جنّة خالي يوسف

كان خالي يوسف رجلاً عصاميّاً ضحّى كثيراً ليبلغ ما وصَلَ إليه، أي أن يملك سلسلة محلات للأدوات المنزليّة. كان أيضًا يُساعد باقي العائلة عندما تضيقُ عليهم الأيّام، الأمر الذي جلَبَ له إمتنان الجميع. لكنّ المسكين لَم يكن محظوظًا عاطفيًّا، ربمّا لأنّه كرَّسَ نفسه للعمل ولمساندة ذويه. حاولَت أمّي كثيرًا تعريفه إلى نساء جميلات ومُهذّبات، إلا أنّه لم يكن مُتحمّسًا، ولَم يعُد أحد يثيرُ الموضوع أمامه وتخيَّلنا أنّه سيبقى عازبًا حتى آخر أيّامه.

وفي أحد الأيّام، جاء إلينا يوسف بخبر سار: كان قد وجَدَ أخيرًا المرأة التي ينوي قضاء باقي حياته معها. فرحنا جدًّا له، خاصّة أنّه كان قد بلَغَ الخمسين مِن العُمر، وانتظَرنا أن يُعرّفنا إلى عروسه بأقرب وقت.

طال انتظارُنا، ولَم نعرف سبب هذا التأخير إلى حين تعرّفنا أخيرًا إلى سامية، فتلك المرأة كانت تكبرُ خالي بحوالي العشر سنوات. تخيّلوا اندهاشنا! هل يُعقل أن يكون يوسف قد فقَدَ عقله؟ صحيح أنّه لَم يكن يافعًا، إلا أنّه كان قادرًا على اختيار أجمل صبيّة، ناهيكَ عن استحالة قدرة سامية على الإنجاب، الأمر الذي أحزَنَ لا بل أغضَبَ أمّي إلى أقصى درجة. لَم أفهَم ردّة فعل والدتي، فقد كنتُ مراهقة آنذاك وعاطفيّة للغاية. لَم يكن يهمُّني سوى الحبّ ثمّ الحبّ. أخذتُ أدافعُ بقوّة عن خالي، فهو كان حرًّا باختيار مَن يشاء طالما كان سعيدًا.

صرتُ أقصدُ خالي يوسف في محلاته لأعبّر له عن دعَمي. وكنتُ الوحيدة التي ساندَته، في حين لاقى مِن باقي العائلة جفافًا لَم يكن يستحقُّه بعد كلّ الذي فعَلَه مِن أجلهم. غريب كيف يأخذ الناس موقفًا مِن شيء لا يعنيهم، وكيف يُعكّرون سعادة غيرهم وكأنّهم أوصياء عليهم. فخالي لَم يكن صغيرًا وكان قادرًا على التصرّف بحياته كما يشاء.

ومنذ ذلك الحين، صار يوسف محطّ مُضايقات كثيرة، الأمر الذي أحزنَه إلى أقصى درجة، فهو كان يودّ أن يتخالط وسامية مع الذين يُحبُّهم. بدلاً مِن ذلك، لَم يعُد أحد يدعوه إلى بيته أو يقصدُه. لكن بما يخصّ المساعدات الماليّة، بقوا يطلبون منه المال... بكلّ وقاحة. وهو كان يمدُّهم بما يلزمُهم، آملاً بأن يؤثّر ذلك على موقفهم منه ومِن عروسه.

مّرَت السنوات على هذا النحو ولَم يتغيّر شيء. بقيَ يوسف معزولاً، وبقيتُ واقفة إلى جانبه وزوجته التي كانت إنسانة رائعة. فسامية كانت تحبّ خالي بشكل لا يوصَف، وهو كان يُبادلُها شعورها بالقوّة نفسها. وعندما كنتُ أجلسُ برفقتهما، كنتُ أخال نفسي بين مراهقَين وأقضي وقتًا مُمتعًا معهما.

 


بعدما كبرتُ، صرتُ أرى خالي علنًا، ولَم أعد بحاجة إلى الإختباء مِن أمّي التي لَم تُغيّر موقفها أبدًا. لَم أكن أعلم أنّ لوالدتي قلبًا بهذه القساوة، وتفكيرًا محدودًا لِدرجة الإبتعاد عن أخيها لسبب لا يعنيها.

لكن بعد عشر سنوات على زواجهما، توفّيَت سامية فجأة. ليس بإمكانكم أن تتصوروا الألم الذي شَعَرَ به خالي، والدموع التي ذرفَها على حبيبته والحزن الذي ملأ عَينَيه وقلبه. كان الأمر وكأنّ قطعة منه قد ماتَت. وبالرغم مِن هذا المشهد المُحزن، حسدتُ سامية على حبّ زوجها لها، مُدركة تمام الإدراك أنّني قد لا أجد يومًا عند أيّ رجل هذا القدر مِن الحبّ.

مِن جهّتها، فرِحَت أمّي لرحيل سامية، ليس لأنّها شرّيرة، بل لأنّها مغرورة. فبموت زوجة أخيها، كانت والدتي قد اثبتَت وجهة نظرها: كان يحتاج خالي إلى امرأة صبيّة وليس كما أسمَتها "عجوزًا"، وهو لو سمِعَ منها، كانت زوجته لا تزال حيّة. لكنّ خالي، وبالرغم مِن فقدانه أعزّ ما لدَيه قال لي:

 

ـ لقد قضيتُ مع سامية أفضل عشر سنوات مِن حياتي، ولستُ نادمًا على شيء، فالذي مرَرتُ به معها يُوازي مئة سنة مِن حياة مع غيرها.

 

ـ لَم أسألكَ يومًا عن ظروف تعرّفكَ إلى سامية، رحمها الله. كيف وجدتُما بعضكما؟

 

ـ ببساطة يا صغيرتي، بكلّ بساطة. فأعظم الأمور تحدثُ ببساطة. هي جاءَت إلى إحدى محلاتي لتشتري غسّالة كهربائيّة، وشاء الله الذي لا يُمكنُني شكره كفاية، أن أكون موجودًا هناك في ذلك النهار. فأنا لا أتواجدُ في ذلك الفرع إلا يومًا واحدًا في الأسبوع. وعندما رأيتُها، لَم أرَ سنّها ولَم أسأل عن أيّ شيء يخصُّها، بل اكتفَيتُ بالنظر إلى عَينَيها الواسعَتين اللتَين بإمكانهما إشعال نار الحبّ في قلب كقلبي، أي قلب بارد نسيَ أن يُحبّ طوال حياته. تبادَلنا بضع كلمات حول الغسّالة ومِن ثمّ طلبتُ رؤيتها مُجدّدًا. إبتسمَت سامية ورأيتُ جمال بسمتها التي بإمكانها محو أيّ همّ مهما كان كبيرًا، وتأكّدتُ في تلك اللحظة مِن أنّها ستكون زوجة عظيمة. كيف علِمتُ ذلك؟ هو شعور لا يستطيع أحد تفسيره بالكلام. وبعد لقاء واحد، عرضتُ عليها أن تصبح زوجتي، وهي وافقَت، ببساطة أيضًا.

 

ـ هكذا فقط؟ أمر عجيب!

 

ـ قد يكون عجيبًا في عصر باتَ الناس يبحثون فيه عن التعقيدات في كلّ شيء، ويُحلّلون ويدرسون ويختبرون بعضهم. الحبّ ليس بحاجة إلى تفكير بل إلى لحظة واحدة.

 

ـ لقد ملأتَ قلبي بالأمل والفرَح، يا خالي.

 

ـ تعلّمتُ ذلك مِن سامية، فهي التي أعطَتني هذا الأمل والفرح. لكن ما مِن أحد سواكِ فهِمَ سعادتي أو شعَرَ بها، والجميع فعَلَ جهده لإتعاسي، ولا أفهم السبب. هل كثير عليّ أن أكون سعيدًا؟

 


ـ لا يا خالي، فأنتَ تستحقّ كلّ ما هو جميل وجيّد. لقد كنتَ سنَدًا لنا جميعًا ولن أنسى أبدًا ما فعلتَه مِن أجلنا.

 

ـ لا أبحث عن الشكر أو عرفان الجميل، كلّ ما أردتُه كان القليل مِن الدَّعم والمحبّة. ولقد قرّرتُ الرحيل أنا أيضًا، لا أقصدُ أنّني سأموت، فالله هو الذي يُقرّرُ ساعة موتي، بل أنّني سأبتعدُ عن كلّ ما ومَن أعرفُه.

 

ـ هل هذا ضروريّ يا خالي؟ وأنا؟ هل ستبتعد عنّي أيضًا؟

 

ـ أجل... هذا ضروريّ. أمّا بما يخصُّكِ، فستكونين الوحيدة التي تعرفُ مكاني.

 

باعَ يوسف جميع محلاته، وأعطى نصف ما حصَلَ عليه للفقراء، فلطالما كان إنسانًا مُحبًّا وكريمًا... ومِن ثمّ اختفى. واختفاؤه جلَبَ التساؤلات العديدة وسط العائلة التي بدأَت تُطلقُ الأخبار عن فقدانه عقله أو حتى حياته. وحدي كنتُ أعلمُ أين هو، وحفظتُ سرّه جيّدًا.

راحَ يوسف إلى بلدة بعيدة جدًّا، حيث اشترى لنفسه بيتًا جميلاً مُحاطًا بقطعة أرض كبيرة بدأ يزرعُها بالفاكهة والخضار. وأنشأ مزرعة صغيرة للدجاج واشترى بقرتَين ليستفيد مِن حليبهما. فهو تخلّى عن أكل لحم أيّ حيوان لأنّه رفَضَ إيذاء أيّ مخلوق حَي. هكذا كان خالي، رجلاً عظيمًا يعيشُ مِن أجل غيره ومِن دون أن يؤذي أحدًا.

زرتُه مرارًا في بيته الجديد، بعدما كذبتُ على أمّي وقلتُ لها إنّني عند إحدى صديقاتي في منطقة بعيدة. وأستطيع القول إنّ مسكن يوسف كان شبيهًا بقطعة مِن الجنّة لكثرة جمال موقعه والسكينة التي تُحيطُ به. وهناك جلَسنا نتحدّث عن الحياة والناس، ووجدتُ أنّ خالي اكتسَبَ فلسفة عميقة جدًّا ساعدَتني كثيرًا في حياتي.

فهو لَم يعدُ حزينًا، بل بلَغَ سعادة داخليّة بعد أن تقبَّلَ موت سامية على أنّه جزء مِن الحياة. وفي ذلك المكان الجميل، كان يعتَني بنفسه كما لو كانت زوجته على قَيد الحياة، فهكذا كانت ستُريدُه أن يفعل، ويقضي وقتًا طويلاً بالصلاة والتأمّل. لقد كان مِن الواضح أنّ علاقته بالله صارَت قويّة. وعندما كنتُ أتركُه لأعود إلى المدينة وإلى ذويّ، كنتُ أعلَم أنّني راجعة إلى مكان حيث الغضَب والحسَدَ والغيرة. فأمّي لَم تتقبّل رحيل أخيها، واعتبرَت الأمر بمثابة إهانة لها بعد أن نسيَت كَم مِن مرّة أهانَته هي، برفض زوجته ومِن ثمّ عزله عن باقي العائلة. والغضب الذي كان يسكنُ قلبها سبّبَ لها متاعب صحّيّة كثيرة، وكانت تقضي وقتها عند الأطبّاء وبتناول عدد لا يُحصى مِن الأدوية. حاولتُ مرّات عديدة تغيير رأيها بيوسف، إلا أنّها بقيَت تبخّ سمّها عليه.

ماتَت والدتي قبل خالي بسنين طويلة، مع أنّها كانت تصغره بأكثر مِن عشر سنوات. وبعد وفاتها، وافَقَ أبي أن أسكُن مع خالي. فأمّي كانت، للأسف، قد بسطَت سلطتها على البيت وعلى إرادَة أبي الذي كان شبه غائب بما يخصّ القرارات والمُبادرات.

إستقبلَني يوسف بفرَح، وعلّمَني كيف أقدّرُ الحياة ولحظاتها، وأعيشُ بسلام مع نفسي وكلّ ما يُحيطُ بي. كان ذلك الرجل قد استمدّ حكمته مِن حبّ سامية له ومِن حبّه لها، واستطاعَ أن يعيش ذلك الحبّ طوال ما تبقّى له أن يعيش، حتى لو كان ذلك مِن دون زوجته الحبيبة.

بعد سنة مِن مكوثي في بيت خالي، إضطرِرتُ لتركه بسبب توعّكَ صحّة أبي، لكنّني بقيتُ أزورُه باستمرار. أبي أيضًا ماتَ قبل يوسف، فالأعمار بيَد الله.

تزوّجتُ وانجبتُ وأخذتُ أولادي مرارًا إلى "جنّة خالي يوسف" كما أسمَيتُها، وهم أحبّوا ذلك العجوز اللطيف والهادئ والكريم. أجل الكريم، فهو تَرَكَ لي بيته وأرضه عندما راح أخيرًا ليلتقي بسامية التي انتظرَته وقتًا طويلاً وليُتابعا سويًّا قصّة حبّهما. لَم أبكِ خالي لأنّه عاشَ حياة مثاليّة ولأنّه الآن بالتأكيد سعيد مع نصفه الآخر، بل فرحتُ له وقلتُ لأولادي إنّ "جدّو يوسف" هو في السّماء الآن مع "تيتا سامية" وإنّهما يُريداننا أن نكون سعداء ونعيشَ حياة بسيطة مليئة بالحبّ. ولا يمرّ يوم مِن دون أن أصلّي لراحة خالي وزوجته، وأدعو الله أن يُعطيهما الراحة والسّعادة الأبديّة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button