حاوَلَ أبي الانتحار

عندما وجَدتُ أبي فاقد الوعي على أرض الحمّام، لم أتخيّل للحظة واحدة أنّه حاول قتل نفسه، بل ظنَنتُ أنّه تعرَّضَ لنوبة ما أو لدوار أفقدَه توازنه. وحين أخبرَني طبيب المشفى أنّ والدي شرِبَ سائلاً للتبيض، لم أصدّق أذنَيَّ! لماذا يفعل شيئًا كهذا فهو لم يكن يائسًا مِن الحياة... على الأقل حسب معرفتي.

دخَلتُ غرفته في المشفى ووجَدتُ أمّي بالقرب منه تبكي بصمت. سألتُها بصوت خافت:

 

ـ كيف هو الآن؟

 

ـ لقد احترَقَت معدته وأوتاره الصوتيّة ولكنّهم أنقذوا حياته.

 

ـ أمّي... لماذا حاوَلَ أبي قتل نفسه؟ ممّا كان يشكو؟ هل كان منهارًا أو تعبًا أو حزينًا؟

 

ـ أبدًا حبيبتي... لَم ألاحظ شيئًا ولا أفهم لماذا أقدم على عمل كهذا!

 

عندها استفاقَ والدي، نظَرَ إلينا بحزن وانهالَت الدموع على وجهه. ركضتُ أقبّله وأطَمئنُه بأنّنا بالقرب منه وأنّه سيكون بخير. هزّ برأسه وكأنّه لا يُريد أن يكون بخير ورأيتُ استياءَه لأنّه فشلَ بالانتحار.

دخلَت الممرّضة وطلَبَت منّا الخروج.

بقينا في المشفى ساعات طويلة ندخل الغرفة تارة ونخرج منها تارة أخرى، ولكنّني لم أتبادل مع والدتي أكثر مِن بضع كلمات ضروريّة فكلتانا كنّا بعد تحت وطأة الصدمة.

وصَلَ أخي أخيرًا وانضمّ إلينا قائلاً:

 

ـ أريد أن أعلم مَن منكما دفَعَه إلى القيام بالانتحار!

 

لم أتحمّل هذا الاتّهام المباشَر فصرَختُ به:

 

ـ ما بكَ تأتي متّهمًا؟ ومَن قال لكَ إنّ لنا أيّ دخل بالذي جرى؟ أو لأنّكَ بعيد عنّا تظنّ أنّ لكَ حقّاً باعطاء المواعظ؟ أصمت! ألا ترى بأيّة حالة نحن؟

 

سَكَتَ أخي وجلَسنا نحن الثلاثة بصمت رهيب.

أرادَت أمّي أن تنام في المشفى، ولكنّ الطبيب منعَها مِن ذلك، وطلَبَ منّا أخذها إلى البيت والبقاء معها... وعادَ أخي إلى عائلته.

وبعد أن نامَت والدتي أخيرًا، بدأتُ أفكّر بالاحتمالات الممكنة لتفسير الذي قام به أبي ولم تكن أيٌّ منها مقنعاً. غصتُ في نوم عميق لم أستفق منه إلا عند الصباح.

 

كنتُ أودّ لو أنّ أخي بقيَ معنا، ولكنّه كان يعير أهميّة أكبر لزوجته وأولاده. لم يكن هكذا قبل الزواج، بل كان محبًّا ويُشاطرنا كلّ شيء، ولو كانت زوجته تقدّر شوقنا إليه وحاجتنا إلى وجوده مِن وقت لآخر، لحمَلَته على زيارتنا حتى لو لم يكن يُريد ذلك، فمِن المعلوم أنّ للمرأة تأثيراً كبيراً على زوجها في ما يخصّ أهله. أخَذتُ أمّي إلى المشفى وقصَدتُ عملي لبضع ساعات، ومِن ثمّ مرَرتُ إلى البيت لجلب بعض الحاجيّات لوالدتي التي كانت ستبقى حتى المساء إلى جانب أبي.

 

وخَطَرَ ببالي أن أبحث في أغراض والدي لعلّي أجد ما يُفسّر ما فعلَه بنفسه. فتَحتُ الخزانات والأدراج، وراجعتُ أوراقه كلّها مِن دون نتيجة، فقد كان أبي كأيّ رجل آخر.

 


وقبل أن أخرج مِن المنزل، تذكَّرتُ أنّني لم أتفحّص هاتفه، الأمر الذي كان يجدر بي عمله أوّلاً... وفوجئتُ بمحتواه. كان والدي يتصل بشخص اسمه فريد بشكل منتظم، وعندما بحَثتُ عن رسائل لم أجد شيئًا فاستنتجتُ أنّه حَذَفَها. مَن كان ذلك الرجل الذي كان يتكلّم مع أبي يوميًّا مرّات عدّة ؟ ولمعرفة الجواب، نقَرتُ على الرقم المذكور وإذ بامرأة تجيب وتقول مِن دون مقدّمة:

 

ـ أين أنتَ يا سمير؟!؟ إنشغَلَ بالي عليكَ! هل أنتَ بخير؟

 

ـ أنا ابنته.

 

سكَتت المرأة وخفتُ أن تقفل الخط فتابعتُ:

 

ـ إنّه في المشفى... حاوَلَ الانتحار.

 

ـ يا إلهي! وكيف هي حاله الآن؟!؟ بأيّ مشفى هو؟

 

ـ لن أقول لكِ قبل أن أعرف مَن أنتِ.

 

ـ أنا... زميلة له في العمل.

 

ـ ما اسمكِ؟

 

ـ فريدة... إسمي فريدة. قولي لي كيف هو؟

 

ـ لقد شرِبَ مبيّداً منزليّاً وأُصيبَت حنجرته ومعدته بأذى كبير.

 

ـ ولكنّه لا يزال حيًّا وهذا ما يهمّ.

 

ـ إسمعي يا فريدة... لا أصدّق للحظة أنّكِ مجرّد زميلة لأبي وإلا لما سجَّلكِ على هاتفه تحت اسم" فريد"... هذا يعني أنّه أراد اخفاء وجودكِ عنّا وبالأخصّ عن أمّي... أظنّ أنّكِ مدينة لنا بتفسير... هل حاوَلَ أبي قتل نفسه بسببكِ؟

 

ـ أنتِ مخطئة... علاقتي بسمير علاقة زمالة وحسب و...

 

ـ كفى! لستُ غبيّة! أريد أن أعلم ما حصل، والآن!

 

ـ حسنًا... أنا زوجة أبيكِ.

 

ـ ماذا؟!؟ أبي تزوَّجَ على أمّي؟ متى حصَلَ ذلك؟!؟ هل سئمَ مِن أمّي واختاركِ لصباكِ كما يفعل الكثير مِن الرجال؟ يا لجنسهم الفاسق!

 

ـ لا! لستُ شابة بل مِن سنّ والدتكِ ولدَيَّ ابن بسنّكِ.

 

ـ لا أفهم!... ما الذي دفَعَه إلى الزواج منكِ إذًا؟

 

ـ في مرحلة معيّنة مِن حياته كان يكنّ لي عاطفة خاصة.

 

ـ أنتِ كاذبة! أبي يُحبّ أمّي!

 

ـ هذا صحيح... وسأقول لكِ ما حصَل... وأظنّ أنّ ما قام به والدكِ سببه فؤاد ابني الذي سَئمَ مِن بقائه في الخفاء وأرادَ أن يعلم العالم كلّه بوجوده بدءًا بكم...

 

ـ لديّ أخ؟!؟

 

ـ أجل... دعيني أروي لكِ قصّتي مع سمير... تعرَّفتُ إليه خلال مؤتمر أقامَته الشركة الأم في الخارج، فأنا أعمل في أحد الفروع، وأنت لم تكوني قد وّلدتِ بعد، أي عندما كان أخوكِ في الثالثة مِن عمره... إنجذَبتُ لوالدكِ على الفور، ولكنّه لم يُعِرني الأهميّة التي توقَّعتُها، إلا أنّني بقيتُ مصرّة عليه حتى وقَعَ بين ذراعيَّ، وكم ندِمتُ على ما فعلتُه. إتفقنا أن ننسى ما حدَث، خاصّة أنّ سمير كان يحبّ أمّكِ كثيرًا وكرَهَ نفسه على خيانتها. عُدنا إلى البلد، وقطَعنا كل اتصال بيننا إلى أن اكتشَفتُ أنّني حامل. عندها أخبرتُ والدكِ بالأمر وفَعَلَ ما على كلّ رجل شريف فعله: تزوّجني واعترَفَ بالولد.

 


ـ رجل شريف! دعيني أضحك!

 

ـ لا! لا تسيئي الظنّ بوالدكِ، فهو كان فعلاً يُحبّ زوجته فوق كلّ شيء لهذا شارطَني ألا أنتظر منه شيئًا سوى أن يهتمّ ماديًّا بي وبابني. في البدء زارَني والدكِ بضع مرّات في البيت، ليرى الناس أنّني فعلاً متزوّجة، ومِن ثمّ قلتُ للجميع إنّ زوجي مات بحادث سيّارة في الخارج. لم أحاول يومًا إبعاده عنكم، بل تابَعتُ حياتي بعيدة عنه إلى حين بدأ ابني فؤاد بطَرح الأسئلة وبكثرة. كان يُريد أن أخبره عن أبيه وأريه صورًا، ونجَحتُ بإسكاته بقصّة أو اثنتَين. ولكن، مع الوقت، لم تعد تفسيراتي تقنعه، فهو ذكيّ جدًّا... كأبيه. وما لم أتوقّعه أبدًا هو أن يُقرّر فؤاد أن يبحث بواسطة الانترنت عن الذي انجبَه وأمات نفسه بغرض معرفته أكثر، فوجد رجلاً يحمل الاسم نفسه ويُشبهه كثيرًا ويعمل في الشركة التي أعمل فيها، ولكن ذلك الرجل كان حيًّا يُرزَق وله عائلة.

وبدأ إبني يُصرّ عليّ لاخباره الحقيقة إلى أن اعترَفتُ له بكلّ شيء. لم أكن قادرة على اخفاء الواقع، لأنّه هدَّدَني بأن يقصد أبيكِ ويسأله شخصيًّا.

إتصَلتُ بسمير لأطلعُه على ماحَدَث لأنّ فؤاد كان ينوي مواجهته، وبدأنا نتواصل بانتظام لايجاد الحل.

وذات يوم قال لي أبوكِ إنّ فؤاد اتصَلَ به بعدما عثر على رقمه في هاتفي، وطلَبَ منه أن يُخبركم بوجوده بعدما قضى حياته في الظل.

 

ـ وخافَ أبي مِن الذي سيحصل إن ظَهَر ابنه... خصوصاً لأنّه لم يكن مستعدًّا لمواجهة أمّي أو حتى أنا وأخي... الآن فهمتُ...

 

ـ عاشَ أبوكِ في الخوف أكثر مِن خمسة وعشرين عاماً... صدّقيني يا صغيرتي عندما أقول لكِ إنّه يُحبّكم كثيرًا... كانت تلك هفوة وليس أكثر، وأنا متأكّدة مِن أنّه بقيَ وفيًّا لوالدتكِ طوال ذلك الوقت.

 

ـ أريد أن أتعرّفَ إلى فؤاد.

 

ـ لا أظنّ أنّ ذلك ما أرادَه أبوكِ... ألم ترَي ما فعلَه بنفسه؟ ماذا لو علِمَت أمّكِ بالأمر؟

 

ـ لن يعرف أحد بشيء... أريد أن أتعرّف إلى أخي، فبذلك أعطيه نوعًا مِن الشرعيّة.

 

ذهَبتُ مهمومة إلى المشفى، ومكَثتُ إلى جانب أبي وأمّي قبل أن أذهب إلى موعدي مع فؤاد. كان قلبي يدقّ بسرعة فائقة لأنّني خفتُ مِن ردّة فعله. فبالنسبة إليه كنتُ أنا التي حظيَت بحنان الأب ووجوده بينما عاش هو كذبة كبيرة طوال حياته.

عندما رأيتُ أخي صُعِقتُ بشبهه بأبي، فقد كان الأمر وكأنّني أقف أمام صورة مصغّرة عن الذي أنجبَني. سادَ سكوت طويل ومِن ثمّ ركَضَ فؤاد إليّ وضمَّني إلى صدره بقوّة. إمتلأت عَينايَ بالدموع لأنّني شعَرتُ بحنان قويّ لم أجده عند أخي الأكبر. مسَحنا دموعنا وجلَسنا نتكلّم عن أنفسنا. سألَني فؤاد عن أبينا: كيف هي طباعه، ما هي هواياته وكيف أمضَيتُ طفولتي معه. مرَّ الوقت بسرعة وعندما افترَقنا علِمتُ أنّني وجدتُ أخًا حقًّا.

عادَ أبي مِن المشفى إلى البيت أخيرًا، ولكنّ آثار محاولة الانتحار أثّرَت على صحّته كثيرًا فلم يعد قادرًا على الكلام أو الأكل كما في السّابق. وفي أحد الأيّام قلتُ له:

 

ـ أبي... لقد تعرَّفتُ إلى ابنكَ فؤاد.

 

فتَحَ عينَيه وهزّ برأسه فطمأنتُه:

 

ـ لا تخَف... لن تعرف أمّي شيئًا... ولا حتى أخي... سرّكَ محفوظ عندي... إعلم أنّني مازلتُ أحبّكَ وأحترمكَ كالسّابق، وأنّ وجود فؤاد بحياتي أعطاها جمالاً وحنانًا... لم يكن يجدر بكَ الإقدام على قتل نفسكَ يا بابا... كلنّا نقترف الأخطاء، ومهما كان ثمنها ثقيلاً فالحياة أثمَن مِن أن نهدرها... أريد منكَ أن تتعافى وأن تستعيد مرحكَ فهذا كلّ ما يهمنّي.

 

مضى على تلك الحادثة أكثر مِن خمسة سنوات ولم ينقطع التواصل بيني وبين فؤاد، فنحن نتلاقى على الأقل مرّتَين في الأسبوع لأنّني بوجوده أشعر بأنّني مع نصفيَ الآخر. غريبة هي الدنيا... أخي غير الشقيق الذي لم أكن أعلم بوجوده، يكنّ لي حبًّا واهتمامًا أكبر مِن الذي هو مِن أبي وأمّي وترَعرَعتُ معه.

أمّي لا تزال لا تعرف شيئًا، وذلك بفضل سكوت فريدة وابنها اللذَين أصبحا جزءاً لا يتجزّأ مِن حياتي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button