عندما رأيتُ سُترتي الجلديّة على كتفَي تلك المارّة في الشارع، تفاجأتُ كثيرًا. ليس لأنّها لي، فلقد تخلّصتُ منها عن قصد لأنّها صارَت قديمة الطراز، بل لأنّ زوجي أخذَها منّي ليُعطيها لزوجة عامل لدَيه يُعاني مِن مشاكل مادّيّة كبيرة. والتي رأيتُها في الشارع لَم تبدُ لي فقيرة على الإطلاق، أيّ أنّها لا تُطابِق المواصفات التي قد يتصوّرها المرء عن زوجة عامل. عدتُ وفكّرتُ بالأمر بمنطق، واستنتجتُ أنّ العامل باعَ السترة بدلاً مِن إعطائها لزوجته المسكينة. ووعدتُ نفسي أن أهِبَ ملابسي في المرّة القادمة مُباشرةً إلى مؤسّسة خَيريّة، فقد يكون ذلك الرّجُل قد صرَفَ المال على شرب الكحول أو لعِب المَيسَر. أطلعتُ وسام زوجي في المساء عمّا رأيتُه وهو قال لي:
ـ قد لا تكون سترتكِ، بل سترة اشترَتها تلك المرأة بنفسها في ما مضى.
ـ أنا مُتأكّدة مِن أنّها سترتي، فهناك علامة في الجلد تسبَّبتُ بها منذ سنوات وتمّ إصلاحها عند أخصائيّ.
ـ تقولين إنّ الرّجُل الذي يعمَل لدَيّ باعَها حتمًا بدلاً مِن إعطائها لزوجته... فما ذنبي أنا؟
ـ لا ذنب لكَ يا حبيبي، أنا فقط أروي لكَ ما حصل. هيّا، بدِّل ملابسكَ بسرعة وإلا خسرنا الطاولة التي حجزناها في المطعم.
ـ لا داعٍ لذلك، فالمطعم اتّصَلَ بي... لقد أعطوا طاولتنا لزبائن آخرين بطريق الخطأ.
ـ أمرٌ مؤسِف... لنذهب إلى مكان آخر!
ـ لن نجِد طاولة في أيّ مكان في آخر لحظة. لِما لا نُحضِّر طعامًا في البيت ونجلسُ سويًّا؟
ـ كما تُريد يا حبيبي.
أسِفتُ لِما حصَل، فكنتُ أحبُّ الخروج إلى المطعم في نهاية الأسبوع، إذ كان عمَلي في القسم الإداريّ للمشفى مُتعِبًا، وأستحقّ أن أموّه عن نفسي قليلاً. لكنّني لَم أكن يومًا مُتطلّبة، لِذا حضّرتُ وزوجي العشاء وجلسنا إلى الطاولة بعد أن أضأتُ شموعًا جميلة، وتخايلتُ أنّنا في مطعم جميل أيضًا.
بعد ذلك اليوم، لاحظتُ اختفاء بعض الحلى الذهبيّة مِن العلبة المُخصّصة لها، ووجدتُ الأمر مُريبًا للغاية. فلَم يكن هناك سوايَ وزوجي في المنزل بعد أن سافَرَ ابننا الوحيد إلى الخارج وأسَّسَ عائلة حيث هو. هل مِن المعقول أن يكون وسام قد أخَذَ الحلى؟!؟ كنتُ مُتأكّدة مِن أنّني لَم أضيّعها، فكنتُ أتفقّد محتويات العلبة بين الحين والآخر مِن دون إخراج شيء منها على الإطلاق إلا في المُناسبات الكبيرة كالأفراح. يا إلهي... هل عليّ سأل زوجي عن الأمر؟ وهل كان سيستاء منّي، فمُجرّد السؤال يُعتبَر تُهمة بالسرقة؟ بقيتُ مهمومة إلى حين لَم يعُد باستطاعتي التحمّل، فقلتُ لوسام:
ـ حبيبي... هناك حلى تنقصُ في العلبة. هل رأيتَها؟
ـ أنا لَم آخذها!
ـ لَم أقُل إنّكَ فعلتَ. فقد أكون قد أضعتُها أو وضعتُها في مكان آخَر. لكن مِن ردّة فعلكَ، ولأنّكَ زوجي منذ أكثر مِن ثلاثين سنة، مِن الواضح أنّ لكَ دخلاً في اختفاء مجوهراتي. لماذا أخذتَها؟ هل لدَيكَ عشيقة وأردتَ إهداءها لها؟ إعترِف الآن فذلك لمصلحتكَ!
ـ عشيقة؟ لا! لا!
ـ بلى... أعطَيتها لتلك المرأة التي رأيتُها مُرتدية سُترتي الجلديّة!
ـ لَم أعطِها شيئًا فأنا لا أعرفُها! لقد بعتُ سترتكِ لِتاجر وحسب.
ـ بعتَها؟!؟ وهل نحن بحاجة للمال لتبيع سترة قديمة الطراز؟!؟ وهل بعتَ حلايَ أيضًا؟
ـ أجل.
وبدأَ وسام بالبكاء، فتفاجأتُ كثيرًا لأنّني خلال سنوات زواجنا الطويلة، لَم أرَ دمعة واحدة تنزلُ مِن عَينَيه. كان ضياعه واضحًا، فأخذتُه بين ذراعَيّ إلى أن هدأ قليلاً، ثمّ سألتُه كيف له أن يحتاج إلى المال في حين أنّ لدَيه عملاً جيّدًا، ناهيكَ عن راتبي الذي أصرفُ منه على البيت أيضًا. وهو قال:
ـ لَم أقُل لكِ شيئًا كي لا أشغلُ بالكِ، فأنتِ حسّاسة للغاية وإنسانة بامتياز. لقد قرّرتُ حلّ المُشكلة بنفسي، لكنّني لَم أعُد قادرًا على الدّفع بعد أن صارَت المبالغ تزداد بشكل مُخيف.
ـ ماذا تتكلّم عنه؟ لمَن تدفع المال ولماذا؟!؟
ـ لأنّني اقترفتُ جرمًا بشعًا.
ـ جرمًا؟!؟ يا إلهي! هل قتلتَ أحدًا؟ زوجي مُجرم!؟!
ـ إهدئي أرجوكِ... كِدتُ أن أقتلُ أحدًا... لقد دهستُ أحدهم أثناء عودتي مِن العمَل. كنتُ تعِبًا للغاية بعد يوم شاق قضَيتُه في مقرّنا في آخر البلد، وصارَت عينايَ تغمضُ لوحدهما وأنا أقودُ سيّارتي. لَم أرَ ذلك الشاب، أقسمُ لكِ!
ـ أكمِل.
ـ أوقفتُ المركبة طبعًا وترجّلتُ لأرى ما الذي اقترفتُه. وركضَ مِن جانب الطريق أب الشاب الذي صدمتُه وبدأَ يصرخُ ويُهدّدُ. للحقيقة خلتُ نفسي وسط كابوس، ولَم أستوعِب ما حصَلَ إلا بعد دقائق، فأخذتُ الشاب وأباه إلى أقرَب مشفى. كان الوالد قد أخَذَ رقم لوحة السيّارة وطرازها ومِن ثمّ رقم هاتفي، وهدّدَني بطلَب الشرطة إن لَم أدفَع مصاريف المشفى وتعويضًا مُلائمًا للأضرار اللاحقة. قبلتُ كلّ شروطه، فأوقفتُ السيّارة أمام المشفى وأنزلتُهما ثمّ عدتُ بسرعة إلى البيت.
ـ لماذا لَم تدخُل معهما؟
ـ خفتُ مِن الشرطة... والسّجن. الأب وعدَني بأن يقولَ إنّ السائق الذي صدَمَ ابنه فرَّ بسرعة إلى جهة مجهولة. فاطمأنَّ بالي بعد أن ظننتُ أنّ المسألة ستُحَلّ بدفع بعض المال. لكنّ الابن أُصيبَ بشلَل دائم وهو قابِع على كرسيّ مُتحرّك... المسكين. لِذا عليّ دفع كلّ تكاليفه الشهريّة، إضافة إلى مبلغ ثابت تعويضًا لتدمير حياته ومُستقبله. إلا أنّ الذي أجنيه لَم يعُد يكفي، لِذا بعتُ ما أملكُ مِن ساعات ثمينة وبعض أغراض البيت وصولاً إلى سترتكِ وحلاكِ. سامحيني يا حبيبتي... لَم أقُل لكِ شيئًا، أوّلاً كَي لا ترَى فيّ وحشًا يدهسُ الناس، وثانيًا لأنّني لَم أشأ أن ينشغل بالكِ في ما يخصّ حالتنا المادّيّة.
عانقتُه مُطوّلاً، فكان وسام بالفعل يائسًا لِما آلَت إليه حياته، خاصّةً أنّه حمَلَ لوحده سرًّا ثقيلاً للغاية. أسفتُ كثيرًا لذلك الشاب الذي فقَدَ أمَله بالعَيش كباقي الشبّان، ولأبيه الذي سيرى إبنه مُقعدًا للأبد. هل كان بإمكاني المُساعدة أنا الأخرى على الأقلّ معنويًّا؟ فكنتُ مُعتادة على ضحايا الحوادث إذ كنتُ مُمرّضة قبل أن أنتقِل للعمل في القسم الإداريّ للمشفى. سألتُ وسام عن عنوان الضحيّة، إلا أنّه لم يكن يعرِف أين يسكن، بل قال لي إنّ الأب يقصده في العمَل لِقبض ماله، ويُريه صورًا لابنه جالسًا حزينًا على كرسيّه المُتنقِّل. عندها سألتُ مِن حَولي عمَّن يعرفُ مُمرّضة في المشفى الذي عالجَ الشاب لأحصل على عنوانه ورقم هاتفه، واستطعتُ الاتّصال بتلك المُمرّضة. وبعد أن عرّفتُها بنفسي وتبادَلنا أخبار مهنتنا المُشتركة، سألتُها عن الكسيح، مُدّعية أنّ جمعيّة خَيريّة أوكلَتني بإيجاد مَن هو بحاجة إلى مُساعدة. فلَم أكن أُريدُ طبعًا أنّ يعرِف أحد أنّ لزوجي دخل بالحادث. وقالَت لي تلك المرأة:
ـ كسيح؟ أتذكّرُ بوضوح وصول ذلك الشاب مع أبيه ليلاً إلى قسم الطوارئ، لكنّه لَم يُصَب بجروح بالغة بل عالجناه وعادَ إلى منزله بعد ساعات قليلة. للحقيقة، كانت إصابته تقتصر على شِعر في عظمة الكاحل وبعض الكدمات. لستُ أدري إن كانت حالته تستوفي شروط تلك الجمعيّة.
ـ أعطِني عنوانه ورقم هاتفه، فمَن يدري، قد يحصلُ الشابّ على مُساعدة ما.
وخلال حديثنا هذا، عمِلتُ جهدي لإخفاء غضبي الشديد مِن هذَين النصّابَين اللذَين استغلّا وسام بشكل دنيء. لَم أقُل شيئًا لزوجي، إذ خفتُ أن يرتكِب حماقة بحقّ ذلك الأب ويدخلُ بالفعل السجن، وقرّرتُ التصرّف بنفسي. إتّصلتُ بابن عمّي وطلبتُ منه المُساعدة، بعد أن أطلعتُه على القصّة بأكملها. إتّفقنا أن نقصد بيت الرجُل وابنه وأن نُراقب تحرّكاتهما. وهكذا جلسنا في سيّارتي ساعات طويلة، إلى أن خرَجَ أخيرًا الأب برفقة ابنه مشيًا إلى الشارع للتسوّق. أخذتُ هاتفي وصوّرتُ فيديو لاستعماله كإثبات ضدّهما. في اليوم التالي، بعثتُ الفيديو إلى رقم الأب مُضيفة:
ـ أعلمُ أنّ ابنكَ ليس كسيحًا لا بل متعافٍ تمامًا. وافِني إلى هذا المكان اليوم وإلا طلبتُ لكَ الشرطة، واشتكَيتُ ضدّكَ بتهمة النصب.
ركضَ الرجُل إلى الموعد حيث كنتُ بانتظاره مع ابن عمّي، فهدّدتُه مُجدّدًا طالبةً منه ردّ المال الذي قبضَه مِن زوجي. لكنّه قال لي:
ـ لقد صرفنا المال كلّه!
ـ إذًا إبدأ بالبَيع!
ـ ماذا؟!؟
ـ تمامًا كما باعَ زوجي كلّ ما يملك ليدفع لابنكَ "الكسيح"! لن أرحمكَ أيّها النصّاب ولن أُسامحُكَ على ما سبّبتَه لوسام مِن قلق وخوف ويأس. أُريدُكَ وابنكَ أن تشعرا وتمرّا بالشيء نفسه الذي مرّ به زوجي، ولن أتردّد عن سجنكما لمدّة طويلة! أُريدُ المبالغ كلّها حتى آخر فِلس!
لَم أتصوّر نفسي قادرة على الوقوف هكذا بوجه أحد، لكنّ غضبي على الذي حصَلَ، وأسَفي على زوجي أعطاني قوّة إضافيّة. بعد ذلك، أطلعتُ وسام على الحقيقة، وجعلتُه يُقسمُ لي ألا يتدخّل إطلاقًا بل أن يتركني أتصرّف. وهكذا، أعادَ الأب لنا مالنا على مرّ الأشهر إلى أن أستوفَينا المبلغ كلّه.
تلك الحادثة علّمتنا الكثير، أوّلاً أن يتحمّل المرء مسؤوليّة أفعاله، وعدَم الهرب منها مهما كانت بليغة، فالقانون يحمينا ويُعطي كلّ منّا حقّه ويُعاقبنا ولكن بعدل. ثانيًا أّنّ هناك أناسًا بلا ضمير يستفيدون مِن ضعفنا ومخاوفنا. وثالثًا أنّنا نصبَح أقوياء حين يكون الحقّ إلى جانبنا. فلو دخَلَ زوجي المشفى مع الشاب وأبيه، لَعلِمَ على الفور أنّ الحادث ليس بليغًا، فإكتفى بدفع تكاليف العلاج الاستشفائيّ وتعويضًا بسيطًا لكلّ يوم تعطّل فيه الضحيّة عن العمَل. فالحوادث تحصل وما مِن أحد يستطيع استباقها أو تجنّبها على الإطلاق. هكذا هي الحياة، مجموعة أحداث ومُفاجآت تحصلُ لنا، وعلينا التصرّف حيالها بحكمة وتروٍّ.
حاورتها بولا جهشان