جينات لا أريدها!

وُلِدتُ بعد ثلاثة صبيان، فكانت طبعًا الفرحة عارمة لدى الجميع. وتلَّقَيتُ الدلال مِن قِبَل والدَيَّ والأهل، خاصّة أنّني كنتُ فاتحة البشرة على خلاف اخوَتي. ففي بلادنا الشرقيّة حيث الأغلبيّة سُمر اللون، نرى الشُقر بعَين إيجابيّة. كبرتُ بهدوء شأن مُعظم البنات، لكن للأسف وحيدة بسبب فارق السنّ بيني وبين أخوَتي.

ومع مرور السنوات، لاحظتُ أنّني لا أشبهُ أخوَتي بشيء، أو بالأحرى أنّني لا أشبهُ أيًّا مِن أفراد عائلتي! فخلافًا لهم، كنتُ رفيعة وطويلة القوام وذات أنف صغير وشفاه رقيقة، ناهيك طبعًا عن لون بشرتي الفاتح. سألتُ أمّي عن الأمر، فطمأنَتني بأنّني قد ورثتُ ملامحي مِن إحدى جدّاتها. نسيتُ الموضوع لفترة طويلة، فالتفسير الذي حصلتُ عليه كان وقتها مُقنعًا كفاية.

حاوَلَ أحد أخوَتي مُضايقتي في ما يخصّ ذلك الموضوع، بالقول إنّني إبنة مُتبنّاة. ركضتُ مرّة أخرى إلى والدتي التي أرَتني صوَرها وهي حامل بي، وصوَرًا لي ولها بعد الولادة على الفور. قبّلتُّها بقوّة بعد أن خفتُ ألا أكون جزءًا مِن عائلتي هذه، وأنّ يومًا سيأتي وتُطالبُ بي عائلتي الحقيقيّة! لَم أكن أُدركُ بعد أنّ مخاوفي كانت في محلّها، على الأقلّ البعض منها.

أصبحتُ صبيّة جميلة ومُحاطة بالمُعجبين، بسبب قوامي وشبَهي بالمُراهقات الأجنبيّات. لكنّني كنتُ أُريدُ لَفت إنتباه الآخرين بذكائي وطيبتي، ففضّلتُ التركيز على درسي وبلوغ حلمي بأن أصير يومًا طبيبة. كان أخوَتي قد تزوّجوا وصرتُ لوحدي مع أبوَيّ اللذَين أحاطاني بالحبّ والدّلَع.

دخلتُ الجامعة وكنتُ مُتحمّسة للغاية، فأخيرًا سأثبتُ للعالم أنّني إنسانة جديرة وليس فقط فتاة جميلة أو جذّابة! لكنّ حدَثًا غير متوقّع على الإطلاق غيّرَ مجرى حياتي بشكل جذريّ.

فذات يوم حين عدتُ مِن الكلّيّة، وجدتُ والدَيّ جالسَين في الصالون بإنتظاري وعلى وجهَيهما علامات همّ كبير. أرادَ أبي أن يبدأ بالكلام إلا أنّ أمّي أوقفَته قائلة:

 

- لا يا حبيبي... مِن واجبي أنا إخبارها، فالحقّ يقَع عليّ.

 

سألتُها عمّا يجري إذ خفتُ أن يكون قد حصَلَ مكروه لأحد أخوَتي. فطمأنَتني أمّي حيال ذلك، وأمسكَت بِيَدي ونظرَت إليّ لثوان ثمّ قالَت:

 

ـ منذ سنوات عديدة... تسع عشرة سنة على التمام، حصَلَ أن انفصلتُ عن أبيكِ وتطلّقنا.

 

ـ ماذا؟!؟ ولأيّ سبب؟ فأنتما على وفاق تام!

 

ـ لَم يكن الوضع هكذا بل... يا إلهي كيف أقولُ لكِ ذلك... كان أبوكِ يتعاطى الكحول سرًّا ويُعاشرُ غيري. أنا آسفة على إطلاعكِ على هكذا أمور، فلا يجدرُ بكِ معرفتها، بل هذه التفاصيل مُهمّة جدًّا لباقي الأحداث. تشاجرتُ معه كثيرًا، وهو وعدَني بالإستقامة إلا أنّه لَم يُحسن ترك تلك الحياة.

 

نظرتُ إلى أبي بإندهاش لكنّه أدارَ وجهه عنّي خجلاً. وتابعَت والدتي:

 

ـ طفَحَ كَيلي إذ أنّني كنتُ أربّي ثلاثة أولاد لوحدي، وأقضي وقتي أبحثُ عن زوجي في الحانات والأماكن غير اللائقة. وفي أحد الأيّام تركتُ البيت.

 

ـ تركتِ أخوَتي؟!؟

 

ـ أجل يا حبيبتي وأنا آسفة لذلك لكنّهم لَم يشعروا بشيء، إذ أنّهم صدّقوا خبَر سفَري إلى عمّة وهميّة بعيدة ومريضة. في تلك الأثناء، وجَدَ أبوكِ نفسه لوحده مع أولادنا وشعَرَ بوطأة غيابي. مِن جانبي، سافرتُ بالفعل لكن لقضاء بضعة أيّام في بلد أوروبيّ لعلّ ذلك يُنسيني بئس حياتي الزوجيّة.

 

ـ وما شأني بكلّ ذلك، فها أنتم سويًّا وبألف خَير.

 

ـ صبرًا يا حبيبتي... أعذريني على صراحتي، لكنّي اليوم مُجبرة على قول الحقيقة لكِ... أنتِ لَم تعودي طفلة بل تدرسين في الجامعة لتصبحي طبيبة.

 

ـ تابعي، فلن أُقاطعكِ بعد الآن.

 

ـ حسنًا... أثناء تلك السفرة، إلتقَيتُ بسائح إنكليزيّ وتبادلنا الأحاديث عن بلدَينا وعن أنفسنا، وكان توافق واضح بيننا وإنجذاب كبير. يجدرُ بي أن أضيفَ أنّ أباكِ لَم يقُم بواجباته الزوجيّة تجاهي بعد ولادة إبننا الثالث لأنّه كان مشغولاً بعشيقاته. لا أبحثُ عن أعذار، لكنّ وضعي النفسيّ وحاجتي للشعور بأنوثتي لعِبا دورًا كبيرًا بالذي حدَث بيني وبين وِليام.

 

ـ تعنين أنّكِ...

 

ـ أجل يا حبيبتي، أقمنا علاقة حميمية أردناها جميلة وقصيرة، وقرّرنا نسيان بعضنا للأبد بعد عودة كلّ منّا إلى بلده. على كلّ الأحوال، كنتُ سعيدة بالابتعاد عنه لأنّ طبعه أخافَني في بعض الأحيان فأستطيع وصفه بالمُنحرِف.

 

ـ كيف تُخبريني هذه الأمور يا ماما؟!؟

 

ـ وبعد عودتي إلى البلد، إكتشفتُ أنّني حامل.

 

ـ يا إلهي! وهل أسقطتِ الولَد؟

 

ـ إتصلتُ على الفور بوليام وتباحثنا بالأمر، ولأنّه كان مُتزوّجًا وغير مهتمّ بِجنيني، قرّرنا أنّ مِن الأفضل طبعًا أن أُنهي حَملي. لكن في تلك الفترة بالذات، بدأ أبوكِ بالتودّد إليّ بِغرَض إرجاعي إلى البيت. على كلّ الأحوال، كنتُ أنوي إيجاد طريقة لنَيل حضانة أخوَتكِ، فحياة الأمّ مِن دون أولادها ليس لها معنىً. وعدَني أبوكِ بأنّه سيترك خصاله البشعة، فهو كان قد توقّفَ عن الشرب فور مُغادرتي البيت وبدأ يرى بوضوح ما فعلَه بي وبأولاده. كان بالفعل إنسانًا آخر وقرّرتُ إعطاءه فرصة ثانية. تقابَلنا في مكان عام وتكلّمنا مُطوّلاً وأخبرتُه بكلّ صراحة أنّني حامل. فعلتُ ذلك ليعلَم كيف هو طعم ما ذقتُه مدى سنوات معه. غادرَ أبوكِ الجلسة غاضبًا، إلا أنّه عادَ واتّصَلَ بي بعد يومَين. كنتُ قد نوَيتُ الإجهاض لكنّه قال لي: "إبقِ ذلك الطفل، فلا ذنب له... لا أُريدُ بدء حياتي الجديدة معكِ وعلى ضميري حياة جنين لَم يُبصر النور... لقد تغيّرتُ كثيرًا بعد رحيلكِ فلَم يعُد للحياة طعم مِن دونكِ. ولقد قرأتُ كتابنا الشريف وعُدتُ إلى الصلاة. سأحبُّ ذلك الطفل حين يولَد وكأنّه منّي وسأُسجّله باسمي، أقسمُ لكِ على ذلك، خاصّة إن كانت بنتًا". لَم أعرِف إن كان يجدرُ بي تصديقه أم لا، لكنّني كنتُ مُتأكّدة مِن شيء، إن حصَلَ وتركتُ أباكِ مرّة أخرى سآخذُ معي أولادي الأربعة.

 

ـ وماذا حصَلَ للجنين يا ماما؟

 

وضعَت والدتي يدها بِحنان على خدّي وقالَت:

 

ـ تبّينَ أنّ الجنين أنثى وولِدَت لنا أجمَل فتاة شقراء.

 

وفهمتُ أخيرًا كُلّ شيء، أيّ لماذا لطالما بدَوتُ مُختلفة عن عائلتي. وأمام فظاعة الموقف، بدأتُ أصرخُ في والدَيّ وأنعتُهما بالكاذبَين. لماذا يُخبراني الحقيقة الآن فقط؟ وهل كان عليّ العلم بها؟ ألَم يُفكّرا بتداعيات معرفتي أنّني لستُ إبنة أبي بل إبنة رجل مرّ مرور الكرام في حياة أمّي؟!؟ فصرختُ بأمّي:

 

ـ لِماذا الآن؟!؟

 

ـ حبيبتي... مِن الأفضل أن تسمعي القصّة منّا نحن على أن يرويها هو لكِ.

 

ـ مَن تقصدين بـ "هو"؟

 

ـ مُخطّطنا كان الكتمان طبعًا، إلا أنّ وليام ظهَرَ مؤخّرًا في حياتي.

 

ـ أنتِ على علاقة معه؟!؟

 

ـ لا! لا! بل حصَلَ أن ماتَت زوجته وهو بدأ يستعيدُ ذكريات ماضيه، ففتّشَ عنّي على مواقع التواصل ووجَدَ معلومات وصوَرًا عنّي وعنّا كلّنا. ولحظة رآكِ في تلك الصوَر، علِمَ مِن الشبَه بينكِ وبينه أنّكِ ذلك الجنين الذي حمِلتُ به منه. فكتبَ إليّ على الخاص وطلَبَ رؤيتكِ. رفضتُ طبعًا إلا أنّه أكّدَ لي أنّه سيجدُكِ بنفسه. خفتُ كثيرًا أن يزفّ لكِ الخبَر ويُحدِث لكِ صدمة عنيفة، فتشاورَتُ مع أبيكِ وقرّرنا أن نفعل ذلك الآن.

 

ـ أكرهُكِ يا ماما وأكرهُكَ يا بابا!

 

ركضتُ أختبئ في غرفتي ولَم أٌبارحها إلا في مساء اليوم التالي. فكّرتُ بكلّ ما قيلَ لي، وشعرتُ بأنّني فعلاً غريبة وسط عائلتي وقرّرتُ أنّ عليّ التعرّف إلى أبي الحقيقيّ. طلبتُ مِن أمّي عنوان صفحته على الفيسبوك وكتبتُ له. تبادلنا الأحاديث عن أنفسنا بالتفاصيل، ومِن ثمّ أخبرَني أنّه قادم ليراني بعد أسبوعَين. بدأ قلبي يدقّ بسرعة مِن الفرَح ومِن الخوف. فكيف كان ذلك الرجُل، ما كانت خصاله؟ هل كان سيُحبّني أم لا؟ وماذا عن شعور زوج أمّي إن قرّرتُ العَيش مع أبي البيولوجيّ؟ كانت ستذهبُ تضحياته سدىً. لكن عدتُ وفكّرتُ أنّ الحقّ يقَع عليه في بادئ الأمر، فلو كان زوجًا صالحًا لَما دفَعَ زوجته للرّحيل والتصرّف بتهوّر مع أوّل رجُل إلتقَت به. لكن، مِن جهة أخرى، هو سجّلَني بإسمه وربّاني وأعطاني حبّه وإهتمامه، وصرَفَ عليّ ولَم يتصرّف معي أو مع أيٍّ مِن أفراد العائلة بسؤ. يا إلهي... يا للمعضلة!

 

وصَلَ وليام البلَد وأخَذَ غرفة في أحد فنادق العاصمة ورحتُ أتعرّف إليه. كنتُ في حالة يُرثى لها مِن كثرة إرتباكي وخوفي، لكنّ والدتي شجّعَتني للمضيّ في هذا اللقاء الذي كان سيُريحُ قلبي ويُساعدني على إكمال حياتي بسلام.

كان وليام بإنتظاري في ردهة الفندق وعانقَتني بقوّة مُبتسمًا وقدَّمَ لي هدايا جلبَها لي معه. تفحّصتُه جيّدًا ورأيتُ بالفعل الشبَه موجود بيننا. ثمّ تناولنا الغداء في مطعم الفندق، وتحدّثنا، بالإنكليزية طبعًا، عن أمور عدّة لا علاقة لها بنا كإبنة وأب بل تدورُ معظمها حَولي كمُراهقة جميلة. ثمّ نظَرَ وليام إلى ساعته وقال:

 

- إصعدي معي إلى غرفتي لنرتاح قليلاً سويًّا... سنستمتِع بوقتنا، ثقي بي.

 

ونظَرَ إليّ نظرة رجُل إلى إمرأة فتجمَّدَ الدم في عروقي. ماذا؟!؟ هل كان أبي، الذي ساهَم في خلقي، يعرضُ عليّ جلسة حميميّة؟!؟ لا! أنا حتمًا فهمتُ حديثه خطأً! لِذا قلتُ له:

 

ـ لستُ تعِبة... يُمكنُكَ أن ترتاح لوحدكَ وأنا سأعودُ إلى البيت.

 

ـ هاهاها... كَم أنّكِ بريئة... لَم أقصد حرفيًّا أن نرتاح، بل العكس. إسمعي، لَم أقطَع آلاف الأميال فقط لأراكِ. لحظة وقعَت عَينايَ على صوَركِ على الفيسبوك تحرّكَ شيء في داخلي.

 

ـ إنّكَ أبي! أبي!!!

 

ـ مهلاً... هناك فرق شاسع بين كَوني عاشرتُ والدتكِ وكوني أبيكِ. هي لَم تعنِ لي شيئًا بل فقط لحظات مُمتعة. لستُ أباكِ على الإطلاق بل نتشاركُ بعض الجينات فقط. أنتِ بالنسبة لي صبيّة جميلة وجذّابة ليس أكثر. هيّا بنا نصعد إلى الغرفة.

 

ـ يا قليل الأخلاق! بالفعل إنّكَ مُنحرِف! أنا الآن أخجلُ مِن حمَل تلك الجينات الفاسدة! لقد تصوّرتُكَ جئتَ لتعوّضَ لي عن سنوات الفراق وبدافع شعورٍ أبويّ. أيّ مخلوق أنتَ؟ هل كلّ شيء بالنسبة لكَ محصور بالمُعاشرة واللذّة؟ لولا أنّني ولدتُ بين أبوَين مُحبَّين وأخوة رائعين لقلتُ لكَ إنّني أُفضّل ألا تكون أمّي قد تعرّفَت إليكَ على الإطلاق، إذ أنّ إختيارها لكَ كان سيئًا للغاية! سأرحلُ الآن ولا أُريدُكَ أن تُحاول الإتّصال بي بأيّة طريقة، وأنا مِن جهتي سأعتبرُكَ ميتًا. تبًا لكَ!

 

ركضتُ خارج الفندق ورحتُ أبكي لوحدي. بعد ذلك عدتُ إلى البيت، وأخبرتُ والدَيّ أنّ ولِيام إنسان خلوق وطيّب لكنّني لَم أشعُر بعاطفة الإبنة تجاه أبيها. لَم أرِد أن أُسبّب لأمّي شعورًا بالذنب ولأبي غضبًا عارمًا. تعانقنا جميعًا وهمَسَ والدي في أذني: "أنتِ إبنتي مذ فتحتِ عَينيكِ على هذه الدنيا وأطلقتِ صرختكِ الأولى، أفهمتِ؟" إبتسمتُ له والدموع تملأ عَينيّ وأجبتُه: "فهمتُ يا بابا."

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button