لقد قتلتُ أمّي... ليس بالمعنى التقليديّ طبعًا، لكنّ الأمر سيّان بالنسبة لي. فالواقع أنّني مَن قرَّرَ وقت وساعة رحيلها في ذلك المشفى حيث قضَت آخِر أيّامها في غيبوبة في حين وحدها الماكينات أبقَتها موجودة بعد أن توقَّفَ دماغها، فأقنعَني الأطباء بأنّ لا فائدة مِن تعذيب روحها. كان القرار يعودُ لي، فأبي الجبان وأوكَلَني بتحميل ضميري إلى الأبد. هو لطالما كان انسانًا تسكنه المخاوف مِن كلّ نوع ولا يستطيع اتّخاذ أيّ قرار مهما كان صغيرًا أو تافِهًا. وأمّي، رحمها الله، كانت الآمِرة الناهية في العائلة، ليس لأنّها كانت طاغية، بل بسبب زوجها الذي اكتفى بتنفيذ الأوامر والنصائح والتوجيهات كرجُل آليّ مُبرمَج. كرهتُه منذ صغري، أوّلًا لأنّه لَم يكن يُمثِّل بالنسبة لي أيّ ناحية مِن نواحي الرجوليّة التي كنتُ بحاجة إليها لبناء شخصيّتي وأنا صبّي أو مُراهق، وثانيًا لأنّني كنتُ أُدرِك أنّ والدتي ليست سعيدة معه، بل العكس. فوجدتُها مرارًا وهي تبكي في غرفتها أو المطبخ، وحين أسألها عن سبب حزنها، كانت تُجيب: "لا شيء، لا شيء... تذكرتُ أمورًا قديمة". وكنتُ أعلَم عمّا تتكلّم لأنّني سمعتُها في ما مضى وهي تروي عن حبّ قديم جرى قَبل زواجها مِن أبي، عن شاب وسيم وقويّ البنية والعزيمة، عن حبّ لَم يُتوَّج بالنجاح بسبب أهلها. وكنتُ أتخايَل كيف كانت لتكون حياتنا لو هي تزوّجَته بالفعل، حياة مُختلِفة تمامًا وبالتأكيد أسعَد بكثير.
ومنذ ما إتّخذتُ قراري الصعب بشأن أمّي، إتّخذتُ أيضًا قرارًا آخَر، أقلّ صعوبة طبعًا، وهو الابتعاد عن أبي قدر المُستطاع، فلَم يعُد هناك مِن سبب لأتحمّله سوى توصيات الأديان للأبناء، فبقيتُ أتّصلُ به هاتفيًّا وأُرسلُ له بعض المال مِن حين لآخَر. صبَبتُ اهتمامي على عائلتي الصغيرة المؤلّفة مِن زوجتي وابني الصغير وعلى عمَلي، وبقيتُ أُحاوِل النوم ليلًا وعدَم التفكير بأنّني الذي أوقَفَ نفَسَ مَن أعطَتني أوّل نَفَس لي.
حياتي مع زوجتي وابني كانت هنئية منذ الأوّل، فلقد عزمتُ على عدَم التصرّف معهما كما فعَلَ أبي، بل كنتُ الزوج والأب الحاضِر والذي بإمكانهما الاتّكال عليه دائمًا في ما يخصّ راحتهما وسلامَتهما وأمنهما.
لكن بعد مسألة "قتل أمّي"، لَم أعُد كما كنتُ في السابق، بل تحوّلتُ لرجُل حزين ومُكتئب وتنتابُني أحيانًا موجات غضب عارِم. لكنّني كنتُ أعتذِر في الحال لزوجتي وابني وأعوِّض لهما عن تصرّفاتي المُتقلِّبة. يا إلهي، كيف سأعيش باقي حياتي وأنا أحمِل ذلك العبء مِن دون سنَد أبي الذي خذلَني منذ صغَري والقى عليّ هذا العبء الذي لا يتحمّله أحَد؟ تبًّا له ولكلّ الرجال أمثاله!
ولأتخطّى تلك المحنة الصعبة، نصحَني أحدٌ بالابتعاد لفترة قصيرة عن مُحيطي، أن أذهب إلى مكان هادئ وأختلي مع نفسي بينما أُصلّي وأُنظّف روحي مِن الغضب والذنب. قبِلَت زوجتي بهذه الفكرة لأنّها كانت تُحبّني وتثقُ بي وبقراراتي. إتّفقنا أن تأتي أمّها إلى بيتنا لتكون معها أثناء غيابي، فحزمتُ حقيبة صغيرة وقصدتُ قريّة أمّي، المكان التي عاشَت فيه قبَل زواجها، في مُحاولة منّي للتقرّب منها ومُلامسة ذكراها قَبل أن تُخطئ الخيار وتُقرِن حياتها بأبي. هناك وجدتُ منزلًا صغيرًا بالإيجار مُحاطًا بحديقة أيضًا صغيرة ومناخًا نقيًّا وهدوءً يُساعدني على التأمّل. هناك وجدتُ أيضًا أقرباء لنا فرِحوا بي ودعَوني إلى بيوتهم للغداء أو شرب القهوة والدردشة قليلًا. كنتُ سعيدًا وتخَيَّلَ لي أنّني أبدأ مِن جديد. بقيتُ على تواصل مُتقطِّع مع زوجتي لأسأل عنها وعن ابننا، لكنّني تجنَّبتُ الأحاديث الطويلة أو التي تتضمّن المشاكل وشغل البال. أرَدتُ أن أعودَ إلى عائلتي مُتعافٍ لأُتابع حياتي بهناء.
وفي أحَد الأيّام، حين كنتُ أزورُ أقارب أمّي، أثَرتُ موضوع خطيبها الأوّل مِن دون قصد بل في سياق الحديث، فقال لي مُستضيفي:
ـ أتقصد مروان؟
ـ لا أعرف اسمه، للحقيقة.
ـ أجل، مروان، رفضَه أهل أمّكَ، الأمر الذي أحزنَها إلى أقصى درجة. إنّه يسكن البلدة مع زوجته. أولادهما ترَكوا المكان ليقصدوا المدينة منذ سنوات لا تُحصى.
ـ حقًّا؟!؟ إنّه يعيشُ هنا؟!؟ هل... هل تظنّ أنّ باستطاعتي...
ـ أتريدُ زيارته؟ ولِما تفعل؟
ـ لأنّه جزء مِن حياة أمّي، وليس أكثر.
لَم أقُل للرجُل أنّني لطالما حلِمتُ بأن يكون مروان أبي وكان عليّ أن أتعرّف عليه بعدما إتّضَحَ انّه يعيش بضع أمتار بعيدًا عنّي. اجل، كان ذلك ما أردتُه وما سأفعله!
لَم أنَم على الاطلاق في تلك الليلة وأنا أتصوّر لقائي بخطيب أمّي القديم، وفي الصباح، بدأتُ أعدّ الساعات التي تفصلُني عن التواجُد أمامه ومعه. رافقَني ذلك القريب، وتركَني عند الباب حين فتَحَ لي مروان. وقفتُ أمامه لا أدري ما أقولُ له، ثمّ عرّفتُه عن نفسي وهو ابتَسَم لي بفرَح قائلًا: "أجل، أجل... كَم أنّكَ تُشبهُها! هيّا! أدخُل!". أردتُ مُعانقته لأنّني شعرتُ للحظة أنّه بالفعل أبي إلّا أنّني لَم أفعَل طبعًا، بل دخلتُ وجلَستُ معه في صالونه الصغير. البيت كان نظيفًا ومُرتّبًا لكن يدلّ على القلّة، فلقد عرفتُ أنّه عامِل بسيط في احدى أراضي الجوار. بعد دقائق، سمعتُ صوت أقدام خفيف ورأيتُ أمامي امرأة في مُنتصف عمرها تتأهلّ بي بصوت خافِت. عرَّفَها مروان عليّ قائلًا: "إنّه ابن حبّي الوحيد... المرأة الوحيدة التي كان يجدرُ بي الزواج منها". للحظات، ظننتُ أنّ تلك المرأة هي أخته، فكيف له أن يقولَ لها ذلك لو كانت بالفعل زوجته، لكن اتّضَحَ أنّها حقًّا زوجته، فشعرتُ بالإحراج. نظرَت إليّ المرأة بخجَل ثمّ سألَتني إن كنتُ أريدُ شرب القهوة، فصرَخَ بها مروان: "ما هذا السؤال الغبيّ؟!؟ أُدخلي المطبخ في الحال واجلبي له ليس فقط القهوة، بل كلّ ما لدَينا!". ثمّ استدارَ نحوي وأضافَ: "إمرأة ساذِجة، لا عليك".
شعرتُ بالغضب حيال ذلك الرجُل الفظّ، لكن عدتُ وصبَبتُ اهتمامي على علاقته الرومانسيّة مع أمّي فسألتُه عن الأمر، وهو قال:
ـ رفضَني أهلها... الأغنياء... ولماذا ستسألُني؟!؟ لأنّني كنتُ شابًّا مليئًا بالحياة والحيويّة... صحيح أنّني كنتُ، ولا أزال، أُفرِطُ بالشرب، لكن مَن لا يفعل؟ هاهاها! وكانت هناك سيرَتي مع الصبايا، فأنا كنتُ، ولا أزال، وسيمًا وجذّابًا، فما ذنبي؟!؟ هاهاها! ثمّ تزوّجتُ مِن التي الآن في المطبخ، إنسانة غبيّة ومُمِلّة، لكنّني عوّدتُها على إطاعتي كما يجِب على كلّ رجُل أن يفعل، وهي تحت سيطرتي الكامِلة منذ سنوات ولا تجرؤ على اثبات وجودها أبدًا، فأنا الرجُل! أرجو أن تكون تُعامِل زوجتكَ هكذا أنتَ الآخَر، فتبدو لي رجُلًا قويًّا!
إشمأزّيتُ مِن مروان لِدرجة لا توصَف، واختفَت بلحظة الصورة الرومانسيّة التي كوّنتُها عنه وعن قصّته مع أمّي. وفهمتُ لماذا أهلها أبعدوها عنه، وإلّا لكانت عاشَت عيشة تلك المرأة الحزينة، وأنا عيشة أحَد أولاده الذين هرَبوا مِن ذلك البيت فور تسنّى لهم ذلك.
عدتُ إلى العاصمة في اليوم التالي لكنّني مرَرتُ بأبي قَبل أن أصِل إلى عائلتي. عانقَني والدي مُطوّلًا وبكى لمدى اشتياقه لي، فجلَسنا سويًّا بصمت. ثمّ سألتُه:
ـ لماذا حمَّلتني ذلك الخيار الصعب؟ هل لأنّكَ جبان؟!؟
ـ جبان؟ لا... فلَم أخَف مِن شيء طوال حياتي، سوى مِن ازعال حبيبتي، زوجتي، دُنيايَ. وفكرة اعطاء الموافقة للمشفى لقطع الماكينات عنها كانت بالنسبة لي خيانة عظمة لها بعد أن وعدتُها بصَونها مدى الحياة.
ـ وماذا عنّي؟!؟
ـ أنتَ لدَيكَ زوجة ووَلَد وستُنجِب ربّما المزيد مِن الأولاد... لدَيكَ مُستقبلًا أمامكَ وفرَص لامُتناهية. أمّا أنا، ماذا تبقّى لي بَعد رحيل أمّكَ؟
ـ لدَيكَ أنا.
ـ أنتَ؟ لَم أرَكَ منذ فترة، لكنّني أقبَل كلّ شيء مِن قِبَلكَ.
ـ كما قبِلتَ كلّ شيء مِن أمّي.
ـ أجل، فلطالما كانت أشطَر منّي وأثِقُ بحكمتها.
ـ أردتُكَ أبًا حاضِرًا.
ـ ومتى كنتُ غائبًا؟
ـ أعني... أكثر... رجوليّة!
ـ وما معنى الرجوليّة؟ أن أصرخ وأُهدِّد وأمنَع وأفرُض؟ فقط الجبناء يفعلون ذلك.
ـ لكنّكَ كنتَ...
ـ كنتُ ماذا؟ هادِئًا ومُحِبًّا؟ أعمَل بكّد لِجلَب المال لعائلتي؟ أُدَلِّع زوجتي بالسماح لها بفعل ما تُريدُه وأخذ القرار التي تراه مُناسِبًا؟ ما الخطأ الذي اقترفتُه؟
ـ للحقيقة لَم أعُد أعلَم خاصّة بعد... إنّها قصّة طويلة، سأرويها لكَ لاحقًا.
وبعد أن ترَكتُ منزل أبي، قدتُ سيّارتي ببطء وفهمتُ أنّ كلّ المآخِذ التي كانت لدَي ضدّه هي تخيّلات مبنيّة على أمنيات ولَد صغير لَم يكبُر. أردتُ أن يكون أبي مثل مروان الذي سمعتُ عنه مِن أمّي، قويّ وذو عزيمة، أردتُه أن يكون رجُلًا بالمعنى التقليديّ. لَم أفهَم أنّ والدي كان رجُلًا بالفعل لكن عصريًّا ومُتفهّمًا، وخاصّة مغرومًا بزوجته، وأنّ سبب حزن أمّي كان أيضًا أسَفها الدائم على حبّ حرَمَها أهلها منه، فعاشَت بالأوهام. آه لو هي علِمَت مَن اتّضَحَ مروان أن يكون!
أدركتُ أنّ أبي قضى حياته معنا مظلومًا مِن زوجته ومنّي، وذنبه الوحيد أنّه أحَبَّ كثيرًا، ربّما أكثر مِن اللازم، وحانَ الوقت لأردَّ له حبّه لي وأُعيدَ له حقّه كأب وكَجِّد. أخبرتُ زوجتي كلّ ما جرى لي أثناء رحلتي وبعدها، واتّفقنا أن يأتي أبي ليعيش معنا، فهو كان مُخطئًا عندما قالَ أنّ لَم يتبقَّ له شيئًا. فلدَيه الكثير.
حاورته بولا جهشان