كنتُ مُتيّمًا بِليلى، كما قد يفعل أيّ شاب في سنّ العشرين حين يقَع في الحبّ لأوّل مرّة. وهي، مِن جانبها، كانت مُعتادة على سَرب المُعجبين الذين كانوا يحومون حولها، ولا تُعطي وقتها إلا للذي يهتمّ بها الأكثر. كنتُ أصرفُ على ليلى كلّ ما أجنيه مِن عمَلي البسيط، طالما كنتُ أحظى منها بوعود بِقبلة أو حتى بسمة أو نظرة. كنتُ أعلَم أنّني لَم أكن الوحيد، لكنّني لَم أستسلِم بل قرّرتُ الفوز بقلبها ولاحقًا الزواج منها. يا للأحمق! فهكذا صبايا لا تكتفَينَ بما يُقدّمُه شاب مثلي، ومُعاشرتهنّ قد تكون في بعض الأحيان خطيرة، كما في حالتي.
فالحقيقة أنّ ليلى كانت تسخرُ منّي لا بل تحتقرُني، لأنّني لستُ ثريًّا ولأنّني تجرّأتُ على تصوّر نفسي معها، وقرّرَت أن تُلقّنَني درسًا قاسيًا بمساعدة شلّتها المؤلّفة مِن مُعجبيها وصديقاتها. وأنا، كالأعمى، وقعتُ في الفخّ. ولا أزال حتى اليوم، أي بعد عشرين سنة، أُعاني مِن تداعيات ما حصَلَ. كانت ليلى تنوي إقامة إحتفال ضخم بعيد ميلادها الثامِن عشر، مُعتبرةً أنّ هذا السنّ مهمّ جدًّا ويستحقّ العناء. ولا أدري كيف، لكنّها أقنعَت والدَيها بتركها تحتفل في بيتهم في القرية، بينما هم يبقون في مكان سكنهم في المدينة. تلقَّيتُ بفرَح دعوة مِن ليلى لحضور العيد، واعتقدتُ أنّني سأكون الضيف المُميّز لدَيها. رحتُ أشتري لها هديّة تليقُ بها، أيّ أنّني صرفتُ كامل راتبي دفعة واحدة، لكنّني لَم آبه لذلك، فحبيبتي تستحقّ الأفضل!
شرحَت لي ليلى أين يقَع البيت القرويّ ودوّنتُ على ورقة كلّ التعليمات، فالمكان كان بعيدًا للغاية والطريق الذي عليّ أن أسلكَه مُعقّدًا. وفي اليوم المذكور، إخترتُ لنفسي ملابس أنيقة وحملتُ هديّتي وباقة مِن الورود، وركبتُ سيّارتي الصغيرة وأنا أصفّر نغمًا فرِحًا. يا لَيتني لَم أُبارِح منزلي، لكن كيف لي أن أتصوّر ما كان ينتظرُني؟
كان الليل قد هبَطَ ، فكنّا في فصل الشتاء، وحين أخذتُ الطريق الداخليّة وجدتُ نفسي لوحدي أقودُ مسلكًا مُظلمًا وضيّقًا. خفَّفتُ مِن سرعتي طبعًا فلَم اكن شابًّا مُتهوّرًا. أدرتُ الراديو لأشعرَ بالرفقة، فلَم أكن مُطمئنًّا كثيرًا. ثمّ بدأ الطريق يتعرّج بشكل خطير، فركنتُ سيّارتي للحظة لأُلقي نظرة على الورقة حيث دونتُ التوجيهات: كان البيت لا يزال بعيدًا. تنهدّتُ وأكملتُ طريقي. خفتُ أن أصل مُتأخّرًا وأن تزعَل ليلى منّي، فأسرعتُ قليلاً لكن بتأنٍّ كامل. وفي اللحظة نفسها رأيتُ في المرآة أنوار سيّارة قادمة مِن خلفي، الأمر الذي أراحَ قلبي، فلَم أعُد وحيدًا في مكان مُخيف بالفعل. لكنّ السائق بدا لي مُستعجلاً لأنّه بدأ يُضيء ويُطفئ بأنواره لأفسحَ له الطريق، الأمر الذي كان مُستحيلاً لِضيق الدرب. وشعرتُ فجأة بصدمة في مؤخّرة سيّارتي، الأمر الذي حمَلني على الإنعكاف يمينًا أيّ إلى جهة المهوار. إستطعتُ تجليس إطاراتي والعودة إلى الطريق حيث أسنَدَ إليّ السائق ضربة ثانية كانت كافية لِقذفي في المهوار. تدحرَجَت سيّارتي نحو الوادي، ولولا حزام الأمان لكنتُ حتمًا قد طِرتُ مِن المركبة.
غبتُ عن الوعي لدقائق قصيرة، ووجدتُ نفسي وسط الشجر والظلام. لَم يتوقّف السائق لِنجدتي، وظلّ صمت مُخيف مِن حولي. إكتشفتُ مذعورًا أنّ رِجلي عالقة بين المقود والمِقعد، فحسبتُ أنّني سأبقى عالقًا حتى أنزفُ كل دمّي مِن الجرح المفتوح في فخذي. بكيتُ مِن كثرة يأسي وألَمي، إلى أن قرّرتُ أنّ عليّ مُحاولة إنتشال نفسي والبحث عن نجدة ما. لكن مَن سيُنقذني في مكان موحِش كهذا؟
دفعتُ بالمقود بكلّ قوّتي إلى حين تذكّرتُ أنّ هناك مقبضًا عليّ تحريكه... ونجحتُ بالمُحاولة بعد جهد كبير. خرجتُ زحفًا مِن السيّارة وأخذتُ أصعد التلّ للوصول إلى الطريق. يا لَيت الله يبعثُ لي سيّارة لحَملي إلى طبيب ما، فجرحي كان ينزفُ بقوّة!
وصلتُ إلى الطريق بعناء شديد، لكن أُغمِيَ عليّ بعد دقائق مِن شدّة تعَبي ومِن فقداني دمي.
إستفقتُ مُمدّدًا على طاولة سفرة بيت لا أعرفُه. ثمّ أقترَبَ منّي رجُل ضخم قال لي: "ظننتُكَ ميّتًا... لا تخَف، سيأتي ولَدي بسيّارته بعد دقائق لنوصلكَ إلى أقرب مشفى. لقد وضعتُ حزامًا حول فخذكَ لإيقاف النزيف. ما اسمكَ؟ هل لدَيكَ مَن بإمكاننا الإتّصال به؟". أعطَيتُ له التفاصيل اللازمة وغرقتُ في غَيبوبة.
إستطاعَ الرجل وإبنه إيصالي إلى مشفى على مسافة بعيدة عن مكاننا، ولن أشكرهما كفاية لإنقذهما حياتي.
تقارير الأطباء لَم تكن مُشجِّعة على الإطلاق إذ فكرّوا جدّيًّا بِبَتر رِجلي، إلا أنّ جرّاحًا أخصّائيًّا إستطاعَ ربط الأوعية والأعصاب ببعضها، لكنّه قال لي إنّني سأبقى أعرجُ مدى الحياة. شكرتُ ربّي أنّني لَم أخسَر حياتي ورِجلي في ذلك الحادث وقبِلتُ بالذي كُتِبَ لي.
أحاطَ بي الأهل والأصدقاء إلى حين خرجَتُ مِن المشفى وبدأتُ الجلسات الفيزيائيّة، لكنّني لَم أسمَع مِن ليلى مع أنّني أخبرتُها هاتفيًّا عمّا حصَلَ لي وكيف هي حالتي. هي تحجّجَت واعتذرَت عن غيابها عنّي ولَم تتنازَل ولو بزيارة لي، مع أنّ حادثتي وقعَت بسبب عيد ميلادها. أسفتُ لحبّي لها وندِمتُ على التضحيات التي قمتُ بها مِن أجلها وقرّرتُ نسيانها.
أعضاء شلّتها أيضًا تخلّوا عنّي بلحظة، ما عدا صبيّة طيّبة وخلوقة إسمها غادة التي ما انفكَّت تسألَ عن أحوالي بإنتظام.
لَم أستطِع نسيان ليلى بالرغم مِن قراري، فبعثتُ لها رسالة أسألُها فيها لماذا هي لَم تزُرني للإطمئنان عليّ، وهي أجابَت برسالة ناشفة تشبَه قلبها: "لأنّني، وبكلّ بساطة، لا أحبّ العرجان". يا إلهي! لقد أٌصِبتُ بعاهة دائمة بسبب دعوتها لي لحضور حفلها وهذا كان جوابها؟!؟ بكيتُ لوحدي على ما آلَت إليه حياتي ومِن أجل مَن؟ مِن أجل إنسانة أنانيّة ومُتشاوِفة؟
إلتجأتُ إلى غادة وأخبرتُها عن خذلاني في ما يخصّ صديقتها، وهي قالَت لي:
ـ ليلى ليست صديقتي.
ـ لكنّكِ في شلّتها.
ـ أجل، وإن يكن؟ لستُ مثلها. أنا فقط أستمتعُ بوقتي مع أناس فرحين ومرحين. لا تُشبّهني بهم، أرجوكَ.
ـ حسنًا، لا تزعلي.
ـ قُل لي... هل وجدَت الشرطة السيّارة التي دفعَتكَ إلى المهوار؟
ـ للأسف لا... فلَم أستطِع إعطاء تفاصيل كافية للمُحقّق الذي زارَني في المشفى لأخذ إفادتي. أظنُّ أنّنا لن نعرف شيئًا عن مُلابسات الحادث. لا بّد أنّ ذلك السائق كان في عجلة مِن أمره أو غاضبًا للغاية، لِصدمي هكذا مِن دون أن يُفكّر بعواقب فعلته.
ـ أو أنّه صدمَكَ عن قصد.
ـ لا، لا أظنّ ذلك... ولماذا يفعل؟ فأنا لا أعرفُه.
ـ قد يعرفُكَ هو.
ـ حتى لو كان ذلك صحيحًا، ما أدراه بمكان تواجدي؟ فالموقَع مهجور وبالكاد يسلكُه أحد.
ـ ماذا لو أعطاه أحدٌ مكانكَ بالتحديد؟
ـ لم يكن أحد يعرفُ أنّني سأسلكُ هذا الطريق سوى...
ـ تمامًا!
ـ ماذا تقصدين؟!؟ تكلّمي!
ـ الإحتفال بعيد ليلى لَم يكن في ذلك البيت بل في بيتها في المدينة. ولقد أمضَينا وقتًا مُمتعًا هناك.
ـ أنا لا أُصدّقُكِ! لماذا تُعطيني ليلى عنوانًا خاطئًا عن قصد؟!؟ مهلاً... هل هي نصبَت لي فخًّا وأرادَت قتلي؟!؟
ـ ليس قتلكَ، بل إبعادكَ عنها لأنّها تمقتكَ. أنتَ لستَ مثلها ولطالما خجِلَت مَن تواجدكَ معها.
ـ مَن قادَ السيّارة التي صدَمتني؟
ـ حبيبها الجديد، أعني الرسميّ، فهناك العديد كما تعلَم، وهو لَم يتردّد في تنفيذ المُهّمة بل رقَصَ فرحًا.
ـ هو كادَ أن يقتلَني! ما هذا الإجرام! سأُبلّغُ الشرطة عنه!
ـ إفعَل، لكن لا تقُل إنّني مَن أعطَتكَ هذه المعلومات. إن فعلتَ، فسأنكرُ كلّ شيء. هؤلاء الناس خطرون.
أطلعتُ التحرّي على "شكوكي" وهو فعَلَ الباقي. لَم يكن مِن الصعب حمَل أفراد الشلّة على التكلّم، فهم كانوا قد استنكروا لدى ليلى وحبيبها مدى عنف الحادث وتداعياته. أُلقيَ القبض على ليلى وعلى ذلك الوحش، وشهدَ ضدّهما عدد لا بأس به مِن الشبّان والصبايا خوفًا مِن أن يلقوا مصيرهما، أيّ السجن. حظِيَت ليلى بأسباب تخفيفيّة بعد أن أقنعَ مُحاميها القاضي بأنّها كانت تمزحُ حين قالَت لحبيبها إنّ عليه تلقيني درسًا على الطريق الوهميّ لعيدها. أمّا الحبيب، فأُلقيَ في الحبس لسنوات ودفَعَ لي كامل تكاليف علاجي. لكن ما نفع المال حين صرتُ معوّقًا مدى الحياة؟ مَن سيُحبُّني وأنا في حالتي؟
غادة هي التي أحبَّتني. فاتّضحَ أنّها صبيّة عاقلة عاشرَت الشلّة للإبتعاد عن المشاكل التي تدورُ يوميًّا بين أبوَيها. أحبَبتُها لحسن مُعاملتها لي، فهي أعطَتني مِن جديد الثقة بنفسي والرغبة بمُتابعة حياتي واجتياز إعاقتي. وإنتهى بنا المطاف مُتزوّجَين، وأعترفُ أنّني زوج وأب سعيد للغاية.
سافرَت ليلى فور إنتهاء المُحاكمة، وعاشَت في الولايات المُتحّدة حيث غاصَت في عالم المُخدّرات والرذيلة. وفقَدَ أهلها أثرها ولا أحد يعرفُ حتى اليوم أين هي.
حاورته بولا جهشان