لَم يُلاحظ أحدٌ هاني يوم بدأ العمَل في الشركة، بل انتبهَنا لوجوده فقط عندما جمعَنا المُدير بعد أيّام ليقولَ لنا إنّ شخصًا سيكون مسؤولاً عن حواسيبنا والشبكة التي تربطُها وعن الإتصال عبر الإنترنت. إستدَرنا نحو هاني بعد أن دلَّ عليه المدير بأصبعه وتفاجأنا به جميعًا. أمّا هو، فابتسَمَ بخجل ونظَرَ أرضًا، الأمر الذي حمَلَ البعض إلى الضحك عليه. للحقيقة، كان ذلك الرجل مِن هؤلاء الذين لا يتركون أثرًا حولهم، وكان هو مُعتادًا على ذلك بعد أن قضى حياته في الظلّ. شعرتُ بالأسى تجاهه، لِذا رحتُ إليه بعد انتهاء الإجتماع ورحّبتُ به وعرّفتُه عن نفسي. مرّة أخرى نظَرَ هاني إلى الأرض وتمتمَ بضع كلمات خجولة فعُدتُ إلى مكتبي.
مِن ذلك اليوم وصاعدًا صِرتُ أُدافعُ عن هاني كلّ ما حاوَلَ الموظّفون السخرية منه، فبدأوا يتّهموني بأنّني مُغرمة به فقط لإغاظتي. كان مِن المستحيل أن يحصل ذلك، أوّلاً لأنّني كنتُ مخطوبة وثانيًا لفارق الشخصيّة والسنّ بيني وبين هاني الذي كان في العقد الخامس مِن عمره. قدَّرَ لي هاني وقوفي إلى جانبه فصارَ يُبدي اهتمامًا خاصًّا بحاسوبي، فيُصلحه قبل حواسيب الآخرين ويُنزلُ عليه برامج عديدة سهَّلَت عليّ عملي.
وفي أحد الأيّام صدَفَ أن تواجدتُ معه في غرفة الإستراحة قرب مكينة القهوة فسألتُه عن وضعه العائليّ. أجابَني:
- أعيشُ لوحدي بعدما ماتَ والدايَ منذ سنوات طويلة. لدَيَّ أختٌ إلا أنّها سافرَت وعائلتها إلى الولايات المُتحّدة. أحملُ شهادات عالية في هندسة الكمبيوتر لكن مِن الواضح أنّ الطموح ينقصُني. للحقيقة أنا سعيدٌ بما لدَيّ وأحبُّ أن أعيش بهدوء.
- ألَم تتزوّج يومًا يا هاني؟
- لا... كدتُ أن أفعَل إلا أنّ الظروف، أو القدر، لَم تشأ ذلك. علِمتُ أنّكِ مخطوبة، أدعو لكِ بالتوفيق.
حزنتُ مِن أجل هاني، فكان مِن الواضح أنّه وحيد وربّما مُصاب باكتئاب مُزمِن، وهنّأتُ نفسي لأنّني قد أكون الوحيدة في الشركة التي أعارَته أهمّيّة. كم أنّ الإنسان قاسٍ، فهو يرفضُ كلّ مَن هو مُختلف عنه ويعزله!
أخبرتُ كريم خطيبي عن هاني، فهو الآخَر كان يعمل في أحد فروع الشركة، الأمر الذي أدّى إلى تعارفنا يوم أقامَت الشركة الأم حفلاً جمَعَ كلّ الموظّفين. إستمَعَ كريم إلى ما علِمتُه عن هاني وضحِكَ قائلاً:
- رجل غريب... لا عجَب بأنّه لَم يتزوّج أبدًا... قد يكون مُختلاً عقليًّا ومهووسًا... أنصحُكِ بعدَم التعامل معه.
- أوّلاً هو ليس مُختلاً بل ذكيّ للغاية وثانيًا عليّ التعامل معه مِن حيث حاجتي إليه. إضافة إلى ذلك، لقد قرأتُ في عَينَيه طيبة حقيقيّة لا تنمُّ عن أيّ هوَس مرضيّ.
- وما أدراكِ بالناس، فأنتِ لا تزالين صبيّة.
- لدَيّ إحساس بذلك.
غضبتُ مِن كريم الذي تصرّفَ كباقي الموظّفين، فقرّرتُ عدَم ذكر هاني أمامه بعد ذلك.
في أحد الأيّام أوقَعَ هاني سهوًا ملفّات زميلة لنا وهو مارًّ حاملاً أحد الحواسيب إلى مكتبه، وهي بدأت بالصراخ عليه:
- ما بكَ أيّها الأحمق؟!؟ أليس لدَيكَ عينان؟!؟
- أنا آسف... لكن... أنا آسف... سامحيني.
ركضتُ كالمجنونة وساعدتُه على لَمّ الملفّات، ثمّ استدرتُ نحو زميلتي وقلتُ لها:
- مُعاملتكِ لهاني ليست مقبولة فهو لَم يقصد ما حصَلَ. يجدر بنا احترام بعضنا فنحن عائلة واحدة.
- وما شأنكِ أنتِ؟
- شأني أنّني لا أحبُّ العمل مع أناس غير لائقين لا يحترمون غيرهم، هذا هو شأني!
سكَتَ الجميع وهي عادَت إلى عملها. تمتمَ هاني كلمة شكر وأسرَعَ إلى مكتبه. بعد قليل، قصدَني الرجل ووقَف أمامي قائلاً:
- أنتِ حقًّا إنسانة طيّبة وعادلة ولن أنسى ما فعلتِه معي منذ وصولي وخاصّة الآن. أرجو أن تجدي السعادة الحقيقية وأن تبني عائلة جميلة مع الذي تُحبّينه. فأمثالكِ يجب أن يكونوا كثيرين.
تأثّرتُ كثيرًا بكلام هاني الذي كان نابعًا مِن قلبه فامتلأت عينايَ بالدموع.
مرَّت الأشهر وصارَ الموظّفون ينظرون إلى هاني نظرة مُختلفة بفضلي، الأمر الذي أفرَحَ قلب ذلك الرجل. مِن ناحيتي، كنتُ أستعدّ لدخول القفَص الذهبيّ مع كريم، وكان أيضًا قلبي فرحًا بعد أن دامَت خطوبتنا قرابة السنتَين.
وفي تلك الحقبة بالذات دخَلَ هاني مكتبي ومعه حاسوبه المحمول الذي لا يُفارقه أبدًا، ووقفَ أمامي صامتًا. نظرتُ إليه باستغراب وحثَّيته على الكلام فكان لدَي عمل لأنهيه. أخَذَ هاني نفسًا عميقًا وقال:
- أنتِ الوحيدة التي تقبّلَت وجودي ورأت فيّ الإنسان المخبّأ في داخلي، ولقد دافَعتِ عنّي مرارًا وعلّمتِ الآخرين احترامي. العمل الحسن لا يُنتسى ولا يذهب سدىً. وحان الوقت لأُبادلُكِ معروفك.
- ماذا تقصد
- سامحيني لكنّني أذنتُ لنفسي أن أطمئنّ على زواجكِ مِن كريم.
- لا أزالُ لا أفهم. وما دخل خطيبي بما تقوله؟ لِما هذا الغموض يا هاني؟
- كما تعلمين فإنّ حواسيب الشركة بكلّ فروعها هي موصولة على الشبكة نفسها، الأمر الذي يسمحُ بتبادل المعلومات حول عملائنا والبضائع...
- صحيح ذلك
- وحاسوب كريم هو بفعل ذلك أيضًا على الشبكة
- أظنّ ذلك
- ولقد دخلتُه
- ماذا؟!؟
- إسمحي لي أن أُكمِلَ حديثي مِن فضلكِ. لا أحد يُمكنه رؤية ما يفعله صاحب الحاسوب على صعيد شخصيّ، إلا أنا أو شخص لدَيه إختصاصي، لِذا أحبَبتُ أن أعرفَ مَن هو الذي سيتزوّج مِن أروَع إنسانة على وجه الأرض.
- هذا عملٌ غير مقبول يا هاني! إنّها حياته الشخصيّة وأنتَ تجسَّست عليه!
- وخيرًا فعلتُ! فأنتِ لا تعرفين خطيبكِ حقّ معرفة.
- بلى! أعرفُه منذ أكثر مِن سنتَين وهو رجل رائع! لماذا تُريدُ تشويه سمعته؟ هل هدفكَ هو إبطال زواجي؟ لِما هذا الأذى؟!؟
فتَحَ هاني حاسوبه وبقيَ صامتًا بينما أخَذَ يُريني ما لَم أتوقّعه. فالحقيقة أنّ كريم كان يتبادل مع إمرأة لَم أكن حتى قد سمعتُ باسمها أحاديث خاصّة للغاية وصوَرًا طبيعتها إباحيّة بحت، الأمر الذي حمَلَني على إشاحة نظري لكثرة قباحتها. حاولتُ إعطاء كريم أعذارًا فكانت لدَيه حاجات جسدّية لم يستطع إشباعها معي طبعًا فراحَ إلى التي يُمكنه تنفيذها معها، وأنّ الأمر هو فقط مؤقّت. إلا أنّ هاني أجبرَني على قراءة إحدى الرسائل التي قال فيها كريم لعشيقته: "لو لَم تكوني مُتزوّجة لتزوّجتُكِ أنتِ يا حبيبتي، لكن كوني على ثقة أنّني لن أتخلّى عنكِ يومًا بل ستستمرّ علاقتنا كما في السابق. خطيبتي حمقاء لا ترى ولا تسمع شيئًا... إخترتُها لهذا السبب ولأنّ لدَيها عملاً جيّدًا وتغطية صحيّة... وطبعًا للإنجاب. فأيّ أحمق يستبدلُكِ بأخرى؟ أنتِ إمرأة شغوفة ومليئة بالأنوثة! سترَين يا حبيبتي". لَم أصدّق عينايَ وانتابَني غضبٌ لا يوصَف! أقفلتُ الحاسوب المحمول بقوّة ونظرتُ إلى هاني وكأنّه هو المسؤول عن خيانة كريم وقلّة أخلاقه، إلا أنّه أوقفَني قبل أن أُفرغ عليه غضبي قائلاً:
- أنا الآخر وجدتُ نفسي في الموقف ذاته... حبيبتي خانَتني أيضًا وأعلَم كَم أنّ الأمر مؤلم... لكن صدّقيني أن تعرفي الحقيقة أفضل بكثير مِن أن تعيشي كذبة طوال حياتك.
- لكن إنتهى الأمر بكَ وحيدًا.
- هذا كان خياري وقد يكون خياركِ إيجاد رجل صالح، فالناس ليسوا كلّهم كخطيبكِ. إضافة إلى ذلك، حين تكون لكِ الخبرة الكافية ستتمكّنين مِن التمييز بين الأشخاص، ولن تتّكلي فقط على أحاسيسكِ بل أيضًا على عقلكِ ومنطقكِ. أنا واثق مِن أنّكِ ستجدين السعادة يومًا مع مَن يستحقّك.
- أنا آسفة إن كنتُ قد قسوتُ عليكَ يا هاني فالحقيقة أحيانًا صعبة علينا... أشكرُكَ مِن كلّ قلبي.
واجهتُ كريم بما عرفتُه مِن دون أن أُفصِح عن مصدر معلوماتي كي لا أتسبّب لهاني بالطرد. أنكَر خطيبي بقوّة ثمّ اعترَفَ قائلاً: "على كلّ الأحوال هي أفضل منكِ بكثير... أنتِ لا شيء بالنسبة لها". لَم أزعَل مِن كلامه بل أسفتُ على ضياع سنتَين مِن حياتي على هكذا رجل.
في الفترة التي تلَت، صببتُ إهتمامي على عمَلي وعلى حياتي مع أهلي وأصدقائي وسرعان ما نسيتُ كريم. أمّا بالنسبة لهاني، فصارَ الموظّف المُفضّل لدى الجميع وبات يبتسم طوال الوقت، وأقسمُ أنّني سمعتُه يومًا وهو يُرندِحُ قرب مكينة القهوة!
حاورتها بولا جهشان