مِن المُحزِن أن يُصبحَ الإنسان حِملاً ثقيلاً حين يكبر، فيتقاذفه أولاده وكأنّه كيس نفايات نتِن. لقد ربَّيتُ إبنتَيّ جيّدًا، لكنّ الطَبع يغلبُ التطبّع فتختفي التربية الحسنة لتظهر حقيقة قلب كلّ منّا.
كانت منال إبنتي البكر فتاة جميلة، واستطاعَت بفضل ذلك الزواج مِن رجل ثريّ يعملُ في الخليج العربيّ، وهو أمَّنَ لها حياةً أكثر مِن مُريحة لها ولإبنهما الوحيد، بينما تزوّجَت سامية، أختها، مِن شاب حالته متوسّطة بنَت معه عائلة جميلة.
في تلك الأثناء، بقيتُ لوحدي مع زوجي الحبيب حتى تدهوَرَت صحّته ومات. سكَنَ الحزن قلبي، فهو كان سَنَدي ونصفي الثاني. تأثّرتُ كثيرًا لرحيل ذلك الرجل الطيّب فأُصبتُ بالكآبة، الأمر الذي حمَلَ الطبيب على نَصح إبنتَيّ بعدَم تركي لوحدي. فاقترحَت منال عليّ العَيش عندها لكبر بيتها، فمنزل سامية كان أصغر بكثير وسكّانه كثُر.
أحببتُ فكرة العَيش مع إبنتي البكر وكنت قد اشتقتُ لوجودها، فهي تزوّجَت باكرًا وقضَت مُعظم وقتها بالسفر إلى زوجها الذي بقيَ في الخارج مِن أجل الإهتمام بأعماله الناجحة، وفرِحتُ للتواجد مع حفيدي الذي لَم أرَه كثيرًا هو الآخر. وكي لا أكون ثقلاً على منال، صرتُ أُساعدُها بالأعمال المنزليّة وأقومُ بتحضير وجبات الطعام، فهي كانت قد طرَدَت عاملتها قبل وقت ولَم تجِد مَن يحلّ مكانها. وبما أنّني كنتُ أهتمّ بكلّ شيء، إستطاعَت إبنتي التفرّغ مِن جديد للتسوّق ولقاء الأصدقاء على سجيّتها. أمّا بالنسبة لحفيدي، فهو كان غائبًا مُعظم الوقت في جامعته ومع أصدقائه إلى أن قرَّرَ اللحاق بأبيه في الخليج. وهكذا صرتُ أقضي أيّامي لوحدي في البيت، ولا أرى أحدًا إلا حين كانت سامية تأتي لزيارتي مع عائلتها. وهي عرضَت عليّ الذهاب إلى بيتها لقضاء بضع ليالٍ، لكنّني رفضتُ بتهذيب كي لا أتركُ الأعباء كلّها على منال. إضافة إلى ذلك، لَم أكن أحبّ فكرة النوم على الأريكة عند سامية، بينما لدَيَّ غرفة واسعة وحمّام خاصّ عند منال.
وذات يوم، جلبَت إبنتي البكر إلى البيت كلبًا صغيرًا، وتغنَّت كثيرًا بأصالته التي كلّفَتها مبلغًا طائلاً، وأعطَتني التعليمات اللازمة المُتعلّقة بأكله وحمّامه ونومه، فأدركتُ أنّني سأصبَح المسؤولة عنه مع أنّني لستُ مِن مُحبّيّ الحيوانات الأليفة. لَم أُمانِع، ففي آخر المطاف كنتُ ضيفة عند إبنتي وشعرتُ أنّ ذلك الكلب يعني لها الكثير.
ومع الوقت، صار كوكي الكلب أهمّ فرد في العائلة وضحكتُ في سرّي على ذلك، فكَم مِن الناس يتمنّون لو يعيشون عيشة ذلك الحيوان الذي كان يحظى بأفضل ما يكون مِن أكل وطبابة واهتمام. حتى فرشة منامه كانت مِن ريش النعام وصُنِعَت في أوروبا
وذات يوم، وقعتُ أرضًا بسبب كوكي الذي كان يركضُ بين رجليَّ، الأمر الذي أدّى إلى كسر وركي. صرختُ بأعلى صوتي لكن ما مِن أحد سمعَني طبعًا، فمنال كانت كعادتها خارج المنزل، لِذا تغلّبتُ على وجَعي وزحفتُ حتى وصلتُ إلى الهاتف لأتّصل بها. إلا أنّها لَم تُجِب، فخابرتُ سامية التي أتَتَ بسرعة فائقة لكنّها لَم تستطع دخول المنزل لأنّها لا تملكُ مُفتاحه. إضطرِرتُ لإنتظار حوالي الساعة وأنا بهذه الحالة حتى ردَّت إبنتي البكر أخيرًا على هاتفها وقدِمَت، مُستاءة، لِفتح الباب لأختها.
نُقِلَتُ إلى المشفى حيث عمِلَ الأطبّاء على علاجي، وحين عدتُ إلى بيت منال كنتُ بحالة يُرثى لها إذ كان عليّ مُلازمة الفراش لمدّة طويلة وعَدم التحرّك بتاتًا. حالتي هذه لَم تُعجِب منال التي احتارَت بأمر كوكي، فمَن سيهتمّ به؟ هي لَم تكن مُستعدّة للتنازل عن نمَط حياتها مِن جهة، وإهمال ذلك الحيوان مِن جهة أخرى. والغريب أو بالأحرى المُحزِن في الأمر، أنّها لَم تكترِث لِمصيبتي وللذي أمرُّ به مِن ألَم وحيرة، فلطالما كنتُ إنسانة نشِطة أهتمُّ بكلّ شيء لوحدي وخاصّة بأموري الشخصيّة، وها أنا أجدُ نفسي غير قادرة على القيام بأبسط الأمور. شعرتُ بالفعل أنّني متروكة وآتي بالدرجة الثانية بعد كوكي.
وبكلّ وقاحة، قالَت لي منال غاضبة:
ـ لقد اشترَيتُ كوكي لأنّكِ معي في البيت وبإمكانكِ الإهتمام به... فماذا سأفعلُ الآن؟
ـ يا إبنتي... ألا ترَين حالتي؟
ـ كان يجدرُ بكِ الإنتباه إلى خطواتكِ!
ـ كوكي هو الذي أوقعَني!
ـ إنّه مُجرّد حيوان ولا يستطيع تقدير أفعاله خلافًا لكِ! أجِيبيني، ماذا سأفعلُ الآن؟!؟
ـ أعطِه لإحدى صديقاتكِ.
ـ ماذا؟!؟ أتخلّى عن كوكي؟ هل فقدتِ عقلكِ؟
ـ يا لَيتكِ مُتعلّقة بي بالقدر نفسه... فأنتِ بالكاد تُساعديني على تنظيف نفسي... لقد بدأَت تنبعثُ منّي روائح كريهة... لستُ مُعتادة على ذلك يا إبنتي.
ـ بما أنّكِ جئتِ على ذكر إهتمامي بكِ... أنا آسفة لكن عليكِ المُغادرة.
ـ المغادرة؟!؟ إلى أين؟
ـ إلى إبنتكِ الأخرى فأنا أُذكّركِ بأنّني لستُ إبنتكِ الوحيدة! لقد استقبلتُكِ بما فيه الكفاية.
ـ وأنا كنتُ ضيفة خفيفة عليكِ، فنظّفتُ بيتكِ وملابسكِ وحضّرتُ أكلكِ.
ـ هذا أقلّ ما يُمكنكِ فعله! حان الوقت لترحلي.
ـ أنا أمّكِ!
ـ لا تخافي، سأدفعُ لسامية ثمَن علاجكِ وكلّ مصاريفكِ... آه يا كوكي، كَم أنّكَ جميل، تعالَ إلى حضني.
وقفَزَ الكلب إلى حضن منال وهي قبّلَته بحنان، ثمّ اتّصلَت بأختها لتُبلِغها بأنّني سأسكنُ عندها. مِن حسن حظّي أنّ إبنتي الصُغرى كانت إنسانة مُحبّة هي وزوجها وأولادها، وإلا انتهَيتُ في إحدى المؤسّسات للمُسنيّن حيث يُعامَل المرء بقساوة.
نُقِلتُ إلى بيت سامية بسيّارة إسعاف لعدم قدرتي على المشي أو حتى الجلوس واستقبلَني الجميع بهتافات التأهّل. كانت الأريكة مفروشة بانتظار قدومي، ووعدَني صهري بأنّه سيفعلُ جهده لاستبدالها بسرير شرعيّ حتى لو استدعى الأمر تشويه الصالون، فكما ذكرتُ، كان بيت إبنتي صغيرًا وبالكاد يتّسع لعائلتها.
في الأواني الأولى، وفَت منال بوعدها وبعثَت لأختها المال اللازم لعلاجي ودَفع تكاليف كل مُستلزماتي، إلا أنّها لَم تزُرني ولو مرّة، وكأنّها بذلك تمحو مِن ذاكرتها وجودي. فتّشتُ كثيرًا لأجد سببًا لتصرّفها هذا، لكنّني لَم أجِد تفسيرًا منطقيًّا. كانت إبنتي البكر عاجزة تمامًا عن إمتلاك شعور تجاه أحد غير نفسها.
ثمّ انقطعَت الإمدادات وحجّة منال كانت، وبكلّ وقاحة، أنّ كوكي مرِضَ وفواتير البيطريّ كانت باهظة للغاية؛ إلى جانب اضطرارها لجلب جليسة خاصّة له. أجل، لقد قرأتم جيّدًا... مرّة أخرى فضّلَت إبنتي الكلب عليّ! وهكذا باعَت سامية بعض الحلى سرًّا لدفع ثمَن علاجي الفيزيائيّ، وإلا بقيتُ نائمة حتى أجَل غير مُسمّى، وغمَرَني الجميع بالحبّ والإهتمام.
مِن جهتها، لقَيِت منال جزاءها. وأنا هنا لا أشمتُ بابنتي التي بقيتُ طبعًا أحبُّها، فقلب الأم لا يقدرُ على كره جزء منه. فما لَم أكن أعلمه، هو أنّ لمنال عشيق كانت تراه باستمرار وهي كانت برفقته يوم وقعَتُ وكسرتُ وركي، الأمر الذي يُفسِّرُ إنشغالها حينها وعدَم إجابتها على مخابرتي. لكن تلك العلاقة لَم تبقَ سرّيّة مُطوّلاً، بل وصلَت أصداؤها إلى آذان زوجها. عندها، هو استدعاها بسرعة وواجهَها بما عرفَه. حاولَت منال أن تنكر طبعًا لكنّها عادَت واعترفَت بالحقيقة. وقد علِمتُ بكلّ ذلك مِن إبنها لاحقًا. وجرّاء خيانتها لزوجها، هو قطَعَ عنها مصروفها، الأمر الذي أثَّرَ على نمَط حياتها بشكل كبير. وحين طلّقَها، إضطّرَت لترك بيتها والسكَن في مكان صغير وفي حيّ يعجّ بالناس، الأمر الذي كرهَته طبعًا. أخذَت منال كوكي معها واختفَت عن الأنظار. أظنُّ أنّ الرجل الذي كانت تُعاشرُه تخلّى عنها بسرعة، فهو كان على الأرجح يستفيدُ مِن المال الذي كان يبعثُه لها زوجها. فما حاجته لها بعدما خسِرَت كلّ شيء؟
أقنعتُ سامية بالاهتمام بأختها ولو قليلاً، فصارَت تزورُها بين الفترة والأخرى وتأخذُ لها بعض الطعام. وحاولتُ أنا الإتصال بها، لكنّها بقيَت ترفضُ التكلّم معي، ربمّا مِن كثرة خجلها، ليس مِن الذي فعلَته بي، بل مِن حالتها المادّيّة والإجتماعيّة.
بعد فترة، وحين لَم يعد لمنال شيء بعدما باعَت كلّ ما لدَيها، راحَت تعملُ في أحد محلات الألبسة، ونجحَت بعملها لأنّها كانت سيّدة أنيقة وذات ذوق رفيق. زارَها إبنها بضع مرّات حين كان يأتي إلى البلد ويُعرّجُ على خالته سامية ليرانا جميعًا. هو لَم يتأسّف كثيرًا لأمّه، فهي لَم تكن أمًّا جيّدة له، وقال إنّ أفضَل ما فعلَه هو العَيش مع أبيه. أعطاها حفيدي بعض المال، ففي آخر المطاف هي أمّه، لكنّه لَم يُخفِ عنها امتعاضه مِن خيانتها لأبيه الذي كان يعمَلُ ليلاً نهارًا لتأمين حياة مُريحة لها.
وذات يوم، ومِن دون أن يتوقّع ذلك أحدٌ، دقَّت منال بابنا. كان قد مضى على آخر لقاء لي معها ثلاث سنوات وكنتُ قد استعَدتُ حرَكتي بالكامل. ركضَت منال إليّ وركعَت أمام رجليّ وبكَت بصمت. أخذتُها بيدها وأجلستُها بالقرب منّي وتعانَقنا مطوّلاً. إنضمَّت إلينا سامية وبكينا نحن الثلاثة ولم نشبَع مِن تقبيل بعضنا. لَم تحتَج منال للإفصاح عن ندمَها تجاه كلّ ما فعلَته، فالندَم كان جليًّا. ثمّ شعرتُ بشيء يقفزُ على حضني وتفاجأتُ بكوكي ينظرُ إليّ بشوق، فهو لَم ينسِني. وقلتُ له مازحة: "أنتَ الآخر مُسامَح!".
أن يعترفَ المرء بخطئه هو فضيلة، وتُمحى بذلك مُعظم أفعاله، ولكن علينا أيضًا إيجاد القوّة اللازمة للإقرار بأنّنا مخلوقات ضعيفة ترتكبُ الأخطاء وتُسبّبُ الأسى للغَير. والغفور هو أيضًا إنسان قويّ ليعلو فوق امتعاضه ويُعطي لمَن جرَحَه فرصة ثانية.
حاورتها بولا جهشان