ترَكَ لي زوجي قَبل مماته ما يكفي لأعيشَ بكرامة حتّى آخِر أيّامي ولا أضطرّ لِمَدّ يَدي لأولادي. فهو أدرَكَ أنّ أيّامه معدودة بعد أن تفشّى المرَض في جسمه، وعُدنا إلى البيت ليموتَ على سريره وبين أحبّائه. ولن أشكره كفاية على ما فعلَه مِن أجلي بعد أن قضَينا ثلاثين سنة سويًّا في زواج هادئ وجميل. لكنّني لَم أكن، للأسف، على قدر تلك الهديّة الجميلة، إذ أنّني بدَّدتُ مُعظم المال باسم الحبّ. وإليكم قصّتي:
إمتلكَ الحزن قلبي لدى خسارتي شريك حياتي، ولبستُ الأسوَد طيلة سنتَين بكيتُ خلالها كلّ دموعي. فرحتي الوحيدة كانت هي تزويج آخِر إبنة لدَيّ وتمنَّيتُ لو أنّ أباها حضرَ زفافها. بعد ذلك، شعرتُ بفراغ تام، إذ بتُّ لوحدي في بيت شبيه ببيت الأشباح. صحيح أنّ بناتي كنّ تزُرنني باستمرار، لكنّ الليالي كانت طويلة للغاية بالنسبة لي. عرضَت إحداهنّ عليّ العَيش معها إلا أنّني رفضتُ، فالبيت الزوجيّ له قدسيّته وأسراره ولا مكان لي فيه.
بعد فترة، وجدتُ تسلية جديدة وهي الانترنت، إذ بدأتُ ألعَب فيه ألعاب الورق المُثيرة التي تتضمَّن تحدّيات مع باقي اللاعبين. وهكذا تعرّفتُ إلى جمال الذي كان دائمًا، ومِن وراء شاشته، يتحدّاني ويغلبُني في مُعظم الأحيان. وفي إحدى المرّات، بعَثَ لي رسالة على الخاص يعتذرُ منّي على ربحه المتواصل، لكنّني لَم أكن غاضبة على الاطلاق بل أعي أنّها مُجرّد لعبة. تبادلنا بعض الأسطر وحسب، لكنّني تفاجأتُ بجمال يُحدّثُني بعد يومَين ليسأل عنّي وكلّ يوم، بعد أن أخبرتُه أنّني أرملة ووحيدة. هو الآخَر كان أرملاً ووحيدًا، فكان لدَينا الكثير مِن الأمور المُشتركة. وسرعان ما صارَ ذلك الرجُل سلوَتي ورفيقي. فلقد تعلّقتُ به لكثرة إهتمامه، فكان الأمر وكأنّني كنتُ شغله الشاغل الوحيد، إذ كنّا نقضي ساعات طويلة عبر الهاتف نهارًا وليلاً. بقيَ أن نلتقي لنتأكّد تمامًا مِن حبّنا للآخَر فأعطاني جمال موعدًا في أحَد المقاهي. وطوال كلّ تلك المدّة، أيّ منذ تعرّفي به، لَم أقُل لأحَد شيئًا على الاطلاق، ربّما لأنّني خجلتُ بأن تكون لي حياة عاطفيّة بعد موت زوجي.
تبيّنَ أنّ جمال، خلافًا لصوَره على الانترنِت، كان أصغَر مِمّا يبدو، أيّ أصغَر منّي سنًّا. للحقيقة لَم أسأله عن سنّه أثناء تبادلنا الأحاديث الهاتفيّة لأنّني استنتجتُ أنّه في مثل عمري. أزعجَني الموضوع قليلاً لكنّني نسيتُه بسرعة لكثرة جاذبيّة ذلك الرجُل الوسيم. جلستُنا دامَت ساعتَين على الأقلّ وحين افترقنا كنتُ واقعة تمامًا في حبّه. تمنَّيتُ أن يتّصلَ بي في المساء لأفهَم إن كان هو لا يزالُ يُريدُني كما قَبل المُقابلة. وكَم كنتُ سعيدة عندما قرأتُ هذه الكلمات: "أُريدُكِ أكثر مِن قَبل يا حبيبتي، ولن أستطيع تصوّر حياتي مِن دونكِ بعد الآن". نمتُ سعيدة في تلك الليلة وحلِمتُ بفارسي الوسيم وبليلة زفافنا المُرتقَب.
إلا أنّ مشروع زواجنا كان لا يزال بعيد الأمّد، فكان جمال قد استقبَلَ في داره شقيقته الصُغرى المُصابة بإعاقة جسديّة وعقليّة، بعدما قرّرَت أخته الكُبرى التوقّف عن الاهتمام بها لكثرة تعبها، بعد سنوات طويلة مِن حَملها وإعطائها الحمّام وتحضير الأكل الخاص لها، وتأثّر حياتها الزوجيّة والعائليّة بهذا النمط مِن الحياة. واحتارَ حبيبي بأمره، فكيف له أن يأتي بعروسه إلى بيته والمسكينة أخته تعيشُ معه؟ أعربتُ له عن إستعدادي بالاهتمام بها، إلا أنّه قرَّرَ أنّ الحلّ الأنسَب هو إرسال أخته إلى مؤسّسة خاصّة تُعنى بالحالات المُماثِلة. لكن مِن أين سيأتي بالمال لذلك في حين هو يعيشُ مِن راتبه كموظّف عاديّ؟ فتلك الأماكن، إن كانت جيّدة ومُتخصّصِة، تطلبُ مبالغًا كبيرة شهريًّا فلدَيها أطبّاء وأخصّائيّين وطاقم مُحترِف. لمَستُ الحيرة في صوته حين كنّا نتكلّم عبر الهاتف وأظنّه أنّه بكى عندما قال لي:
ـ ربّما ليس مكتوبًا لي أن أذوقَ طعم السعادة... فزوجتي توفَّت وها أنا على وشك أن أخسرَكِ.
ـ لن تخسرَني يا حبيبي.
ـ بلى... هيّا، إذهبي للبحث عن آخَر، فالذنب ليس ذنبكِ... مِن الأفضل أن أترككِ وشأنكِ. أتمنّى لكِ السعادة.
ـ ما هذا الكلام؟!؟ لن أذهب إلى أيّ مكان! لدَيّ المال مِن أجل أختكَ، فلا تُفكِّر بشيء بعد الآن. سأهتمّ بالأمر.
ـ تدفعين لأختي؟!؟ وهل انا رجُل ناقص؟!؟
ـ ربّما تُفضِّلُ أن نفترِق؟
ـ بالطبع لا. لكن على شرط: أن أُعيدُ لكِ مالكِ... فهناكَ قطعة أرض كبيرة ورثتُها وأخواتَيّ مِن أهلنا. سنبيعُها ويتغيّر كلّ شيء.
أدخَلَ جمال اخته المؤسّسة وبدأ يبعثُ لي صوَرًا لها هناك، وأنا مِن جهتي دفعتُ الأقساط الشهريّة وكنتُ فخورة بنفسي لأنّ حبيبي أدركَ أنّه سيتزوّج مِن امرأة عظيمة. أسرَعَ جمال بالتفتيش عن شارٍ لقطعة الأرض لكنّ سحَر، اخته الكبرة، وقفَت في وجهه رافضة البيع بعد أن تشاورَت مع زوجها حول الموضوع. لَم يؤثِّر ذلك على علاقتنا ونيّتي بالمُساعدة، فكنتُ واثقة مِن أنّ يومًا سيأتي واستعيدُ مالي.
إلا أنّ حبيبي خَسِرَ وظيفته فجأة بعد أن اضطرَّت الشركة إلى التخفيف مِن مُستخدميها، وصِرتُ أصرفُ عليه أيضًا شهريًّا. لكنّه لَم يعُد يأتي على ذكر زواجنا وعندما سألتُه عن الأمر، قال:
ـ وكيف تُريديني أن أتزوّجكِ فيما تصرفين عليّ وعلى أختي؟ كرامتي لا تسمحَ لي بأن أُسمّى زوجًا. سنؤجّلُ الأمر إلى حين أجدُ عمَلاً جيّدًا وأستطيع الاعتناء بكِ يا ملكتي.
ـ لدَيّ المال الكافي لكلَينا أو بالأحرى لثلاثتنا ولن أدَع شيئًا يقِفُ بيننا.
إلا أنّ جمال أصرَّ على أن نصبُر، فرضَختُ للأمر الواقِع.
لَم أكن قد رأيتُ أيًّا مِن اختَيه وعلِمتُ السبب: فهو كان يخجَل مِن اخته المعوّقة ويخافُ مِن أخته الكبرى لأنّها غير لطيفة أو لائقة وقد تقولُ لي ما يُزعِلُني، لكنّني أرَدتُ أن أتعرَّف على سحَر. قبِلَ جمال لكنّه طلَبَ منّي ألا أُثيرُ أمامها موضوع اخته المسكينة على الاطلاق.
إلتقَينا بالتي تُدعى سحَر وجلستُ مع حبيبي قبالتها. هي لَم تكن ممنونة أبدًا بذلك اللقاء وكان الأمر واضحًا مِن ملامحها المُتشنّجة ونظراتها المُستاءة لي ولأخيها. للحقيقة هي لَم تقُل الكثير فاضطرِرتُ للتحدّث مُعظم الوقت عن علاقتي بجمال ونيّتنا في الزواج ونيّتي أنا في خلق مناخ جيّد بيني وبينها لأنّها ستُصبح نسيبتي. ثمّ هي قالَت لي باشمئزاز:
ـ أنتِ أكبَر منه سنًّا، أليس كذلك، ولدَيكِ حتمًا بعض المال؟ هكذا يُحبّ حمال نساءه. أجل، فأنتِ لستِ أوّل سيّدة يُلقي شباكه عليها. لا تتزوّجيه يا عزيزتي، فلن تحصل لكِ سوى المتاعِب، صدّقيني، فهو أخي الصغير وأعرفُه جيّدًا. وإن لَم تأخذي بنصيحتي، فاللوم سيقَع عليكِ. وداعًا.
رحلَت سحَر قبَل أن يتسنّى لجمال او لي الردّ لكنّني نظرتُ إلى حبيبي سائلة عمّا تحدّثَت أخته، وهو أجابَني:
ـ إسمعي... سحَر أختي وأحبّها لكنّها ليست مُتّزِنة نفسيًّا. لطالما هي حاربَتني لأنّني حظيتُ بالدلَع كلّه بعد ولادتي خاصّة أنّني ولَد. ومنذ ذلك الوقت وهي تُحاول تصغيري أمام الناس بما فيهم والدَيّ رحمهما الله. يمكنُكِ معرفة مدى قلّة شفقتها مِن تخلّيها عن اختنا الصغيرة. على كلّ الأحوال، أنا لَم أطلُب منكِ دفع أقساط المؤسّسة الخاصّة أو الصرف عليّ بل أنتِ قدّمتِ ذلك بنفسكِ.
ـ هذا صحيح.
ـ ولأُثبِت لكِ أنّني لا أسعى وراء مالكِ، فسأفسخُ علاقتنا على الفور.
ـ لا! لا تفعَل! أرجوكَ!
ـ بلى، فأنتِ بأفضَل حال مِن دوني. إذهبي وجِدي لنفسكِ رجُلاً مُقتدِرًا بإمكانه الاعتناء بكِ.
ـ أحبُّكَ ولا أُريدُ سواك! لن أصدِّقَ أختكَ بل سأصدّقُكَ أنتَ، فأنتَ مَن يُعطيني السعادة ويحملُني على النظَر إلى الحياة بتفاؤل.
ـ هل أنتِ مُتأكّدة مِن خياركِ؟
ـ أجل.
ـ إذًا لن أقبَل منكِ أيّ شَكّ ومُساءلة.
ـ أعِدُكَ بذلك.
عدتُ إلى البيت وقلبي فرِحٌ لأنّني تأكّدتُ مِن حبّ جمال لي. فلتذهَب سحَر إلى الجحيم وتأخُذ معها كرهها وبُغضها لأخيها ولي وللعالَم بأسره!
وفي تلك الفترة، كانت ابنتي الصغرى قد بدأَت تُلاحظُ عليّ غياباتي عن البيت وخاصّة في المساء وطباعي الفرِحة، ولَم تقتنِع بالحجج العديدة التي قدّمتُها لها. لِذا سألَتني يومًا إن كان هناك أحدٌ في حياتي وقرّرتُ أخيرًا أن أُشاركها فرحَتي. لكنّ الأمر لَم يُعجِبها كثيرًا فقالَت أمورًا مُجرِّحة أودَت إلى شجار بيننا. وقلتُ لها قبل أن نُنهي حديثنا: "هذه حياتي وأنا سيّدة مصيري ولا دخلَ لكِ فيها. إن لَن يُعجبكِ الأمر، فلا تتّصلي بي بعد الآن". كنتُ بذلك قد عزَلتُ نفسي عن ذويّ وفقدتُ الدعم الأخير الذي أملكُه. بقيتُ وحيدة أمام ما كان يُحاكُ لي.