صحيحة وإدخال أخرى مُتلَفة، وأخرى تُفيد عن تلاعب بالحسابات وعن تبادُل رسائل مع مُنافسين لنا... أيّ أنّكما فعلتُما كلّ شيء لتدمير الشركة إمّا فقط للربح أو أيضًا لإفشالي شخصيًّا. لقد اتّصلتُ بالنيابة العامة، وقريبًا سيطلبُكما مُحقّق وستُتّخَذ بحقّكما إجراءات صارِمة. وكَونكَ زوجي، يا منذر، لن يُغيّرَ شيئًا، فأنتَ تسرقني مِن الأوّل وعليكَ أن تخجَل مِن نفسكَ! أمّا أنتَ يا جلال، فكنتَ مِن أفضل الموظّفين لدَينا وأكنّ لكَ ثقة كبيرة. لكنّ إغراء الربح السريع كان أقوى مِن مبادئكَ، وا أسفاه! وقَبل أن ترحَل يا زوجي العزيز، إعلَم أنّ ولدَينا ليسا في البيت، وأنّني رفعتُ عليكَ دعوى طلاق وأنا مُتأكّدة مِن أنّ المحكمة ستُعطيني حضانتهما، فلن يقبَلَ أيّ قاضٍ بأنّ يُربّيَ سارِق ونصّاب ولدَين يافعَين. تسألُ نفسكَ كيف علِمتُ بما يجري؟ لِنقُل إنّ أحدًا تعرفُه جيّدًا ساعدَني، أحدًا لا يمكنكَ أبدًا التغلّب عليه. لن أقولَ لكَ مَن هو، لكنّكَ بالتأكيد عرَفتَ عمَّن أتكلّم مع أنّكَ لن تفهَم كيف هو ساعدَني. هيّا! أخرُجا مِن مكتبي وشركتي!

 

طلَّقتُ منذر وأخَذتُ الولدَين منه ونحن نعيشُ سعداء. وأمرَه النائب العام بِردّ المبالغ للشركة وكذلك جلال. اليوم يعملُ منذر ليلاً نهارًا لِتفادي السجن، وهذا هو عقاب كلّ إنسان يُريد الاستيلاء على ميراث غيره والعَيش مِن تعَب مَن بنى وشقيَ. ولا أزال حتى الآن أؤمِنُ بحرارة بأنّ ما رأيتُه في تلك الليلة ليس حُلمًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button