حبّي الحقيقي...

حين فتحتُ الباب، وجدتُ شابًّا واقفًا أمامي وبيَده حقيبة سفَر. سألتُه طبعًا مَن يكون وماذا يُريد، وحسبتُه حقًّا بائعًا مُتجوّلاً يُريدُ عرض بضاعته عليّ. لكنّه قال لي:

 

ـ أنا إبن فريدة س. زميلتكَ القديمة في الجامعة.

 

ـ فريدة! أجل، أجل... كيف هي؟ لَم أرَها أو أسمَع منها منذ دهور!

 

ـ هي التي قالَت لي إنّ بإمكاني قصدكَ سيّدي لو احتَجتُ شيئًا. أمّي ماتَت، رحمها الله.

 

أدخلتُ الشاب والحزن يملأ قلبي، فكانت فريدة جزءًا مِن حياتي لن أنساه أبدًا اذ أنّها حبّي الأوّل. أخذتُ أسأل سالم عن حياته مع أمّه وأبيه، وعلِمتُ منه أنّه قرَّرَ ترك المدينة التي يسكنُ فيها ليقصد العاصمة بعد أن خسِرَ والدَيه ولا أحَد له كَونه ولَدًا وحيدًا. ثمّ عادَت زوجتي مِن التسوّق، فعرّفتُها على سالم ومَن يكون. هي ابتسمَت لأنّني كنتُ قد أخبرتُها في ما مضى عن فريدة، وكيف أنّني أحبَبتُها كما قد يفعَل أيّ تلميذ جامعيّ آخَر.

فهمتُ مِن سالم أنّ لا مكان له ليمكُث فيه، على الأقلّ في الوقت الحاضر. لِذا نظرتُ إلى زوجتي، وهي أومَت لي بالموافقة قَبل أن أعرضَ عليه أن يبيتَ عندنا إلى حين يجدُ مسكنًا. إنتابَني شعور جميل، ليس لأنّني كنتُ لا أزال أُحبُّ فريدة، بل فقط لأنّ تلك الحقبة مِن حياتي كانت الأجمَل وخالية مِن الهموم والمسؤوليّات. فلَم يكن مطلوبًا منّي سوى أن أدرس لأنجَح، وكلّ شيء آخَر كان مؤمّنًا لي، حتّى عندما سافَرتُ لإنهاء تخصّصي. بعد ذلك، صارَت حياتي شاقّة، فعمِلتُ بجهد لأبنيَ مُستقبلاً جيّدًا لنفسي ولزوجتي وولدَيّ اللذَين تخرّجا وسافرا إلى الخارج للعمَل.

عندما ذهَبَ سالم إلى غرفة ابني البِكر للنوم فيها، عانقَتني زوجتي بحنان وشكرتُها ضمنيًّا لتفهّمها. على كلّ الأحوال، كانت لدى زوجتي صفات حميدة كثيرة، وأهمّها تعقّلها وعمق تفكيرها وحبّها غير المشروط لي.

في اليوم التالي أخذتُ سالم ورحنا نُفتّش معًا على مسكن له، ووجَدنا شقّتَين أو ثلاثًا ولكن صغيرة جدًّا بسبب المبلغ البسيط الذي بإمكانه تخصيصه للإيجار. فهو لَم يكن غنيًّا بل كان موظّفًا عاديًّا، وقد دبَّر وظيفة جديدة في العاصمة كنادِل في مطعم. أسِفتُ لحالته، فولَدايَ تلقّيا دراسة مُمتازة، ووجَدا أعمالاً جيّدة جدًّا في الخارج بفضل شهادتهما. وقَّعَ سالم اتّفاقيّة إيجار مع صاحب المسكن، وودّعَني شاكرًا... وانتهى الموضوع.

إنتهى الموضوع؟ للحقيقة لا، بل العكس.

فبعد أيّام قليلة، إتّصَلَ بي سالم طالبًا منّي موعدًا في مكان عام ليُكلّمني بموضوع هام. وحين التقَينا قال لي مِن دون مُقدّمة:

 

ـ سيّدي... أنا إبنكَ.

 

ـ ماذا؟!؟ ماذا تعني؟ كيف تكون ابني؟!؟

 

ـ أمّي حمِلَت منكَ آنذاك... حمِلَت بي... وأسرَعتَ بقبول أوّل عريس تقدَّمَ لها لتغطية الفضيحة، ولَم يعرِف الذي سُمّيَ أبي بالخدعة. أنا الآخَر كنتُ أجهلُ ابن مَن أكون بالفعل، إلى حين أٌصيبَت أمّي بمرَض خطير وعلِمَت أنّها ستموت، فأخبرَتني الحقيقة وأفصحَت لي عن اسمكَ وتفاصيل أخرى ساعدَتني في العثور عليكَ.

 

ـ لكن...

 

ـ لا تنكُر مِن فضلكَ، فأنتما... أعني أنّ علاقتكما لَم تكن عذريّة.

 

ـ كنّا صغارًا آنذاك ولَم نعِ نتائج ما نفعله. لكنّني لَم أعلَم أبدًا أنّ فريدة حمِلَت منّي!

 

ـ أنتَ سافَرتَ إلى الخارج لإنهاء دراستكَ، تذكّر.

 

ـ صحيح... صحيح... وقلتُ لفريدة إنّ عليها نسياني، فقد يطولُ غيابي ولَم أشأ الوقوف في درب مستقبلها. لكن لماذا هي لَم تقُل لي إنّها حامِل منّي؟!؟

 

ـ لأنّها لَم ترِد الوقوف في درب مستقبلكَ هي الأخرى.

 

ـ أنتَ ابني حقًّا؟!؟

 

ـ أجل... يا بابا. إسمَع... أنا لا أُريدُ أن تعترِف رسميًّا بي، بل فقط أن تكون موجودًا في حياتي، كما كان يجب أن يحصل لولا تخلّيكَ عن الماما.

 

نظرتُ إلى سالم نظرة تعجّب ممزوجة بالرّعب، فكيف أزِفُّ الخبَر لزوجتي؟!؟ لَم أكن أبدًا متهيّئًا لهكذا خبَر، فنسيتُ أنّ الذي قبالتي هو مِن لحمي ودمي، فتركتُه حيث هو وعدتُ إلى بيتي حيث بذلتُ جهدي لأبدوَ طبيعيًّا. لكن ما مِن شيء يُخفى عن نصفيَ الآخَر، فسألَتني زوجتي إن كنتُ بخير واكتفَيتُ بسؤالها بدوري: "هل تُحبّيني فوق كلّ شيء؟". إستغربَت زوجتي سؤالي، فأجابَت بِنعَم وعانقَتني مُطوّلاً مؤكّدةً لي أنّ لا شيء بإمكانه التخفيف مِن حبّها لي. ضحكتُ في سرّي، فالمسكينة لَم تكن تعرفُ بعد ما ينتظرُها! ربّما مِن الأفضل إخفاء وجود ابني سالم عنها؟ لَم أكن أعلَم بعد ما سأفعلُه وكنتُ بحاجة إلى التفكير جيّدًا بالموضوع.

إلى جانب الهلَع، إنتابَني شعورٌ بالذنب: كيف حصَلَ أن تركتُ حبيبتي آنذاك بعد الذي فعلناه سويًّا؟ فبالرغم مِن عدَم معرفتي بالحَمل، كنّا قد مارَسنا الحبّ، أيّ أنّني بشكل أو بآخَر دمَّرتُ حياتها. صحيح أنّ ضغط أهلي عليّ لأُسافِر كان قويًّا، لكنّني لَم أرَ في ذلك الوقت أي سبب للوقوف في وجههم وتحمّل مسؤوليّتي تجاه فريدة، بل رحَلتُ مِن دون أن أنظُر ورائي وكأنّ شيئًا لَم يحصَل! كَم كنتُ طائشًا! يا إلهي... عذاب فريدة كان حتمًا لا يُقاس، خاصّة أنّها كانت تحملُ جنينًا مِن دون زواج! صحيح أنّني زعلتُ عندما علِمتُ أنّها تزوّجَت، لكنّني كنتُ مُنهمكًا بتخصّصي، ودعوتُ لها ضمنًا بالتوفيق فلَم يكن مِن الوارِد آنذاك أن أؤسّس عائلة.

وخبَر أبوّتي المُفاجئة أقنعَني بأخذ موقف شُجاع ولو مرّة في حياتي، والاعتراف بسالم كإبن لي، على الأقلّ للتكفير عن ذنبي الكبير تجاه المرحومة فريدة التي بقيَت تتربّع على عرش مشاعري طوال حياتي. هل ستكون زوجتي مُتفهِّمة كعادتها؟

لَم أجِد المُناسبة المؤاتية للتحدّث مع زوجتي، فأرجأتُ الموضوع أيّامًا قليلة رأيتُ خلالها إبني وتحدّثنا سويًّا عن مستقبله معي. سألتُه مئة سؤال عن حياته قَبل مجيئه إليّ خاصّة طفولته، وارتحتُ لفكرة تربيته على يَد رجُل صالِح وأمّ مُحبّة. وعدتُه بأنّني سأعوّضُ له كلّ ما فاتَه بعيدًا عنّي، وهو ذرفَ الدمع قائلاً: "أكّدَت لي الماما قَبل موتها أنّكَ لن تتخلّى عنّي... وقالَت لي إنّها لَم تنفكّ عن التفكير بكَ طوال حياتها". أثَّرَ بي كلامه فعانقتُه بقوّة. ها قد أرسَلَ لي الله ابنًا بعد أن غادَرَ ابنايَ إلى بلَد بعيد، وقد لا يعودان إن وجَدا سعادتهما هناك.

باتَت فريدة والذنب المُرفَق بها شغلي الشاغل ولَم أعُد قادرًا على النوم. وفي إحدى الليالي، حين غرِقتُ في النوم أخيرًا، رأيتُها في الحلم وهي تبكي وتقولُ: "تعالى إليّ... لماذا أنتَ دائمًا بعيد عنّي؟!؟". وعندما إستيقظتُ شعرتُ أنّ فريدة تُريدُني أن أزورَ قبرها وأُصلّي عليه. ومِن دون أن أُخبِر زوجتي أو سالم بالذي أنوي فعله، إنطلَقتُ صباحًا إلى تلك المدينة البعيدة حيث ترقدُ أوّل حبّ في حياتي.

وصَلتُ المدينة وسألتُ أين المقابِر، لكنّ المكان المذكور كان شاسعًا ولا تحملُ كلّ القبور أسماء أصحابها بوضوح. عندها قصدتُ الشخص المسؤول عن المدافن، وسألتُه عن مدفَن فريدة س، زوجة المرحوم زياد م. فتّشَ الرجُل في ملفّاته واتّصَلَ بمُختار المحلّة ثم ّ نظَرَ إليّ قائلاً:

 

- سيّدي، لن تجِد قبرها في أيّ مكان، فهي ليست ميّتة.

 

ماذا؟!؟ فريدة على قَيد الحياة؟ أخذتُ عنوانها ورحتُ إليها.

قرَعتُ باب فريدة وقلبي يخفقُ بسرعة فائقة، فأوّلاً لَم أتصوّر أبدًا أنّ يومًا سيأتي وأراها مُجدّدًا، وثانيًا لأنّ كَونها لَم تمُت يعني أنّ ابنها كذِبَ عليّ، لكن إلى أيّ مدى؟

تعرّفَت فريدة عليّ على الفور، فسكتَت مُطوّلاً ثمّ سألَتني كيف علِمتُ بعنوان سكنها وماذا أُريدُ منها. فهمتُ أنّها لا تُريدُ إدخالي بيتها وأنّ زوجها قد يكون هو الآخَر حيًّا. إلا أنّني قلتُ لها إنّ الحديث بغاية الأهميّة، ولا يجوز التكلّم به عند الباب. قبِلَت حبيبتي القديمة أن تستقبلَني، فدَخلتُ في صلب الموضوع فورًا. أطلعَتُها بمجيء سالم إليّ وماذا قالَ لي. رأيتُ الدهشة ترتسمُ على وجهها وقالَت:

 

ـ ليس لدَيّ أولاد ذكور بل ابنتان وهما مِن زوجي الحالي بالتأكيد! أنا لَم أحمَل منكَ على الاطلاق! صحيح أنّ علاقة ما حصلَت بيننا، أعني جسديًّا، لكنّها لَم تكن كافية حتّى لفقدان عذريّتي.

 

ـ ماذا؟!؟ فلقد خُيّلَ لي أنّنا...

 

ـ كنّا مُراهقَين ولا نعرفُ شيئًا عن الموضوع. عندما تقدَّمَ لي زوجي، رحتُ إلى طبيبة نسائيّة مع قريبة لي أثِقُ بها، وتحقّقتُ مِن الأمر قَبل قبولي به، فلَم أكن أريدُ أن أغشّ أحَدًا. هل ارتاحَ ضميرُكَ الآن؟

 

ـ أجل!!! لكن مَن يكونُ سالم؟؟؟

 

ـ حسب اسمه ومواصفاته، أظنّ أنّه ابن ابنة خالتي التي ذهبَت معي إلى الطبيبة، وهي تعرفُ كلّ تفاصيل علاقتي بكَ وكَم أثّرَ بي سفرَكَ وابتعادكَ عنّي. لا بدّ أنّها أخبرَت قصّتي لابنها، وهو حفظَها واستعملَها حين انتقَلَ إلى العاصمة بعد موت والدَيه. فهو شابّ مُحتال ووصوليّ ولَم أستلطِفهُ يومًا. أظنُّ أنّه رأى فيكَ مصدر رزق وافر.

 

ـ لقد أرَحتِ قلبي! كيف أشكركِ يا فريدة؟

 

ـ بالابتعاد عنّي... فأنا حقًّا سعيدة مع زوجي وأحبُّه كثيرًا. ما كان بيني وبينك لَم يكن حبًّا حقيقيًّا بسبب سنّنا اليافِع. لا أنكرُ أنّني كنتُ بالفعل مُتيّمة بكَ آنذاك، لكنّني فهمتُ معنى الحبّ مع زوجي ولاحقًّا مع ابنتَيَّ.

 

ـ أنا أيضًا سعيد مع زوجتي. أشكرُكِ يا فريدة وأتمنّى لكِ السعادة الدائمة.

 

أوّل شيء فعلتُه عند عودتي، كان أن قصدتُ سالم في مسكنه فكشفتُ خدعته مع تهديدات جدّيّة بالاشتكاء عليه لدى الشرطة إن هو اقترَبَ منّي مُجدّدًا. هو خافَ كثيرًا، وتوسّلَ إليّ بعدَم فضح ما فعلَه وكان ينوي فعله. يا للوغد! فهو كان سيُسبّب لي مشكلة عظيمة مع زوجتي وكان سيستفيدُ مِن مالي حتّى آخِر أيّامي!

رحتُ إلى البيت وعانَقتُ زوجتي بقوّة، وهي ابتسمَت مِن دون أن تعرفَ السبب. فما لَم تكن تعرفه أيضًا، هو أنّ ذكرى فريدة اختفَت مِن قلبي فجأة ومِن غير عودة، فالمرأة التي تزوّجتُها هي بالفعل حبّي الأوّل والأخير وليس فريدة، كما تصوّرتُ طوال حياتي.

بقيَت قصّة سالم سرّيّة، فهناك أمور لا يجِب الإفصاح عنها، فما النفع مِن ذلك؟

 

حاورته بولا جهشان

 
المزيد
back to top button