كانت أختي إلهام بغاية الجمال واللطف والذكاء، وكانت حديث العائلة وكلّ مَن عرَفَها. وأعترفُ أنّني كنتُ أغارُ قليلاً منها، لأنّ الله لَم ينعَم عليّ بصفاتها. صحيح أنّني كنتُ أشبهُها جسديًّا، لكنّني لَم أستطِع بلوغ مُستواها الذهنيّ أو طريقة تعاملها مع مَن حولها. إلا أنّ حبّي لها كان بلا حدود، مع أنّ حياة كلّ منّا أخذَت منحىً مُختلِفًا وبقيتُ أنا في ظلّها. فأختي الكُبرى كانت فريدة مِن نوعها، وشغلَت منصبًا عاليًا في إحدى الشركات التجاريّة، بينما صرتُ أنا سكريتيرة عاديّة لا يُسلّمُني مُديري سوى المُهمّات البسيطة جدًّا. في الواقع، لَم يُزعجني الأمر كثيرًا، فقُدراتي كانت محدودة، وتعوّدتُ على تلك الفكرة ومحوَرتُ حياتي حولها، خاصّة عندما كنتُ أرى أختي تصلُ مساءً مِن عمَلها مُنهكة ومُحمّلة بالملفّات التي عليها إنهاؤها قَبل طلوع الفجر.
لَم يُفرِّق والدانا كثيرًا بيننا، لكنّني كنتُ أشعرُ بالفخر الذي يكنّانه لإبنتهما البِكر، فحاولتُ التعويض بفنّ الطهو، وسرعان ما باتَ ما أُحضِّره مُميّزًا ولذيذًا، خاصّة الحلويات. عندها شعرتُ أنّني ارتفعتُ قليلاً في سلّم النجاح التي تتبوّأه إلهام.
مرَّت السنوات وماتَ خلالها كلّ مِن أبي وأمّي بسبب المرَض، فبقيتُ وإلهام لوحدنا. سكنَنا الحزن، فتقرّبنا كثيرًا مِن بعضنا، إلا أنّني لَم أتقبَّل جيّدًا أخذ أختي مكان أمّي وأبي في إدارة البيت وإصدار التعليمات. لماذا لا آخذُ أنا ذلك الدور؟ هل لأنّني أقلّ ذكاءً مِن إلهام؟!؟ حصَلَ أن تشاجَرنا مرّات عديدة حول الموضوع، لكنّني عدتُ واستوعَبتُ أنّ إلهام تعرفُ تمامًا، على خلافي، ما يجب فعله ومتى. ومع الوقت، هدأ كبريائي وسلَّمتُ حياتي لأختي الكُبرى بكلّ طيبة خاطِر، وصِرتُ أقومُ بواجباتي المنزليّة والاجتماعيّة حسب ما تراه إلهام مُناسبًا فجَرَت الأمور بسلاسة تامّة.
لكنّ حادثًا جاء ليُغيّرَ كلّ المُعطيات وبشكل جذريّ، وكذلك باقي حياتي وحياة إلهام: فلقد صدمَتها سيّارة مُسرعة أثناء عبورها الطريق وركضتُ كالمجنونة إلى المشفى الذي نُقِلَت إليه. هناك، وجدتُ أختي في حالة مُزرية، فجسمها كان مكسورًا في أماكن عديدة وكذلك عامودها الفقريّ. وقال لي الأطبّاء إنّ إحتمال أن تمشي أختي مُجدّدًا ضئيل للغاية بل شِبه معدوم.
وبدأَت مرحلة العلاج الصعبة فلَم أترك خلالها إلهام، الأمر الذي تسبَّب لي بالطرد مِن عمَلي بعد أن وجَدَ مُديري سببًا وجيهًا للتخلّص منّي. لكنّني كنتُ مُقتنعة تمامًا بوجوب مُساعدة أختي على التحسّن. شُفيَت كسورها الصغيرة، لكنّها بقيَت في كرسيّ مُتحرِّك وذهبَت برفقتي إلى مُعالج فيزيائيّ لَم يعِدها بالشفاء. وطوال الوقت، كانت إلهام تقومُ بوظيفتها عن بُعد، أي عبر الانترنت، وتُرسِل الملّفات بالبريد الالكترونيّ. هي لَم تستسلِم أو تبكي على نفسها، فهكذا كانت إلهام، مُناضِلة. وللترفيه عنها، صرتُ أُحضِّر الأكل اللذيذ، خاصّة الحلويات التي كنتُ أبرَع فيها. سألَتني أختي يومًا:
ـ لماذا لا تفتحين محلاً للحلوى يا أختي؟ فالقوالب التي تُحضّرينها رائعة الجمال ولذيذة في آن واحد.
ـ أنا أفتَح محلاً؟ أنتِ تمزحين! ألَم ترَي كيف طرِدتُ مِن عمَلي عند أوّل فرصة؟ لستُ نافِعة بشيء على خلافكِ.
ـ أنتِ مُخطئة! لدَيكِ موهبة رائعة لكنّكِ تفتقدين للثقة بالنفس. الحقّ يقَع على أهلنا الذَين افتخرا بي أمامكِ طوال الوقت، وقارَنا بيننا على الدوام. فالنجاح لا يقتصِر فقط على المواد والإختصاصات التقليديّة، والولَد الذي لا يفلَح في المدرسة قد يبرَع في مجالات أخرى.
ـ أنتِ تقولين هذا لأنّكِ أختي وتُحبّيني. دعينا مِن هذا الكلام الآن. المُهمّ أن تتحسّني.
بعد أيّام قليلة، طلبَت منّي إلهام مُساعدتها في كتابة نصّ على الحاسوب، لأنّها كانت تشعرُ بتعَب كبير كما كان يحصلُ لها كلّما ذهبَت إلى المُعالج الفيزيائيّ. رفضتُ أوّلاً لأنّني كنتُ سأطبَع كلامًا لا أفهمُه وخشيتُ أن أرتكِب أخطأً. لِذا هي فسَّرَت لي بالتفاصيل النص المذكور الذي يتكلّم عن تجارة المواد الغذائيّة في الشرق الأوسط. قمتُ بطبعه بتأنٍّ وأعجبَتني النتيجة. وبعد ذلك، صرتُ أطبَع كلّ مُراسلات وكتابات أختي، بعد الشرح طبعًا.
لكنّ حالة الهام ساءَت فجأة، وهي بالكاد صارَت قادرة على الجلوس أمام حاسوبها بل قضَت وقتًا كبيرًا في الفراش. خافَت المسكينة أن تخسَر وظيفتها، فحتّى ذلك الحين، أبدَت إدارة الشركة تفهّمًا كبيرًا لوضعها الإستثنائيّ:
ـ إجلبي الحاسوب إلى غرفة نومي يا أختي... سأُحاوِل مُتابعة عمَلي مِن حيث أنا. لكن عليكِ أن تبقي إلى جانبي وتُساعديني. إحسبي نفسكِ سكرتيرتي الخاصّة... وإلا ساءَت حالتُنا المادّيّة بشكل خطير.
وهكذا جلستُ معها لساعات طويلة، أقرأ لها خلالها المقالات المُتخصّصة وأكتبُ عنها ما تُمليه عليّ. وحصَلَ مرّة أنّني ظهرتُ مكانها لدقيقة عندما كانت هناك مُقابلة عبر الزوم. فجلستُ قبالة كاميرا الحاسوب وأنا أرتجِف مِن الخوف، وابتسَمتُ للحاضرين وألقَيتُ التحيّة عليهم. ثمّ أقفلَت الهام الكاميرا وتابعَت هي الاجتماع. لَم تكن تُريد أختي أن يعرفوا أنّها تعِبة جدًّا، وقد كان الشبَه الموجود بيننا كافيًا لتضليلهم. هنّأتني إلهام على شجاعتي وأدائي، وصِرتُ أفتتِح الاجتماعات بالظهور للحظات مِن دون أن أرتبِك. ففي آخِر المطاف، لَم يكن الأمر بالصعوبة التي خلتُها.
تحوّلَت غرفة إلهام إلى ما يُشبه مكتبًا حقيقيًّا لكثرة الملفّات الموجودة فيها ولوتيرة العمَل التي توصّلنا إليها، فبِتنا نُنجِزُ العمَل بسرعة فائقة وبالدقّة المطلوبة.
إرتاحَت المسكينة مِن إمكانية استبدالها ولَم تنفكّ عن شكري. للحقيقة، صرتُ أحبُّ عمَلها وأفهمه تمامًا، وأعرفُ كلّ ملفّات العملاء عن ظهر قلب وكيف أُعالِج الطلبات وحتّى المشاكل. في الواقع، وجدتُ المسألة سهلة، أسهَل بكثير مِما اعتقدتُه، لكنّني لَم أستوَعِب بعد أنّني بالفعل بدأتُ أثِقُ بنفسي، وأبحثُ عن حلول وأجوِبة وأُحاوِل الغوص في الأمور المُعقّدة. فطوال حياتي كنتُ أكتفي بالذي أمامي، وأخافُ مِن الصعوبة والمسائل التي قد تتطلّب جهدًا لَم أعرفُه موجودًا لدَيّ.
بقيَت أختي تذهبُ إلى المُعالج الفيزيائيّ كعادتها لكن بصعوبة ملحوظة، بينما كنتُ أبقى في البيت لأنجِز العمَل عنها. وفي إحدى المرّات، جاءَ اتّصال عبر الزوم، فخفتُ كثيرًا ولَم أجِب. لكنّ المُتّصِل كان مُلِحًّا لِذا اضطرِرتُ للإجابة، وقرّرتُ الادّعاء بأنّ الانترنِت ضعيف للإقفال بسرعة. إلا أنّ الموظّف المسؤول الذي ظهَرَ أمامي كان يُريدُ الاستفسار عن أحَد الملفّات الذي عمِلتُ شخصيًّا عليه، فلَم يكن مِن الصعب عليّ الاجابة، لا بل أطَلتُ الشَرح والتفسير. شكرَني الرجُل وانتهَت المُقابلة. جلستُ أرتجِف لوحدي، فشعرتُ بمزيج مِن الفخر والخوف لِما فعلتُه للتوّ. عند عودة إلهام، أخبرتُها بما جرى وهي ابتسمَت لي قائلة: "بالطبع أنتِ قادِرة على ذلك، وعلى أكثر بعد."
بعد مرور أشهر طويلة، قالَت لي إلهام إنّ الشركة التي تعمَل لدَيها طلبَت منها عرض ملخّص للعام مع النتائج والاحصاءات بشكل رسوم بيانيّة. تحمَّستُ للأمر لكنّها أضافَت: "يُريدون أن أُقدِّمه بنفسي لهم عبر الزوم... أي مسألة ساعة مِن الوقت على الأقلّ... وعليكِ القيام بذلك عنّي".
ماذا؟!؟ لا! لا! رفضتُ بقوّة وبدأتُ أقدِّم لها الحجَج، بالرغم مِن أنّها أكّدَت لي أنّني قادِرة على ذلك وأنّ وحده المُدير سيكون موجودًا. بقيتُ أرفضُ إلى حين ذكّرَتني بوجوب حفاظها على عمَلها وإلا خسِرنا كلّ شيء. عندها بدأتُ أُراجعُ الملفّات كلّها وأتمرّن على الكلام أمام المرآة، بينما تُصحِّحُ لي أختي بعض الأخطاء هنا وهناك.
أصبحتُ جاهزة في الوقت المُناسب، لكنّ قلبي كان مليئًا بالخوف، وفكّرتُ بالتراجع مرّات عديدة لكنّني لَم أرِد أن أخذل أختي المسكينة.
يوم المُقابلة عبر الزوم، خلتُ أنّني سأموتُ مِن الخوف إلا أنّ الأمر كان صعبًا فقط في البداية، فوجدتُ نفسي أتكلّم بثقة وطلاقة بعد دقائق معدودة. وهكذا أطلعتُ المدير على كلّ ما أرادَ معرفته وأجَبتُ على أسئلته العديدة بثقة. ألَم أكن مَن أعَدَّ تلك الملفّات؟ لكن عند انتهائي، قال لي الرجُل: "لقد حصلتِ على المنصِب، يا دلال". ماذا؟!؟ هو ناداني باسمي وليس بإسم أختي؟!؟ كيف علِمَ مَن أنا؟
إستدَرتُ نحو الهام ووجدتُها تبتسمُ لي بفخر والدموع تملأ عَينَيها. أقفلتُ الخط مع المُدير، وطلبتُ مِن أختي أن تشرَحَ لي ما حصَل. قالَت لي:
ـ كلّمتُ مُديري عنكِ، وما حصَلَ قَبل قليل كان مُقابلة عمَل. كنتُ واثقة مِن أنّكِ ستنجَحين، يا أختي. فلقد عمِلتُ على تدريبكِ لهذا الغرَض. أعذريني، لكن إنتقالي إلى هذه الغرفة لَم يكن ضروريًّا، بل حالتي جيّدة للغاية وبدأتُ أمشي قليلاً بفضل المُعالجة. لكن قَبل عودتي إلى العمَل، كان عليّ تهيئتكِ بتقوية ثقتكِ بنفسكِ، فلطالما آمَنتُ بكِ وبقدراتكِ، وأنتِ الوحيدة التي لا تعرف ما بإمكانكِ فعله.
ـ لقد تلاعَبتِ بي!
ـ أجل، وأنا آسفة، ولكنّها الطريقة الوحيدة لحثّكِ على استخراج أفضل ما عندكِ. وها أنتِ قد رأيتِ بنفسكِ ما بإمكانكِ فعله، وتبيَّنَ أنّكِ بالفعل موهوبة. إسمعي... لا تنسي موضوع فتح محلّ للحلوى أبدًا، فعملكِ الجديد سيُساعدكِ على فهم عالَم الأعمال جيّدًا. وعلى الانسان أن يفعل ما يُفرِّحُ قلبه. أعذريني يا حبيبتي على ما فعلتُه، لكنّني أردتُ ما هو الأفضل لكِ.
عادَت الهام إلى العمَل ودخلتُ معها الشركة، وأعترفُ أنّني كنتُ موظّفة جيّدة بفضل تمرين أختي لي. أحبَّني الجميع وساعدوني وصرتُ واحدة منهم... وبعد خمس سنوات، فتحتُ محلاً للحلوى، وجهزّتُه واخترتُ العاملين فيه جيّدًا بعد أن درستُ مُتطلّبات المنطقة وعدد سكّانها، وسلّمتُه لعاملة موهوبة أثناء النهار لأمُرّ عليها بعد انتهائي مِن عمَلي وأرى كيف تسير الأمور.
تزوّجَت إلهام، وأنا اليوم مخطوبة، وأستطيع القول إنّني، بالرغم مِن إنجازاتي، لَم أستعمِل قدُراتي كلّها بعد، فالإنسان قادِر على فعل المُعجزات إن هو آمَن بنفسه.
حاورتها بولا جهشان
