حبّ مِن الماضي

لحظة وقَعت عينايَ على تلك المرأة، عادَت إليّ ذكريات خلتُها اختفَت مع الزمن، وشعرتُ مجدّدًا بالخيبة والخذلان اللذين أغرقاني بحزن عميق قبل أكثر مِن عشرين سنة. فالتي كانت واقفة إلى جانب زوجها كانت حبّي الأوّل... والأخير. مِن بعدها لم أتمكّن مِن الحبّ مجدّدًا بالرّغم مِن محاولاتي العديدة، وعدد النساء اللواتي تمنَّينَ أن تحملنَ اسمي وتشاركني ثروتي. فأنا رجل ثريًّ وصاحب شركة كبيرة يعمل فيها موظفّون كثر، مِن بينهم زوج حنين، حبيبتي السابقة.

في الواقع، لم تكن حنين حبيبتي بكلّ ما للكلمة مِن معنى، إذ هي لم تحبّني يومًا بل فعلَت جهدها لتحطيمي وإذلالي، فقط لأنّني كنتُ فقيرًا. أمّا أنا، فبقيتُ أسعى وراء "أجمل فتاة في الحَي" وكأنّ لي فرصة لنَيل قلبها. ولم أتوقّف عن المحاولة إلا حين أهانَتني حنين بشكل فظيع أمام الجميع. عندها استيقظَت كرامتي، وقرَّرتُ الإبتعاد عن التي جرحَت قلبي وعزّة نفسي.

وها هي واقفة أمامي في قلب شركتي إلى جانب زوجها، موظّف كغيره، لا طموح له، يقوم بمهامه كالآلة البلهاء. إبتسمَتُ لسخرية الأمر، لأنّ ذلك الرجل لم يكن غنيًّا بل يتقاضى أجرًا عاديًّا لا يُمكّن زوجته مِن العيش كما كانت تنوي فعله. وما هو أهمّ مِن ذلك هو أنّني المتحكّم بمصيرها وبزوجها كَوني صاحب العمل.

زالَت فكرة الإنتقام مِن رأسي في دقيقة، لأنّني لستُ حقودًا، إلا أنّني استمتعتُ بذلك الشعور بالقوّة وإمكانيّة تغيير مصير معذّبتي بغضون ثوان.

أدَرتُ ظهري للثنائيّ، وأخذتُ أتكلّم مع ضيوف دعوتهم لحضور احتفالنا بذكرى تأسيس الشركة.

لكن بعد دقائق قليلة، شعرتُ بيد تلمس كتفي وصوت حنين يقول لي: "ألا تتذكّرني؟"

لو استطعتُ، لَما استدَرتُ نحوها، لأنّ قلبي بدأ يدقّ بسرعة، فلطالما تمنَّيتُ أن تلمسَني تلك المرأة أو أن تخاطبَني بنعومة كما فعلَت لتوّها.

 


وعندما أصبحنا وجهًا لوجه رأيتُها تبتسم لي، فاستَيقظَ فيّ الشاب المتيَّم وردَدتُ لها الإبتسامة. كانت حنين قد انتصَرَت عليّ، كعادتها. أخذتُ نفَسًا عميقًا وقلتُ لها بصوت أردتُه عاديًّا:

 

ـ حنين! ماذا تفعلين هنا؟

 

ـ كريم زوجي يعمل لدَيكَ... لم أكن أعلم أنّ صاحب الشركة هو أنتَ، بالرّغم مِن أنّ الاسم هو نفسه.

 

ـ وكيف لكِ أن تتصوّري أنّ الشاب الفقير الذي عرفتِه هو الرجل القويّ والثريّ الذي يدفع راتب زوجكِ؟

 

تلبّكَت حنين واستعدَتُ ثقتي بنفسي. بعد ثوان أضافَت:

 

ـ الزمَن يُغيّر المرء... لم أعد تلك الصبيّة المتشاوفة والهازئة... لقد مرَّت عليّ ظروف علَّمَتني الكثير.

 

ـ أنا مسرور لأجلكِ يا حنين. عليّ ترككِ الآن فلدَيَّ ضيوف.

 

أدَرتُ لها ظهري مجدّدًا، لكن كل ما كنتُ أريده هو البقاء معها. عندما انتهى الحفل، جاءَت مع زوجها ليشكراني ورحلا.

قضيتُ الليل أستعيد ذكريات الماضي تارة، وتارة أخرى أطرد صورة حبيبتي مِن رأسي. وعند الصباح، كنتُ بمزاج صعب جدًّا وغير قادر على التفكير بوضوح للقيام بعملي. لِذا قرَّرتُ، ولأوّل مرّة في مسيرتي المهنيّة، أخذ اجازة. كانت رؤية حنين قد أثرَّت كثيرًا فيّ.

بقيتُ في البيت فترة ما قبل الظهر، ومِن ثمّ عزَمتُ على الخروج لتناول الغداء في مطعمي المفضّل، ومِن هناك أجريتُ الاتصالات اللازمة مع مكتبي لمتابعة سَير العمل. لكن حين انتهَيتُ مِن الأكل وأوشكتُ على ترك المطعم، رأيتُ حنين تدخله وتنظر مِن حولها وكأنّها تفتّش عن أحد. وعندما رأتني، مشَت نحوي مبتسمة. عندها قلتُ لها:

 

ـ لن تقنعيني أنّكِ جئتِ إلى هنا صدفة، فخبرتي بالأعمال والناس علَّمتني ألا أؤمِن بالصدف.

 

ـ كلامكَ صحيح، قصدتُ رؤيتكَ، إلا أنّ خبرتكَ بالأعمال والناس لم تجعل منكَ إنسانًا حريصًا كفاية.

 

ـ لم أفهم قصدكَ... هل كنتِ تتبعيني؟ هل تراقبيني؟

 

ـ بل جئتُ أكلّمكَ بأمر بغاية الأهميّة.

 

ـ مِن المؤكّد أنّكِ تودّين استغلال حبّي القديم لكِ لتحصلي لزوجكِ على ترقية أو علاوة... لا تضيعي وقتكِ يا عزيزتي، فأوّلاً هذا الأسلوب قديم ومُستعمَل منذ زمن قديم، وثانيًا لن ينال زوجكِ شيئًا منّي خاصّة أنّه إنسان تافه، غير طموح وبالكاد يقوم بعمله كما يجب... ربمّا عليّ طرده لعدَم منفعته لي.

 

ـ كم أنّكَ أصبحتَ مغرورًا... لم تكن هكذا... أنتَ مخطئ تمامًا، ولقد تبّينَ لي الآن أنّكَ لا تجيد تقييم الناس.

 

ـ هاهاها... هل انكشفَت خطّتكِ لِذا تجرّحيني كعادتكِ؟

 


ـ قلتُ لكَ إنّني تغيّرتُ كثيرًا.

 

ـ لا أحد يتغيّر يا سيّدتي. الوداع.

 

تركتُ المائدة وخرجتُ مِن المطعم مستاءً. مَن كانت تظن نفسها؟ هل خالَت للحظة أنّني سأقع في فخّها وأصدّق أنّ نواياها حسنة تجاهي؟ عدتُ إلى البيت ونمتُ لساعات طويلة. باقي اليوم كان مملاً، إلا أنّني استعدتُ خلاله نشاطي وذهبتُ في اليوم التالي إلى الشركة بكامل فعاليّتي. ووعَدتُ نفسي طبعًا بألا أدَع حنين تؤثّر عليّ مجدّدًا.

بعد ساعات قليلة على وصولي المكتب، تلقَّيتُ بريدًا إلكترونيًا عنوانه: "رسالة هامّة جدًّا" آتية مِن شخص مجهول وفضَّلتُ عدم فتحها خوفًا مِن أن تكون قد تحتوي على فيروس غرضه الدخول إلى ملفّات الشركة. فالجدير بالذكر أنّ عملنا بغاية الأهميّة والسريّة، إذ نهتمّ باستثمارات ضخمة نيابة عن عملاء أثرياء، والمبالغ ضخمة جدًّا. وبالرّغم مِن أنّنا نملك مضادًا للفيروسات قويّ جدًّا، فإنّنا لسنا بمنأى عن جميعها.

في اليوم التالي، وصلَتني رسالة جديدة مِن المرسل نفسه عنوانها هذه المرّة: "رسالة هامة جدًّا مِن إمرأة تريد لكَ الخير". عندها علِمتُ أنّها مِن حنين وفكّرتُ مليًّا قبل فتحها، فلَم أعد أريد إدخالها إلى حياتي. لكن، مِن جهّة أخرى، أعجبَتني فكرة أنّها تستمرّ بالمحاولة وأنّها بذلك تذلّ نفسها. لِذا قرأتُ محتوى الرسالة، وكَم كانت دهشتي حين لم أجد كلامًا بالحب أو طلبات ترقية لزوجها بل أمرًا مختلفًا تمامًا. كانت حنين تنبّهني مِن الذي يحصل في شركتي، بسبب مجموعة مِن الموظّفين يترأسهم زوجها. ذلك الفاشل، على الأقل باعتقادي، كان ينوي سرقة عملائنا وجلبهم له بعد أن أسَّسَ سرًّا شركة خاصّة به. وكانت حنين قد أرفقَت رسالتها بدلائل قاطعة على كلامها، طالبة منّي عدَم زجّ زوجها في السجن بل طرده فقط. أجبتُ على رسالتها بطلب رؤيتها في المطعم نفسه، لأنّني كنتُ أريد معرفة ما دفعها إلى إنقاذ تعب حياتي.

عندما جلَسنا وجهًا لوجه وطرحتُ على حنين السؤال شخصيًّا، قالت لي:

 

ـ عندما أدركتُ ما فعلتُه بكَ في ما مضى، إنتابَني شعور بالذنب قويّ جدًّا، وتمنَّيتُ لو تُتاح لي الفرصة للإعتذار منكَ، إلا أنّ ذلك لم يحصل. مرَّت السنوات وتزوّجتُ مِن كريم، واكتشَفتُ أنّكَ مديره وصاحب الشركة، ففرحتُ جدًّا لِما وصلتَ إليه مِن نفوذ ومال. لكنّني علمتُ مِن زوجي ما ينوي فعله، وحاولتُ إقناعه بأنّ ذلك ليس أخلاقيًّا وأنّ عليه العدول عن مخطّطه. لم يقتنع منّي وأنا كرهَتُه لِما رأيتُه فيه مِن مكر وغش. فبدَلاً مِن أن يجتهد ليصعد سلّم الترقيات ومِن بعدها يُؤسّس شركة بطريقة نزيهة كما فعلتَ أنتَ، أرادَ سرقة تعب غيره والوصول إلى القمّة مِن دون تعب. لقد خسرَ كريم إحترامي وحبّي له.

 

ـ وقرَّرتِ فضحه عندي...

 

ـ أجل لأنّني لا أريد أن أصبح شريكة في هذه الخطّة الدنيئة.

 

ـ لقد تغيّرتِ فعلاً يا حنين... كنتُ مخطئًا بما يخصّكِ ويخصّ زوجكِ... رأيتُ المكر حيث الطيبة والنزاهة، واطمأنيتُ إلى مَن يريد الغدر بي... لقد لقَّنتِني درسًا قيمًّا وأشكركِ على ذلك. لكن ما الذي سيحصل لكِ عندما أطرد زوجكِ ويُصبح بلا عمل؟

 

ـ هذا شأنه هو. لا تخف عليه، فهو مِن النوع الذي يقفز على الفرَص التي تُتاح له مهما كان الثمن.

 

ـ وستعيشين مع رجل لا ضمير له ولا مبادئ؟

 

ـ أجل، فلقد أختَرتُه وعليّ تحمّل مسؤوليّة خياري، على أمل أن يتغيّر هو الآخر.

 

ـ تزوّجيني! أتركيه فلا أزال أحبّكِ، بل إنّني أحبّكِ أكثر مِن قبل!

 

ـ لا... حياتي مع كريم، يكفي أنّني خنتُ ثقته بإخباركَ عن نواياه. الوداع.

 

طردتُ كريم وكل الذين كانوا مشتركين معه وعاودتُ عملي كالمعتاد. لم أرَ حنين بعد ذلك اليوم ولم أسمَع عنها، خاصّة أنّها انتقلَت وزوجها إلى مسكن آخر تفاديًّا للفضيحة. لم أقل لأحد أنّها مَن ساعَدتني كي لا ينتقم منها كريم، فيكفيها أنّها ستعيش مع إنسان لا تحبّه ولا تحترمه.

تغيرَّت نظرتي للناس ولم أعد أحكم عليهم حسب ماضيهم أو حتى حسب منظوري الخاص لهم. فالإنسان كائن متقلّب يُخفي في قلبه الجيّد والسيّئ في آن معًا.

هل لا أزال أحبّ حنين؟ أجل... ولن أكفّ يومًا.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button