ولدتُ وسط عائلة متواضعة ولم أعرف يوماً الراحة الماديّة. لم يكن لدينا سيّارة أو حتى غسّالة كهربائيّة وأذكرُ أنّني ومنذ سنّ مبكر، كنتُ أغسل ثيابي بنفسي وأحياناً ثياب أخواتي. ألعابنا وهدينا كانت جميعها مستعملة، تصل إلينا عبر الجيران بعد أن تكون قد إستُهلِكت من قِبَل أولادهم. أبي كان يعمل في شركة مفروشات، يحمّل الأثاث على ظهره وأمّي كانت تنظّف شقق في الحيّ.
أظنّ أن مصيري كان سيشبه مصير والدتي لولا إصراري الدفين على الخروج من حالتي البائسة. فأنا لم أتقبّل يوماً وضعنا ووعدتُ نفسي أن أحصل على أفضل ما تقدّمه الحياة. وعمِلتُ على تحقيق حلمي عبر إيجاد طريقة سريعة لِفصل نفسي عن باقي القطيع، لذا تركتُ المنزل وأنا في السادسة عشر من عمري للعيش عند أقرباء كانت حالتهم أفضل بعض الشيء. بكَت والدتي عند ذهابي، أمّا أنا فلم أنظر حتى إليها وهي تودّعني على الباب. وفور وصولي طلبتُ منهم أن يجدوا لي عملاً لأجني المال وأشتري لنفسي ما أريده. وهكذا إنتقلتُ إلى منزل أناس أثرياء لأهتمّ بأولادهم وحصلتُ على لقب مربيّة. وحين قبضتُ أوّل راتب لي، ركضتُ إلى محل أحذية وإبتعتُ أجمل حذاء لديه ووضعته قرب سريري أنظر إليه قبل النوم وحين أفتح عيوني في الصباح. كان هذا إنتصاري الأول على الحياة.
عملتُ بإجتهاد ولم أهمل يوماً واجباتي، ليس حبّاً بالأولاد أو بأرباب العمل، بل لكيّ أحافظ على مورد رزقي الجديد. وبعد خمس سنين على هذا النحو، رحلَت تلك العائلة إلى خارج البلاد بعد أن أوصَت بي إلى عائلة ثانية. وهكذا إنتقلتُ إلى وظيفتي الجديدة دون أن أُجبَر على البحث عن عمل مرّة أخرى. ولكن في تلك المرحلة، كنتُ قد أصبحتُ أشعر بالكره تجاه أولئك الأثرياء الذين يملكون الكثير ولا يعطون سوى القليل وراتبي لم يعد يكفيني. ما أردته هو العيش مثلهم وليس فقط عندهم.
فعندما دخلتُ المنزل الجديد ووجدتُ رجلاً أرملاً وولدَيه قررتُ فِعل ما بوسعي لأصبح سيّدة البيت، خاصة بعدما شعرتُ بوحدة توفيق وحيرته بما يخصّ ولدَيه. فهو لم يكن معتاداً على الإعتناء بهما، لأنّ المرحومة زوجته كانت تهتمّ بكل شيء بينما يذهب هو إلى شركته الضخمة في الصباح لِيعود في آخر الليل. وحين وصلتُ عنده رأى فيّ منقذته وأصبحتُ المسؤولة عن سير البيت أقرّر وأنفّذ كما أرتأي دون أن يحاسبني أحد. أمّا الولدان فكانا مطيعيَن وهادئيَن ولم يشكّلا مشكلة لي. وبما أنّني أردتُ الخروج من حالتي كمربيّة، كان عليّ إغراء الأب وحمله على الزواج منّي، فأصبحتُ أهتمّ بمظهري وبحركاتي التي أردتُها مغرية. عملتُ أيضاً على تحضير الأطباق التي يحبّها توفيق والدخول أكثر بحياته الخاصة لأثبّت وجودي وأجعله يقع في حبّي. ولكنّه بقيَ يتعامل معي كموظّفة، الأمر الذي أثار غضبي وحيرتي، فكنتُ جميلة وشابّة وألف رجل يتمنّاني. وبَعد فترة من التجارب والمحاولات إكتشفتُ أخيراً سبب مقاومة توفيق لي. ففي ذات ليلة عادَ إلى البيت ومعه إمرأة وعندما فتحتُ لهما الباب كادَ أن يُغمى عليّ من شدّة الغضب أوشكتُ على غلق الباب بوجههما. ولكنني تمالكتُ أعصابي ورسمتُ بسمة على وجهي. جلسا في الصالون وكان من الواضح أنّهما حميمان وأنّهما مغرمان ببعضهما. ثمّ ناداني توفيق وقال لي:
- أقدّم لكِ هناء... خطيبتي... أخبرتُها كثيراً عنكِ وعن تفانيكِ للأولاد... وأريد أن تتعاملي معها وكأنّها صاحبة البيت.
عند سماع هذا شعرتُ بالإهانة. كيف يجرؤ هذا الحقير على جلب بإمرأة وتقديمها لي كخطيبته والطلَب منّي أن أطيعها؟ ومرّة أخرى إبتسمتُ رغم كل شيء قبل أن أذهب إلى غرفتي لأبكي. ولكنّ دموعي لم تدم طويلاً لأنّني عمِلتُ على أيجاد طريقة لتصليح الوضع، فأنا لم أصرف كل هذا المجهود سدىً. ووجدتُ أن الحلّ الوحيد كان أن أصاعد من إغرائي لتوفيق وأن أجعله ينسى أمر تلك المرأة. وإنتظرتُ اللحظة المناسبة لأنال منه أي عندما عاد في ذات ليلة من العمل تعباً ومهموماً. قدّمتُ له كأساً من الويسكي ليرتاح قليلاً ثم طبَقه المفضّل وبدلاً من أتركه لوحده كالعادة جلستُ معه أنظر إليه وهو يأكل. وعندما إنتهى ذهبتُ إليه وبدأتُ أدلّك كتفَيه. تعجّبَ كثيراً:
- ما الذي تفعلينه؟
- يبدو عليك التعب وأنا أجيد التدليك... أغمض عينيك سيّدي... ولا تفكّر بشيء.
وحين أغمض عينيه إستغنمتُ الفرصة لتقبيله بشغف. حاولَ الإبتعاد ولكنّني لم أدعه يفلت. ثم أخذتُه من يده وقدتُه إلى غرفة النوم حيث مارسنا الحب لساعات. وقَبل طلوع الضوء عدتُ إلى غرفتي. في الصباح حاولَ توفيق الإعتذار منّي عن الذي حصل بيننا فقلتُ له:
- أنا لستُ نادمة... بالعكس...
وبدأنا نتلاقى هكذا كل ليلة تقريباً وشعرتُ أخيراً أنّني سيّدة المنزل، فلم يعد ينقص سوى أن نتزوّج رسميّاً وإعتقدتُ أنّني نلتُ مرادي. ولكنّني نسيتُ أنّ إمرأة أخرى تشاركني الهدف نفسه وعندما جاءَت هناء إلى المنزل إنتظرَت حتى يذهب توفيق إلى الحمّام لِتقول لي:
- إسمعيني يا... يا آنسة... هل تعتقدين أنّني لا أعلم ما الذي يحصل؟ لن تفيدكِ لعبتكِ مع خطيبي، فأنتِ لستِ بوضع يسمَح لكِ بالتغلّب عليّ... حين أتزوّج من توفيق سأرميكِ خارجاً... إبدئي من الآن بالبحث عن عمل آخر...
كان بودّي صفعها أوالإمساك بشعرها ولكنّني لم أفعل خوفاً من أن أُطرد على الفور ولم يبقى لي سوى أن أركّزعلى إقناع عشيقي بأنّني أفضل من خطيبته. فإزددتُ إغراءً وفعلتُ أشياء معه لم تخطر على باله لكيّ يتعلّق بي أكثر وأكثر ويدرك أنّني المرأة المناسبة له. ولكن لم يحصل ذلك بل العكس تماماً. ففي ذات ليلة جاء إليّ توفيق وقال لي بنبرة جديّة أنّ علينا التحدّث. ثمّ نظرَ إليّ وقال:
- لديّ أخبار... ليست جيّدة بالنسبة لكِ... لقد حدّدتُ موعد عقد قراني مِن هناء و... وهي تصرّ على الإهتمام بالأولاد والمنزل بنفسها.
- ماذا تقصد؟
- سنتخلّى عن خدماتكِ... لا تخافي هناك أصدقاء لي... هم بحاجة إلى مربيّة و...
- هذا كل ما أمثّله بالنسبة لكَ؟ مربيّة؟ ما بيننا...
- ما بيننا إنتهى... سأتزوّج وسترحلين.
- ولكننا مارسنا الحب سويّاً!
- لم أجبركِ على شيء بل أنتِ التي تحرشّتِ بي... حاولتُ المقاومة.
- لم تحاول مطوّلاً! أليس لي مكاناً بحياتكَ؟
- لا... أنا آسف...
- ولكن لماذا تفضّلها عليّ؟
- أنا أحبّها وهذا مهمّ جداً... وإضافة إلى ذلك هي إمرأة متعلّمة ومثقّفة وبِنت أناس مرموقين. أرجوكِ... إرحلي بهدوء... سأعطيكِ راتب ستة أشهر مسبقاً ولكن إرحلي.
أشعرني بكلامه أنّني نكرة وأنّني لستُ جديرة به. وفي تلك اللحظة بالذات ولِدَت في قلبي نقمة على الناس وعلى الحياة. صحيح أنّني خططتُ للحصول عليه ولكن دافعي كان أن يكون لي حياة عاديّة وأن أبتعد عن الفقر الذي لازمني منذ ولادتي. لم أختر الأسلوب الصحيح، فلكثرة إنشغالي بالمال والجاه نسيتُ أنّه هناك شيء إسمه الحب وأنّ الفروقات الإجتماعيّة ستحول دائماً بيني وبين الحياة التي أحلم بها. وبعد أن غادرتُ منزل توفيق بدأتُ العمل عند أصدقاء له ومِن ثمّ في بيوت أخرى. وها أنا اليوم في الأربعين مِن عمري ولم أتزوّج بعد.
حاورتها بولا جهشان