حفيدٌ مُحِبٌّ للغاية

إختَرتُ مهنة الصحافة لأنّني أُعلِّقُ أهميّة كبيرة على نَقل الحقيقة والحقائق، خاصّة في زمَن الكثير مِن الأخبار بعيدة كُلّ البُعد عن الواقع. واتّضَحَ أنّني بالفعل وُلِدتُ لهذه المهنة، لأنّني منذ وصولي إلى مقَرّ تلك الصحيفة، أوكِلتُ بمهام جدّيّة بعد أن لاحظوا مدى حماسي وعطائي ومهنيّتي.

إفتخَرَ والداي بي، خاصّة عندما كانت تُنشَر مقالاتي ومُقابلاتي، فتُمسِكُ أمّي بالصحيفة وتدورُ على الجيران والأقارب وتقرأ عاليًا لهم. مِن جانبه، إستعمَلَ أبي عبارة "ابنتي الصحافيّة" في كلّ مُحادثة مع أيّ كان، وكأنّه لا يُريدُهم أن ينسوا ما الذي أفعله.

والتحقيق الذي هو محوَر قصّتي، كان عن الأشخاص المُسنّين الذين يعيشون في أماكن معزولة، وإن كانوا يحصلون على سُبل العَيش الكريم. وهذا التحقيق قادَني إلى مناطق عديدة مِن بلَدي لَم أعرِف حتى بوجودها، وبالأخص إلى بلدة في الشمال حيث أجرَيتُ مُقابلة مع مُختار المحلّة وأخذتُ منه عناوين وأسماء هؤلاء المُسنّين.

 

وهكذا وصلتُ إلى بيت السيّدة علياء، وهي امرأة عجوز على شفير الخرَف، الأمر الذي لَم يُسهِّل مهامي، لكنّني استطعتُ أن أعرف منها أنّ حفيدها يأتي لزيارتها ويجلبُ لها ما يلزمها مِن طعام ودواء. وقبل أن أترك مسكنها، وصَلَ ذلك الحفيد وأعترفُ أنّني أعجبتُ به على الفور. فهو كان شابًّا وسيمًا عريض المنكبَين ولطيفًا للغاية مع جدّته، بالرّغم مِن صعوبة التعامل معها كَونها لا تتذكّر الكثير عن أمور عديدة. لذلك، أولَيتُ أهميّة خاصّة لتلك العجوز... وحفيدها الذي اسمه باسم، وصرتُ أزورُها باستمرار بحجّة إكمال تحقيقي.

مع الوقت، تطوّرَت علاقتي بعلياء وباسم، وبتنا نقضي وقتًا أطوَل سويًّا وأتقاسمُ معهما وجبات الطعام، وأمشي مع العجوز في حديقة بيتها الجميلة حيث كان حفيدها يزرعُ الورود التي تُحبُّها جدّته. لا أخفي أنّني تصوّرتُ نفسي مع ذلك الشاب نعيشُ في بيت مُماثِل، ونهتمّ سويًّا بالطبيعة وبخلق مناخ جميل وصحيّ لحياتنا سويًّا... لأولادنا. خيال خصب، أليس كذلك؟

أنهَيتُ تحقيقي لكن ليس ذهابي إلى تلك البلدة، بالرغم مِن المسافة التي عليّ أن أقطعها لرؤية الذي أسَميتُه سرًّا "حبيبي". حالة علياء كانت مُتقلِّبة، فكانت أحيانًا واعية العقل وأحيانًا أخرى فاقدة له تمامًا. لكنّ باسم كان مُتواجدًا معها وأكثر مِن الأوّل، إذ أنّه باتَ يعيشُ معها باستمرار. إستغرَبَ أهلي تلك المشاوير البعيدة فاضطرِرتُ لإخبارهم عن باسم. خاصّة أنّه كان قبل أيّام قليلة قد أعرَب لي عن مشاعره تجاهي ورغبته بالارتباط بي رسميًّا. إلّا أنّ الوقت لَم يكن مُناسبًا بسبب حالة جدّته، لِذلك قرّرنا انتظار المُستجدّات.

مِن جانبها، أعربَت علياء، عن استيائها لدى سماعي أُخبرُها عن حبّي لحفيدها ومشاريعنا المُستقبليّة. فهي نظرَت إليّ فاتحة عَينَيها واسعتَين واكتفَت بالهزّ برأسها استنكارًا. أدركتُ أنّها حتمًا خافَت أن تُترَك لوحدها إن تزوّجنا، فأسرعتُ باطلاعها على قرار اتخذناه بشأنها، وهو اصطحابها للعَيش معنا حيث سنسكُن. إلّا أنّها قالَت بصوت لا يحمل النقاش:

 

ـ لا! بل ستسكنان عندي هنا وإلّا لن تحصلا على موافقتي!

 

ـ لكنّ بيتكِ بعيد كُلّ البُعد عن أهلي ومقرّ عمَلي! على كلّ الأحوال، المسألة لا تزال مُبكرة ولَم نبحث عن مسكن بعد، إطمئنّي يا خالة علياء.

 

أعجَبت فكرة علياء حفيدها، خاصّة أنّ العَيش في بيت جدّته يعني بالنسبة له البقاء في البلدة التي ولِدَ وكبُرَ فيها وحيث أنّ والدَيه مدفونان. فهو خسرهما باكرًا وعاشَ مع عمّه وعائلته، الأمر الذي لَم يُعجِبه بسبب سوء مُعاملة زوجة عمّه له. وعندما كبرَ كفاية، أخَذَ حبيبي قطعة مِن الأرض وهَبَها له عمّه، واستثمرَها بِزرع الخضار فيها وبَيعها في الأسواق المُجاورة، وهو عمَل درَّ عليه ما يكفي للعَيش بكرامة والانتقال لاحقًا إلى منزل صغير للغاية لا يليقُ بي كعروس. إلّا أنّني بقيتُ مُصرّة على عدَم السكَن في البلدة بل في المدينة، فلَم يكن أبدًا مِن الوارد أن أتركَ عمَلًا عَنى لي الكثير. عادَ باسم ووعدَني أنّ الأحوال لن تبقى على ما هي، خاصّة أنّه يتوقّع قبض مبلغ كبير مِن المال، الأمر الذي سيسمحُ لنا بالعَيش بين البلدة والمدينة. كنتُ بالفعل مُحتارة في أمري، فلَم أكن أُريدُ أن أخسرَ باسم الذي أُحبّه كثيرًا أو خسارة أهلي وعمَلي.

لكن بعد حوالي الشهر، حصَلَ أن شعرَت علياء بوعكة صحّيّة بالغة، الأمر الذي استدعى نقلها إلى المشفى. كنتُ قد وصلتُ بيتها صباحًا وهي بدَت لي بالفعل مريضة، فأخذتُ أُقنعُها بأن أطلبَ لها الطبيب حين وقعَت أمامي فاقدة الوعي. بدأتُ أصرخُ عاليًا فركضَ باسم مِن الحديقة ويداه مُتّسِختان بالتراب، ليُساعدني على أخذ العجوز فورًا إلى قسم طوارئ في أقرَب مشفى.

هناك شخّصوا لها نوعًا مِن التسمّم الحاد بواسطة أدوات تنظيف منزليّة، ورجّحوا أنّ علياء، بسبب خرفَها، قد شربَت سهوًا ما كادَ يودي بها إلى القَبر. نصحونا بوضعها في دار للعجزة إلّا أنّ باسم رفَضَ رفضًا قاطعًا، فهو كان مُصرًّا أن يواكبها حتى النهاية. إفتخَرتُ بخطيبي كثيرًا، فذلك دلَّ أنّه إنسان وفيّ ومُحبّ واطمأنّ بالي على مُستقبلي معه.

وفي إحدى الليالي حيث بقيتُ مع الجدّة في المشفى، هي استيقظَت وجلسَت في سريرها ثمّ قالَت لي:

 

ـ هل تُحبّين باسم بالفعل؟

 

ـ أجل! لَم أتصوّر أنّ أمثاله موجودون... فبمجرّد النظَر إلى طريقة معاملته لكِ، أستطيع أن أقول إنّه مُميَّز.

 

ـ بالفعل هو مُميّز... سمعتُ الأطبّاء يتكلّمون عن إرسالي إلى دار للعجزة.

 

ـ لا تخافي يا خالة علياء، لَم يقبَل باسم ذلك.

 

ـ أظنّ أنّ الوقت حان للذهاب إلى إحدى تلك المؤسّسات... فالوضع بدأ يتأزَّم.

 

ـ بل أنتِ بألف خير! ستعودين إلى منزلك مُكرَّمة.

 

ـ لا... فصبره بدأ ينفُذ... ولن ينتظِر أكثر مِن ذلك... أُنظري ما فعلَه بي، هو كادَ أن يقتلَني.

 

ـ عمَّن تتكلّمين يا خالة؟!؟

 

ـ عن باسم طبعًا! لقد حاوَلَ قتلي!

 

إبتسَمتُ لها بحنان، فكلامها غير المعقول سبَبه خرَفها، لكنّها تابعَت:

 

ـ أعرفُ أنّكِ لا تُصدّقيني... فاللَوم يقَع عليّ... إدّعَيتُ الخرَف والآن لا أحَد يأخذُ كلامي على محمَل الجَدّ!

 

ـ ومَن يدّعي الخرَف؟!؟

 

ـ أنا... ليبقى حفيدي إلى جانبي ويهتمّ بي... فهو مفتون بالمال!

 

ـ لستُ أفهَم شيئًا! عودي إلى النوم، فأنتِ تعِبة.

 

ـ بل نشيطة للغاية! إسمعي... في ما مضى، قلتُ لباسم أنّ لدَيّ قطعًا مِن الذهب في مكان ما في الحديقة لكنّني، بسبب خرَفي المزعوم، نسيتُ أين خبّأتُها بالتحديد. هو حاوَلَ كثيرًا حثّي على استرجاع ذاكرتي، إلّا أنّني كنتُ أوهمُه أنّني على وشَك الكلام ومِن ثمّ أسكُت. وبعد أن رأى حفيدي أنّه لا يقضي وقتًا كافيًا معي ليأخذ ما يُريدُه مِن معلومات منّي وليبحث في الحديقة على سجيّته، قرَّرَ الانتقال للعَيش معي. ضحكتُ في سرّي، فهو كان يُنفّذُ تمامًا ما خطّطتُ له... لكنّكِ ظهرتِ في حياتنا وهو قرَّرَ الزواج منكِ. لِذا وجَبَ عليه التصرّف بسرعة. لو رأيته كَم مِن ليال قضاها وهو يحفُر في الحديقة! مشهد مُضحك للغاية! هاهاها! بعد ذلك، أنا مُتأكّدة مِن أنّ صبره نفَذَ وقرّرَ التخلّص منّي ليبحث على سجّيته بعدما فهِمَ أنّني لن أقولَ له أين الذهَب. لا بدَّ أنّه وضَعَ المُنظّف المنزليّ في كوب الماء الذي أشربُ منه ليلاً فطَعمه كان مُرًّا للغاية!

 

ـ لا أُصدّقُكِ يا فاقدة العقل!

 

ـ أطلبي مِن الأطبّاء إجراء الفحوصات لي وسترَين أنّ عقلي وذاكرتي بأفضل حال. أو إذا أردتِ، لنقضِ الليل بالتحدّث واسأليني أيّ سؤال تُريدينَه. أنا أعرفُ أنّكِ صبيّة ذكيّة وستكتشفين أنّ كلّ ما قلتُه صحيح. ولو كنتُ مكانكِ، لَما تزوّجتُ باسم، فهو طمّاع وماكر و... قاتل. هذا ما رأَته فيه زوجة عمّه وحملَها على كرهه ودفعه على ترك بيتها. الماكِر... أبعدَ عنّي كلّ أفراد عائلة عمّه ليستفرِد بالذهَب الوهميّ.

 

قضَينا بالفعل الليل بأسره نتحدّث، واكتشَفتُ أنّ علياء سيّدة عاقلة ومُثقّفة للغاية. وتذكّرتُ إصرار باسم على الاهتمام بالحديقة على مدار الساعة، وكيف أنّه قَبل فترة أخبرَني أنّه سيقبضُ مبلغًا كبيرًا مِن المال. هل يعقَل أن تكون العجوز على حقّ؟ ولأكون مُرتاحة البال أقنعتُ باسم في اليوم التالي أنّ جدّته باتَت تُشكّلُ خطرًا على نفسها، فمِن الواضح أنّها شربَت المُنظّف سهوًا، وأنّ علينا وضعها في دار للعجزة. إضافة إلى ذلك، أكّدتُ له أنّني لن أنتظر كثيرًا لنتزوّج ولن أعيشَ في البلدة بل في المدينة.

شكرَتني العجوز بحرارة وهمسَت في أذني: "لا تقولي له إن ليس هناك مِن ذهَب مدفون في الحديقة، بل دعيه يحفُر ويحفُر ويحفُر! هاهاها". ضحكتُ معها مُتصوّرة باسم مُغطىً بالتراب يشتُمُ ضمنيًّا جدّته الخرِفة لعدَم اطلاعه على مكان الكنز!

أنهَيتُ علاقتي بخطيبي بإعطائه أعذارًا كثيرة لكنّني لَم أفضَح سرّ العجوز. فكيف أعيشُ مع رجُل قد يكون حاوَلَ قتل جدّته؟ صحيح أنّني لَم أكن أملكُ دليلًا قاطعًا على ذلك، لكنّني صرتُ مُتأكّدة مِن صحّة كلام علياء، خاصّة عندما هو توقّفَ كلّيًّا عن زيارتها في الدار لأنّه على ما يبدو لَم يعُد يرى حاجة لتمثيل دور الحفيد المُحِبّ.

 

ضرَبَت علياء ضربتها القاضية حين كتبَت بيتها والأرض المُحيطة به لأحفادها الآخرين، الأمر الذي أجبَرَ باسم على ترك المكان... والحديقة. وصارَ كالمجنون ينامُ في سيّارته على قرب مِن الأرض مِن شدّة خوفه أن يجِدَ أبناء عمّه الكنز.

حزنتُ على خسارة باسم، على الأقلّ على الصفات الحميدة التي خلتُه يملكُها، ووجدتُ صعوبة في نسيان تلك الأوقات الجميلة التي قضَيناها سويًّا. لكنّ الانسان يملكُ القدرة على التأقلم، إذ وقعتُ في الحبّ بعد حوالي السنة. أخذتُ حبيبي الجديد لأعرِّفه على علياء بعد أن أخبَرتُه قصّتي معها ومع حفيدها. وهي لا تزال بصحّة جسديّة وعقليّة مُمتازة... وقد تتمكّن مِن حضور فرَحي بعد أشهُر قليلة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button