حسبتُ أنّنا تزوّجنا للسرّاء والضرّاء

صحيح أنّ لكّل مجتمع عاداته وطرقه الخاصة للتعبير عن مشاعره ولكنّ العقل والمنطق والتحضّر يوجب على المرء أن يقدّر عواقب الإفراط في هذا التعبير. وبالرغم مِن توصيات الدولة والعقوبات التي وضَعَتها وحملات التوعية على الشاشات بقيَ العديد يطلق النار في مناسبات الفرح والحزن. وما جرى لي هو مثل حيّ على ذيول وتردّدات هذه التقاليد الغير الحضاريّة على حياة الضحايا. والمؤسف هو أنّني أصِبتُ برصاصة ابتهاج يوم زفافي ووسَط حديقة أهلي.

كنّا في ذلك اليوم فرحين وتفكيري كلّه منصبّ على عروستي الجميلة إيمان التي انتظَرتني مطوّلاً ريثما أجهّز لِبناء عائلة معها. وكنّا قد أقَمنا فرحاً جميلاً ودعَونا أناساً كثر ليشاركونا سعادتنا. ولكي نستمتع بالطقس الجميل قرّرنا أن نستقبل المدعوّين في الحديقة التي زُيّنَت بالورود الملوّنة. وحين دخلتُ المكان مع إيمان قرّرَ أحد أقاربها أن يطلق الرصاص في الجوّ ليرينا مدى سعادته. ولكنّ إحدى الرصاصات ضَرَبَت حائطاً وعادَت لِتخترق رأسي مِن الجهّة اليسرى. وسقطتُ أرضاً وصَرَخَت حبيبتي وركضَ الكّل للمساعدة. وحَمَلوني إلى المستشفى ودخلتُ غرفة العمليّات وخرجتُ منها مشلولاً نصفيّاً لأنّ الرصاصة كانت قد عطّلَت مركز الحركة الموجود في دماغي.

وبعد نوم شبيه بالغيبوبة دام يومَين استفقتُ أخيراً لأسمع مِن الأطبّاء أنّني لن أستطيع استعمال ذراعي ورجلي اليسرى طوال حياتي ألاّ إذا تجاوبتُ مع علاج فيزيائي طويل ومؤلم قد يدوم سنين أو لا ينجح بتاتاً. والذي عزّاني في ذلك اليوم البشع كان وجود إيمان إلى جانبي في المستشفى ولمسة يدها على جبيني وقبلتها الناعمة على شفاهي.

وأرادَ أهلي معاقبة الذي أطلقَ الرصاص ولكنّني منعتهم مِن ذلك لأنّني كنتُ أعرف أنّه لم يقصد الأذيّة ولأنّني لم أكن أريد خلق خلاف مع عائلة زوجتي. وبعد أن سمَحَ لي الأطبّاء بالخروج عدتُ إلى منزل أهلي بِرفقة إيمان لأنّني لم أكن أريد أن أكبّدهَا عناء الاهتمام بي بِمفردنا لو قصدنا شقّتنا الجديدة.

 


وبدأ مشواري المؤلم جسدّياً ونفسيّاً، فبدل أن أستمتع بِشهر عسلي وأذوق طعم الزواج، أصبحتُ معاقاً لا أمل لي سوى الانتظار. ومعظم حزني وغضبي كان سبب شعوري بالذنب تجاه عروستي فبالرغم مِن أنّ الفاعل هو قريبها ما مِن فتاة كانت ستفرح بِعرس مأساويّ أو بِعريس معاق. والفترة الأولى كانت مليئة باليأس والعذاب لأنّني وجدتُ نفسي غير قادر على القيام بأبسط الأمور وكان عليّ الاتّكال على مَن يأخذني إلى الحماّم أو يؤكّلني. وبقيتُ أرفض أن تقوم إيمان بالمهام الحميمة لأنّنا لم نكن معتادين على هذا الكمّ مِن التقاربّ. فطيلة فترة مواعدتنا ومِن ثمّ خطوبتنا لم يحصل شيء أي اتصال جسدي بيننا وأكتفينَا بِتبادل القبلات.

وبعد بضعة أسابيع على شفائي مِن الاصابة برأسي جاءَت المعالجة الفيزيائيّة إلى المنزل وبدأنا التمارين. ولم يكن هناك أي تجاوب في ذراعي أو رجلي وكان الأمر وكأنّها أوصال ميتّة تماماً. ولكن سهى كانت أخصائيّة متمرّسة وكانت تعلم أنّ المعنويّات تؤثّر بِشكل كبير على نسبة الشفاء فباتَت تدعمني وتشجعّني لأتغلّب على الاستسلام الذي كنتُ بدأتُ أغوص به. أمّا إيمان مِن جانبها فلم تبدِ تفاؤلاً كبيراً في شفائي لأنّها لم تقف إلى جانبي بِشكل واضح بل بقيَت تقول: "هذه مشيئة الله... ربما يريدكَ أن تبقى مشلولاً طوال حياتكَ... يا لحظّي السّيء...".

وكنتُ أبقى صامتاً مدركاً موقف المسكينة مِن هذا الوضع الصعب. ولكنّ أهل زوجتي بدأوا بِدورهم يتأسّفون على حياتها معي ووصَلني كلاماً عن لسانهم أنّ عليّ إعطاءها حرّيتها لتتمكنّ مِن إيجاد رجلاً بكل معنى الكلمة. وحزنتُ كثيراً لأنّهم أهانوا رجولتي ولأنّهم اعتبروني غير نافعاً وكأنّني بِسبب إعاقتي أصبحتُ مسخاً يُفضّل التخلّص منه. ولم يخطر على بال هؤلاء الناس أنّ وضعي هذا هو نتيجة أحدهم فلولا ما فعله بي لكنتُ بألف صحّة. ولكنّني سكتُّ مجدّداً لأنّ إيمان لم تقل شيئاً عن رغبتها في الرحيل وانتظرتُ حتى تهدأ الأقاويل قليلاً أو أن تتحسنّ حالتي.

ولكن في أحد الأيّام جاءَني زائر غير متوقّع وهو الرجل نفسه الذي أطلقَ الرصاصة التي أصابَتني. وبالطبع توقّعتُ أن يكون قد قصَدَني للاعتذار أو تقديم المساعدة لي أو حتى التشجيع وأمنيات بالتعافي ولكنّني كنتُ مخطئاً. وهذا ما قاله لي:

 

ـ كيف تسمح لِنفسكَ بتعذيب إيمان هكذا؟

 

ـ أنا أعذّب إيمان؟ كيف؟ وما دخلكَ أنتَ بالموضوع؟

 

ـ أنا ابن عمّها ولي الحق بالسؤال عن أحوال قريبتي... أنظر إلى نفسكَ... المسكينة لا تزال عروس وهذا لا يجوز... عليكَ تطليقها.

 


ـ أوّلاً إن كنتُ في هذه الحالة فهذا بِسببكَ... وكان بإمكاني جرّكَ إلى السجن ولكنّني لم أفعل إكراماً لِزوجتي... وثانياً زواجي شأن خاص ولا أسمح لأحد أيّ كان التدخّل... صحيح أنّني معاق جسديّاً ولكنّ ذلك لا يعني أنّني متُّ... تفضّل بالخروج حالاً ولا تعود إلى هنا وإلاّ اشتكَيتُ عليكَ.

 

ـ سأرحل ولكن لا تتوقّع أن نتركَ إيمان تعيش مع رجل مثلكَ.

 

ـ إن كانت تعيسة لهذه الدرجة فيمكنها التكلّم بِنفسها.

 

وبعد خروج ذلك الرجل البغيض شعرتُ أنّه سيغمى عليّ بِسبب كثرة الانفعال واتصلتُ فوراً بِسهى التي أعطَتني عبر الهاتف تمارين تنفسيّة لأهدأ ووعَدَتني بالمجيء بعد ساعة. وفعلتُ كما قالت لي وشعرتُ بِتحسّن ملحوظ وانتظرتُها بِفارغ الصبر. ولكنّ إيمان دخَلَت غرفة نومي وسألَتني إن كان ابن عمّها قد تكلّم معي بِموضوع الطلاق. عندها سألتُها:

 

ـ أهذا ما تريدينَه؟

 

سكَتت لِبضعة ثواني ثم أجابَت:

 

ـ أجل.

 

ـ وأين ذهَبَ حبّكِ لي؟ كل تلك السنين التي انتظرتني لكي نكون سويّاً... ماذا حصَلَ بها؟

 

ـ انتظرتُها لأعيشَ مع إنسان طبيعيّ.

 

ـ وما دخلي أنا؟ هل تظنيّن أنّني سعيد هكذا؟ أنا الضحيّة!

 

ـ وأنا ضحيّة أيضاً... أحبّكَ ولكن ليس وأنتَ هكذا... أنا آسفة.

 

ـ ولكنّني أتعالج وقد أصبح قادراً على الشفاء.

 

ـ أنتَ قلتَها:" قد"... وماذا لو بقيتَ معاقاً؟

 

ـ ألَن تصبري حتى نعرف؟

 

ـ لا... لا أزال شابة ولستُ مستعدّة لِهدر سنين مِن حياتي سدىً.

 

ـ والسنين التي ستذهب مِن حياتي بسبب ابن عمّكِ؟

 

ـ هذا قضاء وقدر.

 

ـ إسمَعي إيمان... لن أتوّسلَ إليكِ ولن أرغمكِ على البقاء ولكن اعلمي أنّ لو كنتِ أنتِ المصابة لَما تركتكِ طوال حياتي... أحبّكِ لِشخصكِ وليس لِشكلكِ... أحبّكِ في السرّاء والضرّاء... ولكنّ مِن الواضح أنّنا لا نتقاسم نفس الحب... سأعطيكِ الطلاق وأدعو لكِ بالتوفيق.

 

واستاءَت حالتي وعدتُ إلى نقطة الصفر ما أغضبَ سهى التي كانت قد بدأَت تلاحظ تقدّماً ولو بسيطاً في حَرَكتي. ولكنّها لم تيأس وعادَت تشجعّني وتحملني على المثابرة قائلة: "هيّا... تعال نثبت لإيمان وعائلتها أنّكَ ستشفى ودعنَا نُشعرهم بالندَمَ!".

وتطلّبَ الأمر سنَتَين كاملَتَين حتى استطعتُ تحريك ذراعي ورجلي بِشكل شبه مقبول وكانت الفرحة عارمة في البيت عندما مشيتُ أمام أهلي دون عكّازات. وبعد مرور سنة أخرى عدتُ إلى طبيعتي وإلى العمل الذي كنتُ قد تركتُه.

وفي أحد الأيّام حين كنتُ أتسوّق ألتقيتُ بإيمان. كانت بِرفقة والدَيها وحين رأتني صرخَت: "لقد شفيتَ!". وجاوبتُها:" أجل... كما ترَين... عُدتُ إلى طبيعتي." وابتسمَت وقبل أن تُكمِلَ حديثها انضمَّت إلينا سهى فأضفتُ: "تعرفين سهى... المعالجة الفيزيائيّة... لقد تزوّجنا منذ 3 أشهر وهي حامل الآن." ومِن ثمّ أخذتُ سهى بِذراعها وأكملنا طريقنا تاركَين إيمان وأهلها واقفين مذهولين في وسط الشارع.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button