حذار ممّا تتمنّاه

لماذا طلَّقَ جاد زوجته؟ لقد حيَّرَ هذا السؤال العائلة بأسرها، وكذلك أهالي الحَيّ الذين عرفوا ذلك الرجل تمام المعرفة. فالجدير بالذكر أنّ جاد، ومنذ صغره، كان مثالاً يُضرَب به لكثرة تهذيبه وذكائه وأخلاقه. إضافة إلى ذلك، حازَ جاد على شهادة جامعيّة عُليا ومنصبًا جعل أهله يفتخَرَون به. إلا أنّه تأخّرَ بالزواج، فتصوّروا فرحة الجميع حين علِموا بأنّه وجَدَ أخيرًا المرأة التي سيربطُ حياته بها!

أقامَ العريس لعروسته فرَحًا جميلاً دعا إليه جميع مُحبّيه، وتمنَّينا له حياة هنيئة وطويلة والعديد مِن البنين والبنات. كنتُ آنذاك لا أزالُ عزباء، وشعرتُ بشيء مِن الغيرة لأنّ جاد كان بالفعل الزوج المثاليّ.

لكن بعد عودة العروسَين مِن شهر العسَل في الخارج، لَم تعُد أخبارهما تصلُنا، نحن الجيران، وردَدنا الأمر إلى انشغالهما ببعضهما. للحقيقة كنتُ أودّ رؤية زوجة جاد مِن دون فستانها الأبيض وتبرّجها، لأعلَمَ لماذا اختارَها بالذات، فلَم يحدث أن رأيتُها قبل الزفاف. كلّ ما أعرفُه عنها هو أنّها موظّفة في شركةٍ ما وأنّها كانت تسكنُ وأهلها في مكان ليس قريبًا منّا.

نسيتُ أمر جاد وعبير، هكذا كان إسمها، ومرَّت الأشهر بهدوء تام. ولَم تكن قد انقضَت سنة على زواجه حتى علِمنا أنّ جاد طلَّقَ زوجته. إستغربتُ الأمر كثيرًا، فالطلاق في عائلة جيراننا كان أمرًا غير مُستحبٍّ على الأطلاق، خاصّة بالنسبة لرجل كجاد. إضافة إلى ذلك، لَم ترِدنا أيّة أصداء عن خلاف ما بين الزوجَين، فالألسن لن توفِّر ولو إشاعة لتنقُل الخبر.

راحَت أمّي تزورُ أهل جاد للإستفسار، ليس مِن باب الفضول بل اللياقة وإثباتًا لدعمها لهم في هكذا مِحنة. كنتُ أودُّ مُرافقتها إلا أنّها رفضَت، فقد لا يرغب هؤلاء الناس بنشر غسيلهم لأيّ كان. إلا أنّها وعدَتني بإخباري ما سيُقال في ذلك اللقاء.

للصراحة، لَم أنزعِج مِن خبَر طلاق جاد، فلطالما كنتُ مُعجبة به سرًّا، وكان ذلك الحدَث فرصة لأتقرّبَ مِن ذلك الرجل الناجح والمُميّز لأُواسيه بعد فشَل زواجه، ومَن يدري، آخذُ مكان التي لَم تُحسِن الإحتفاظ به. لِذا انتظرتُ بفارغ الصبر عودة أمّي لأعرف تمامًا ما الذي كان يُزعجُ جاد لدرجة الطلاق. رجَعت والدتي إلى البيت ولمعة غريبة في عَينَيها ليس لأنّها علِمَت خبرًا مُثيرًا للإهتمام، بل لأنّ ما كان يدورُ في بالي خطَرَ هو الآخر في بالها. وبعد أن روَت لي أنّ عبير، عروس جاد، كانت إنسانة لا تتحلّى بالأخلاق والصدق، كما قيل لها، وأضافَت:

 


ـ أعلَم كَم يعني لكِ جارنا، فالأم تنتبِه لهكذا أمور... لا تنكري! لِذا فكّرتُ وأنا جالسة مع هؤلاء الناس أنّ مواصفات المرأة المُناسبة لجاد تنطبقُ عليكِ تمامًا... لِما لا تزورين جيراننا وتتقرّبين مِن جاد؟ أنا مُتأكّدة مِن أنّ رجلاً مثله بإمكانه إسعادكِ يا حبيبتي. إضافة إلى ذلك، فلقد حان الوقت لتتزوّجي.

 

عانقتُ أمّي بقوّة لأنّها كانت أفضل أمّ في العالم وفعلتُ كما نصحَتني واختَرتُ الوقت الذي كان جاد يتواجد فيه عند أهله. فالجدير بالذكر أنّه صارَ يقضي وقته عندهم بالرغم مِن أنّ له بيتًا خاصًا به. وعلى مرّ الأسابيع والأشهر، نشأَت بيننا إلفة جميلة تحوّلَت إلى حبّ. ويوم عَرضَ عليّ جاد الزواج، أسرعتُ بالقبول مُحقِّقة بذلك حلمي.

فرَحُنا كان أقلّ ضخامة مِن الذي أقامَه جاد لزوجته الأولى، وذلك تفاديًا لكلام الناس، إلا أنّني كنتُ أسعد إنسانة في الدنيا. لَم نُسافر خارج الحدود لقضاء شهر عسلنا بل رحنا إلى فندق على شاطئ البحر. بعد ذلك، عدنا لنسكن في عشّنا الجميل.

إستعدَّيتُ طبعًا لأعطي زوجي طفلاً جميلاً، لكنّه طلَبَ منّي التريّث قليلاً. فهِمتُ سبب تردّده، فهو كان ينتظرُ ليرى إن كان زواجنا سينجح بعد أن خضَّته مُشكلة طلاقه. وإن يكن! فذلك كان سيسمحُ لي بالاستمتاع بحياتي مع زوجي أكثر!

لكن بعد مرور ثلاثة أشهر على زواجنا، شعرتُ بملَل كبير إذ أنّ جاد لَم يكن يُحبّ الخروج بل المكوث في البيت بصورة مُستمرّة بعد عودته مِن يوم طويل في العمَل، وكنتُ أبقى لوحدي طوال الوقت. صحيح أنّه لَم يمنَعني مِن الخروج، إلا أنّني فهمتُ مِن تلميحاته ما يُريده منّي. زارَني أهلي طبعًا لكنّهم لاحظوا برودة استقبال جاد لهم، فخفّفوا مِن وتيرة تلك الزيارات وكذلك صديقاتي.

لكنّ عزلة جاد كان هدفها عُزلتي إذ أنّه لَم يكن قد أفصَحَ لي بعد عن حقيقة كان يُخفيها جيّدًا: ميوله الجنسيّة. لا، هو ليس مثليًّا، كما قد يظنّ البعض عند قراءة كلماتي، ويا لَيته كان بالفعل مثليًّا! فالأمر أفظَع بعد، صدّقوني... كان جاد ساديّ، أي أنّه لا يجد لذّة في ممارسة الجنس إلا بإيذاء وإهانة شريكته. فهو كان قد مثَّلَ في الأشهر السابقة دور الزوج الهادئ واللطيف والحنون والذي يبحثُ عن لذّتي قبل لذّته، وذلك ليدرس كيفيّة إطلاعي على ميوله وكي لا أخافُ منه على الفور. كيف علِمتُ بما يُريدُه منّي؟ مِن الذي قالهَ لي بكلّ صراحة:

 

ـ إسمعي... لستُ كباقي الناس... أعني جنسيًّا... فأنا بحاجة إلى الإثارة.

 

ـ ألا أُثيرُكَ كفاية يا حبيبي؟!؟

 

ـ أريدُكِ أكثر طاعة في السرير، وأكثر تحمّلاً.

 

ـ لَم أفهمكَ جيّدًا... ماذا تعني؟

 

ـ سأريكِ.

 

سأُجنّبُكم التفاصيل، إلا أنّني شاهدتُ تحوّلاً مُخيفًا بجاد الذي عاملَني حقًّا بقساوة وازدراء. وفور انتهائنا، عادَ كما كان، أيّ رجلاً هادئًا.

كانت تلك التجربة قد خضَّتني كثيرًا إذ أنّني لَم أقبَل يومًا أن يُهينني أحد، فكيف لي أن أقبَل ذلك مِن زوجي؟ ومنذ تلك الليلة، إنقلبَت حياتي رأسًا على عقَب، فصِرتُ أخافُ مِن ذلك السرير الذي باتَ يعني لي الألَم والذّل، ولَم أعد قادرة على النوم فيه بل كنتُ أتركُه ليلاً لأنام على أريكة الصالون حتى طلوع الفجر. بكيتُ كثيرًا لوحدي على ما أمرُّ به، ولَم أجرؤ على إخبار أحد لكثرة خجَلي مِن الموضوع. إضافة إلى ذلك، كنتُ التي أصرَّت على الزواج مِن جاد بأيّ ثمَن. لكن كيف لي أن أعرفَ إلى أيّ مدى كان قلبه أسود؟ فالذي يُعاملُ النساء هكذا لدَيه غضب لا مثيل له تجاههنّ لا يمتُّ بأي صلة إلى الحبّ والإحترام.

 


عمِلَ جاد جهده لعدَم ترك آثار تعنيفه لي على مناطق ظاهرة مِن جسدي، وأتّضَحَ لي أنّه كان مُتمرّسًا بما يفعله، فتذكّرتُ زوجته الأولى وسألتُ نفسي سؤالاً بديهيًّا: مَن طلّقَ فعليًّا مَن؟ فلا بدّ أنّ عبير مرَّت بالذي أمرُّ فيه وقرّرَت ترك ذلك الطاغي، وكان مِن السهل على جاد إخبار أهله والناس أنّه مَن وضَعَ حدًّا للزواج. هل كان يجدرُ بي البحث أكثر في موضوع طلاق جاد قَبل الزواج منه؟ أظنّ أنّ عبير هي الإنسانة الوحيدة التي علِمَت حقيقته البشعة، فمَن يعرفُ حقًّا بما يجري في غرَف النوم؟.

مرَّت أشهر صعبة للغاية عليّ إلى أن أطلعتُ جاد على نيّتي بالرحيل بعيدًا عنه، لكنّه بدأ يصرخُ ويُهدّد. لَم يكن طبعًا يريدُ طلاقًا ثانيًا مهما كان السبب والثمَن. قال لي بوضوح إنّه يُفضّل موتي على تركي أرحل، ومِن نظرة عَينَيه علِمتُ أنّه جاد بقوله.

في تلك الفترة بالذات بحثتُ عن عبير، فهي كانت الوحيدة التي بامكاني فتح قلبي لها. لكن كيف أجدُها؟ تذكّرتُ أنّ اسمها وعنوان سكنها مدوّن على وثيقة زواجي في فقرة الزيجات السابقات لجاد، الأمر الذي مرَّ مرور الكرام حين استلمتُ نسختي. ركضتُ أفتّشُ عن المُستند وابتسَمتُ عند إيجاده. في اليوم التالي أخذتُ الباص وتوجّهتُ إلى العنوان المذكور.

لَم أقُل لِعبير على الفور مَن أكون، بل ادّعَيتُ أنّ لدَينا صديقًا مُشتركًا أودّ العثور عليه. وعندما سألَتني مَن يكون، نظرتُ في عَينَيها وقلتُ لها: "جاد ط". تغيّرَت ملامحها فجأة وكادَت أن تُغلِق الباب بِوجهي، إلا أنّني وضعتُ رجلي في فتحة الباب وصرختُ لها:

 

- أنا زوجته الجديدة وتعلمين عمّا سأتحدّث معكِ... دعيني أدخل أرجوكِ فليس لدَيّ سواكِ.

 

جلَسنا لوحدنا في غرفتها وسادَ الصمت قبل أن تقول لي:

 

ـ فعلَها معكِ أيضًا، أليس كذلك؟ ولا تزالين زوجته؟ ألَم تتركيه كما فعلتُ؟

 

ـ هو لا يُريدُ الطلاق، بل هدّدَني بالقتل وأنا أؤمِن بقوّة أنّه قادر على ذلك.

 

ـ لن أترككِ تمرّين بالذي مرَرتُ به... لا يجدرُ بأيّة إمرأة أن تتحمّل ذلك... خذي إسم ورقم المُحامي الذي خلّصَني مِن ذلك المجنون، إنّه بالفعل بارع. في هذه الأثناء عودي إلى أهلكِ ولا تُصدّقي وعوده بالتغيّر فهكذا رجال لا يتغيّرون أبدًا. حصَلَ أن تركتُه مدّة أسبوعَين وعدتُ له لأكتشفَ أنّه زادَ عنفًا وأذيّة. خذي رقمي أيضًا وابقِني على علم بكلّ ما يحدث.

 

ركضتُ إلى البيت لأجمع أمتعتي قبل عودة زوجي مِن عمله، والتجأتُ إلى أهلي الذين ذُهلوا بما أخبرتُهم. إتّصلتُ بالمحامي الذي أسِفَ أن يكون جاد قد وجَدَ ضحيّة أخرى، ووعدَني بأن يُخلّصني بأسرع وقت منه نظرًا لملّفه الذي يدلُّ بوضوح على انحراف السابق. رحتُ برفقته إلى طبيب شرعيّ الذي عاينَ آثار العنف على جسدي مِن كدمات وحروق سجائر، وكتبَ لي تقريرًا يُثبتُ معاناتي.

حاوَلَ جاد طبعًا إسترجاعي ووعدَني بأن يتعالَج نفسيًّا، إلا أنّني لَم أُصدّقه على الأطلاق. إضافة إلى ذلك، كان قد نما في قلبي كرهٌ كبير تجاهه وخوفٌ لا مثيل له.

حصلتُ على الطلاق بسرعة وعلى تعويض ماليّ لا بأس به، إلا أنّني لَم أتزوّج حتى اليوم، أي بعد مرور خمس سنوات. هل سأستطيع الوثوق بأحد مرّة ثانية؟ أدعو الله أن يُعطيني الشجاعة الكافية لأضَع يومًا قلبي وجسَدي بين يدَي رجل صادق ومُحب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button